وكلاء إيران وتفتيت العراق

عمرو حمزاوي

ها هي كارثة غزو الولايات المتحدة الأميركية للعراق وما أفضت إليه من استلاب إيراني للدولة الوطنية وتدخلات إيرانية سافرة عمقت من الانقسامات الطائفية والعرقية في المجتمع العراقي تصل إلى نتيجتها المحتومة.

غزت الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا العراق في 2003 فأسقطت ليس فقط نظام صدام حسين، بل قضت على مؤسسات الدولة الوطنية وتركت مهمة إنشاء مؤسسات جديدة لقوى طائفية وعرقية ومجموعات فاسدة لا يعنيها سوى السيطرة الكاملة على مفاصل البلاد والتحكم في ثرواتها والتربح منها.

بعض تلك القوى مزج بين السيطرة والتحكم والتربح وبين خدمة السيد الإيراني الذي تنامى دوره في بلاد الرافدين منذ 2003 وصار له وكلاء يخدمون مشروعه ويحمون مصالحه على حساب تماسك الدولة والمجتمع وعلى حساب الحق المشروع للمواطنين العراقيين في مكافحة الفساد والقضاء على العنف والوصول إلى التنمية المستدامة. البعض الآخر من تلك القوى مزج بين السيطرة والتحكم والتربح وبين نزوع للاستقلال عن كيان الدولة الوطنية والتأسيس لكيانات بديلة إن على أساس طائفي أو عرقي.

وإذا كانت القوى والميليشيات الشيعية المتحالفة مع مشروع ومصالح الجمهورية الاسلامية في إيران تقف ممثلة للصنف الأول من العاملين على تفتيت العراق، فإن القوى الكردية الفاعلة في الشمال رعت منذ سقوط نظام صدام حسين مشروعاً انفصالياً يتناقض عملاً  مع الوطنية العراقية ويستند إلى الهوية الكردية ويبحث عن الاستئثار بموارد الشمال الغني بالنفط وبموارد أخرى.

منذ 2003، وحكام إيران يوظفون تدخلاتهم في العراق في سبيل السعي إلى كسر الحصار الإقليمي والعالمي الذي طوقهم في أعقاب الثورة الإسلامية في 1979. نجح حكام إيران في استغلال الفراغ السياسي الذي أحدثه الغزو الأمريكي وانهيار مؤسسات نظام صدام حسين وتعثر بناء مؤسسات جديدة تثبت دعائم الدولة الوطنية وتضمن تماسك المجتمع، نجحوا في استغلال ذلك لفرض هيمنتهم تدريجيا على العراق. فعلوا ذلك متبعين سياستين رئيسيتين، من جهة تمويل وتسليح الميليشيات الشيعية التابعة لهم ودفعهم إلى التورط العسكري والعنيف في الصراعات الداخلية، ومن جهة أخرى معاداة كل القوى الوطنية العراقية التي لم تقبل الانصياع لإملاءات طهران كحركة الزعيم الوطني مقتدى الصدر.

منذ 2003، ووضعية الأزمة السياسية المستمرة في العراق تدلل على عجز قوى المجتمع عن التعامل السلمي-الحداثي مع تركيبته التعددية من خلال وسائط مؤسسية وبمضامين تسمح للسياسة بالوجود بما هي منافسة سلمية بشأن تحديد الصالح العام وممارسة توافقية لتحقيق ذلك الصالح العام تخضع للمساءلة والمحاسبة من قبل المواطنين.

كان يتعين أيضا أن تضمن ذات الوسائط المؤسسية حضور وتماسك الدولة الوطنية بما هي الأداة الرئيسية لتحقيق الصالح العام وصاحبة القدرة على ردع الخارجين عن شرطي المنافسة السلمية والتوافق من خلال احتكار الاستخدام المشروع للقوة الجبرية. لم تكن، إذا، الأزمة السياسية المستمرة في العراق سوى تعبير مباشر عن كارثة تفسخ ووهن مؤسسات الدولة الوطنية وكارثة عجز المجتمع عن ممارسة الديمقراطية والتوافق دون توظيف للعنف والسلاح وكذلك دون تدخلات خارجية سافرة.

منذ 2003، وميليشيات إيران في العراق تتعقب القوى المستقلة وترفع في وجه السياسيين ورجال الدين المهمومين بإنقاذ تماسك الدولة والمجتمع أسلحة التعقب والقمع والعنف الموجه والاغتيالات. بل لم تتورع ميليشيات الحشد الشعبي عن اغتيال مواطنين شاركوا في فعاليات الحراك المناهض للطائفية في 2019 و2020.

واليوم، وبعد أن تحايلت ميليشيات إيران لتجريد الانتصار الانتخابي لمقتدى الصدر من الفاعلية السياسية وحالت بينه وبين تشكيل حكومة ائتلافية ودفعته إلى الانسحاب التدريجي من العملية السياسية الرسمية عبر إعلان استقالة نواب حركته ثم الإعلان عن مغادرة الحياة السياسية برمتها، اليوم دفعت تلك الميليشيات بالعراق إلى أتون أزمة كبرى جوهرها انهيار العملية السياسية وتعطيل كافة مؤسسات الدولة الوطنية برلمانا وحكومة ومؤسسة قضائية.

اليوم، وكما شددت بعثة الأمم المتحدة العاملة في العراق، بات مصير الدولة الوطنية ومصير تماسك المجتمع على المحك. والمأساة هي أن الميليشيات الشيعية وقياداتها كالمالكي وغيره ومكوناتها المسلحة كالحشد الشعبي لا يعنيهم مصير العراق ولا حقوق مواطنيه. يعنيهم فقط إطالة أمد السيطرة الإيرانية وخدمة مشروعها للسيطرة على نقاط عديدة في الشرق الأوسط من العراق وسوريا ولبنان إلى اليمن.

كاتب من مصر

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى