كابوس!

سمير صالحة

وجهت القيادة السياسية التركية أكثر من رسالة في الآونة الاخيرة حول رغبتها في محاورة النظام السوري في دمشق والانفتاح عليه. هل من الممكن الربط بين هذه الرسائل وبين تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأخيرة حول “إننا لا نكن العداء لأي دولة وهدفنا هو إقامة حزام سلام وتعاون مع محيطنا بدءا من دول الجوار”؟ وهل من الممكن القول إن إصرار أنقرة على تنفيذ عمليتها العسكرية الخامسة في شمالي سوريا هدفه هو فتح الطريق أمام تكريس هذا الطرح الذي تعيقه بعض العواصم والدول؟ وهل هدف الرئيس التركي هو إخراج بلاده من وضعية الجلوس بين العصا الأميركية والجزرة الروسية في شمالي سوريا رغم معرفته أن التطبيع مع الأسد سيرضي بوتين ويغضب بايدن؟

تحولت تركيا إلى الدولة الأكثر تضررا في ملف الأزمة السورية بعد الشعب السوري وما تكبده من خسائر وأعباء، بعدما كان البعض يتطلع إلى الإمساك بأوراق المشهد السياسي والأمني والاقتصادي هناك. هل المشكلة هي في التقدير والحسابات أم في لجوء النظام إلى موسكو وطهران ليدافعا عنه في وجه مخطط إسقاطه وإزاحته عن الحكم؟

اختارت تركيا التنسيق مع الجانبين الروسي والإيراني في سوريا منذ 5 سنوات تحديدا، بعدما تراجعت تفاهماتها مع أميركا هناك بسبب تمسك واشنطن بلعب ورقة “قوات سوريا الديمقراطية” التي تعتبرها تركيا امتداداً لحزب العمال الكردستاني الإرهابي. وصل التباعد اليوم إلى دعوات البيت الابيض أنقرة للإبقاء على خطوط وقف إطلاق النار الراهنة في سوريا، والالتزام بالبيان المشترك الصادر عن البلدين في تشرين الأول 2019، و”نحن ندرك المخاوف الأمنية المشروعة لتركيا على حدودها الجنوبية، لكن أي هجوم جديد سيزيد من تقويض الاستقرار الإقليمي ويعرض أرواح القوات الأميركية المنضوية في حملة التحالف ضد تنظيم داعش للخطر”.

لم يتأخر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالرد موجها قذائفه ومن العيار الثقيل “على أميركا سحب قواتها فورا من سوريا لأنها هي كانت أول من دعم الإرهاب هناك وهي مستمرة في سياستها هذه”.

قرار أنقرة الانفتاح الدبلوماسي والسياسي على النظام في دمشق باعد أكثر بين تركيا وأميركا. وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو يقول “سوريا تحتاج إلى التطهير من الإرهابيين… الناس بحاجة للعودة”. لكن ذلك لا يعني حسب الوزير التركي أن لقاء قد يتم بين أردوغان والأسد في قمة شنغهاي المرتقبة فالأخير ليس مدعوا إلى هناك أساسا.

يقول أردوغان “كلنا في سفينة واحدة”. الرسالة هي للداخل التركي وقبل 9 أشهر من الذهاب إلى الصناديق. المشهد السياسي التركي بعد أقل من عام سيغير في الكثير من مواقف وقرارات أنقرة وطبيعة تحالفاتها وخياراتها في التعامل مع ملفات إقليمية عديدة. وسياسة تركيا السورية سيكون لها الأولوية. وأنقرة تعرف تماما أن المواجهة الأميركية الروسية حول من يكسب تركيا أهم بكثير من مواجهتهما في سوريا، خصوصا وأن تاريخ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرر في حزيران القادم يقترب أكثر فأكثر. لكن الرئيس الأميركي جو بايدن ما زال على موقفه المعلن حيال حزب العدالة والتنمية وضرورة إزاحته عن السلطة ولم يتراجع أو يعتذر. والرئيس الروسي يعتبر أردوغان حليفه وشريكه الإقليمي الأول بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا وحاجة موسكو لفك عزلتها الغربية عبر الجغرافيا التركية. الكفة تميل إذن لصالح بوتين في كسب أنقرة إلى جانبه سورياً وإقليمياً.

واشنطن وموسكو يستعدان لعملية تموضع إقليمي جديد مركزه تركيا. الإدارة الأميركية لا تهتم كثيرا بمواصلة سياسة العصا والجزرة مع حزب العدالة وكشفت عن الكثير من الأوراق التي تغضب الأتراك في المنطقة. وموسكو لم يعد يهمها إمساك العصا من الوسط مع تركيا وهي ستقدم الكثير لأردوغان وحزبه إذا ما نجحا في الانتخابات ما بعد أشهر. المرحلة المقبلة في سياسة تركيا السورية أهم بكثير من الوضع القائم اليوم وتصفير المشاكل التركية مع أميركا ليست بين أولويات حزب العدالة فهي ليست بين دول الجوار. نفذت القوات الأميركية هجمات انتقامية ضد ميليشيات إيرانية في شرقي سوريا. التوتر الأميركي التركي لن يصل طبعا إلى وضعية مشابهة لكن موسكو ستبذل جهودا إضافية للإيقاع بين أنقرة وواشنطن وتضييق الخناق على قرارات وخطوات المعارضة التركية في سوريا منذ الآن في حال فوزها بالانتخابات.

جدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تمسك بلاده بقرار العملية العسكرية التركية في شرقي الفرات “لتبديد مخاوفنا المتعلقة بأمننا القومي وإبعاد المجموعات الإرهابية عن الحدود التركية لمسافة 30 كلم”. أردوغان لا يتوقف عند هذا الحد. “لن تخيفنا أصابع البعض المرفوعة في الهواء” الربط بين هذه الأصابع وبين “يجب على القوات الأميركية أن تغادر مناطق شرقي الفرات” لا مفر منه إذن.

تقول الأعراف الدبلوماسية ولغة التفاوض إنه لا شروط مسبقة تقدم للطرف الآخر في الطريق إلى طاولة الحوار. المطالب تبدأ بعد الجلوس وانطلاق المحادثات. في الشق التركي الأهداف شبه واضحة عند انطلاق عملية محاورة النظام في دمشق. المقلق هو ما الذي سيقوله الوفد السوري المفاوض الذي بدأ باكرا الترويج لمطالب بلا سقف وحدود يتقدمها شرط الانسحاب العسكري التركي من شمالي سوريا وتسهيل سيطرة قوات النظام على كافة المعابر الحدودية السورية وإنهاء أنقرة للوضع القائم في إدلب. القناعة السياسية في الداخل التركي هي أن الحكم والمعارضة سيتنافسان خلال الحملات الانتخابية على من يقنع المواطن بطروحات التغيير في الملف السوري وإعطاء بشار الأسد ما يريد. لكن التحول الحقيقي في المواقف والسياسات سيكون أكثر راديكالية في الملفات الإقليمية المرتبطة بسوريا والتركيز سيكون على علاقة السلطة السياسية التركية ابتداء من الصيف المقبل مع اللاعبين الأميركي والروسي.

تلتقي قناعة غالبية الأتراك اليوم عند ضرورة الانفتاح على النظام في دمشق ومحاورته لتخفيف ارتدادات الملف السوري على تركيا. المشكلة هي ليست مع أحزاب المعارضة التي قالت أكثر من مرة إنها ستفعل ذلك، بل مع حزب العدالة الذي يريد انفتاحا سياسيا محدودا حيال النظام في سوريا قبل الانتخابات، وأن يقنع الناخب التركي أن التنفيذ الحقيقي سيبدأ بعد شهر حزيران المقبل. نجاح الحزب الحاكم في تجاوز عقبة صناديق حزيران أهم بكثير مما سيفعله مع بشار الأسد، لأن المعركة بالنسبة لأردوغان هي مع المتآمرين عليه وعلى حزبه في الغرف الخلفية للبيت الأبيض. أنقرة قالت قبل عقد إنه على الأسد الرحيل وها هي تستعد لمفاوضته اليوم، وواشنطن تردد منذ 3 أعوام أنه على حزب العدالة المغادرة وهي لم تعدل في موقفها. فلماذا تبخل موسكو بتقديم كل ما تستطيع لأنقرة وسط معادلة مغرية ومربحة من هذا النوع؟

أعلن وزير الخارجية التركي بعد لقائه بوفد ضم قيادات في الائتلاف السوري قبل أيام، أن بلاده تدعم المعارضة السورية في العملية السياسية وفق قرار مجلس الأمن الدولي 2254. إشارة سياسية مهمة لكنها غير كافية في مثل هذه الظروف التي يواكبها الكثير من المواقف والتحولات في سياسة تركيا السورية.

يذكر أردوغان الأتراك أن الجميع في قارب واحد وهو في الطريق إلى انتخابات تقترب وهو من حقه أن يفعل ذلك. كنا قبل سنوات نقول لقوى المعارضة السورية إننا في قارب واحد أيضا. هل ما زلنا على مواقفنا وهل سنتمسك بهذه المواقف ليلة الإعلان عن نتائج الانتخابات التركية في الصيف المقبل؟

الكابوس هو الأحلام المفزعة التي يراها النائم في منامه. يستيقظ فجأة في حالة من الهلع الشديد ونبضات قلبه في الذروة. تفسير الأسباب العلمي كثير مثل الإجهاد والأرق ووجبة الطعام الدسمة، أو الصدمات النفسية التي يتعرض لها الشخص في حياته اليومية.

قوى المعارضة السورية تستعد حتما لأكثر من سيناريو واحتمال آخره انتظار أن يتراجع الأتراك عن قرار الانفتاح على دمشق، أو إقناع أنقرة بصعوبة المراهنة على نجاح المفاوضات مع النظام وحتمية وصولها إلى طريق مسدود. الكابوس الحقيقي لقوى المعارضة السورية هو أن غالبية قيادات حزب العدالة هي التي تريد التسوية السياسية مع النظام في سوريا أكثر من أحزاب المعارضة التركية. من سينجح في إقناع الناخب التركي بخططه حول التغيير القادم في سياسة تركيا السورية مسألة ستتوضح بعد أشهر. كيف تستعد المعارضة السورية هو ما لا نعرف عنه الكثير؟

المصدر: موقع تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى