عمل الروس، منذ اليوم الأول لانطلاقة الثورة السورية، على دعم النظام السوري ومساندته، والحيلولة دون سقوطه. وقد تقاطع موقفهم ذاك مع مشروع النظام الإيراني في سورية، والذي هو في الأساس جزء من مشروعه التوسعي العام في المنطقة، سواء في العراق أم في اليمن، وحتى دول الخليج، هذا ناهيك عن لبنان الذي بات بمثابة محافظة إيرانية، مع قسط من الحكم الذاتي الشكلي الذي يراعي خصوصية البلد. وقد راهن الرئيس الروسي، بوتين، على اتخاذ ورقة سورية بوابة العودة إلى نادي القوى العظمى في عالم السياسة الدولية.
ويبدو أن التوجه الروسي هذا قد تقاطع، إلى حد كبير، مع التقديرات الإسرائيلية لتطورات الأوضاع في سورية وتفاعلاتها، فليس سراً أن النظام السوري قد أثبت، منذ توقيعه على اتفاقية فك الارتباط مع إسرائيل، في 31 مايو/ أيار 1974، وهي الاتفاقية التي صاغها، وأشرف على تنفيذها وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، لإسرائيل أنه “العدو” الأكثر ضماناً ومصداقية بالنسبة لها، والأكثر قدرة على تضليل السوريين، وتفريغ شحناتهم العاطفية الوطنية بشعاراتٍ كبرى ديماغوجية، أثبتت الوقائع أنها كانت أصلاً من “عدّة الشغل”، وهي الشعارات التي ما زال النظام السوري يردّدها، وكذلك يفعل راعيه الإيراني، والمليشيات المرتبطة بهذا الأخير، سواء في لبنان أم العراق.
أمدّ الروس نظام بشار بالأسلحة والذخائر، وقاموا بتغطيته في مجلس الأمن، واستخدموا حق النقض (الفيتو) في تعطيل جميع القرارات التي كانت لصالح الشعب السوري. وجميعنا يتذكّر كيف كان الثنائي الروسي – الصيني يستخدم “الفيتو” المزدوج، حتى لا تقف روسيا وحيدة مكشوفة أخلاقياً، وحتى قانونياً، أمام الرأي العام العالمي الذي تعاطف، في بدايات الثورة، بقوة مع تطلعات الشعب السوري المشروعة.
وجاءت الفرصة الذهبية لبوتين، حين تم التوافق بينه وبين الرئيس الأميركي في حينه، أوباما، على دخول القوات الروسية لمساندة النظام، بذريعة محاربة الإرهاب الداعشي والقاعدي؛ وذلك بعد أن وصلت كل الجهود الإيرانية الداعمة لبشار ونظامه إلى حافّة الهاوية، وكان سقوط النظام المعني هو السيناريو الأكثر تداولاً في ذلك الحين. ودخل الجيش الروسي في خريف 2015، وتم التوافق بينهم وبين الأميركيين على أن يكون ميدان عملياتهم المنطقة الغربية الممتدة من درعا جنوباً حتى الحدود التركية – السورية شمالاً، على أن يكون نهر الفرات الحد الفاصل بينهم وبين الأميركيين. هذا مع بعض الاستثناءات التي تم التفاهم حولها عبر التوافق على قواعد التنسيق، والتعامل مع الإشكالات والتجاوزات الثانوية.
وكان شعار مقارعة إرهاب القوى الإسلاموية المتطرّفة الجامع بين العمليات الروسية في شمال غربي سورية، والأميركية في شمالها الشرقي. وكان التركيز الأميركي على “داعش” في محافظات الرقة ودير الزور والحسكة، في حين تركّزت هجمات الروس الجوية العنيفة على كل الفصائل، ما عدا جبهة النصرة التي قالوا إنهم قد جاءوا أصلاً لمحاربتها. وهي الجهة ذاتها التي توافقت مع النظام في الأيام الأخيرة تحت اسم هيئة تحرير الشام، على فتح المعبر التجاري. وكان الروس في عجلة من أمرهم، فقد كانوا يسعون إلى تسجيل نقاط رخيصة في أقل وقت ممكن، لصرفها لاحقاً عند الجانب الأميركي الذي يظل، على الرغم من كل تعقيدات الوضع، وكل الحديث الجاري عن عدم تركيز أميركي على الموضوع السوري، الطرف الذي سيضع، في نهاية المطاف، لمساته الأخيرة على أي توافق دولي يتم بشأن سورية، وذلك باعتباره يمتلك الإمكانات والأوراق، ووسائل التهديد والترغيب، ما لا يمتلكه الآخرون.
اليوم وبعد مرور خمسة أعوام على التدخل الروسي، يلاحَظ أن الوجود الروسي في سورية بات متجذّراً مؤثراً، له ثقل واضح في الجيش والمخابرات، حتى إن حميميم باتت تذكّر بعنجر اللبنانية، هذا فضلا عن تحكّم الروس في الموانئ والتنقيب عن النفط والغاز، وهم يتطلعون نحو المزيد. وعلى الرغم من جميع محاولات الروس، بكل الأساليب، ترويج فكرة نهاية الصراع في سورية، والتوجه نحو الحل، وذلك بتسويق موضوع عودة اللاجئين، وإعادة الإعمار، وفرض دستور يكون أساساً للانتخابات، وذلك بالتوافق مع الجانب الأميركي. ما زالت الأوضاع في سورية تتجه نحو مزيد من التعقيد، خصوصا بعد المتغيرات في كل من لبنان والعراق، وذلك نتيجة الغضب الشعبي العارم من تراكمات الفساد والإفساد التي باتت من معالم التدخل الإيراني في البلدين، وبلدان المنطقة بصورة عامة.
واليوم تروج الحكومة الروسية، عبر الدوائر الإعلامية أو البحثية المرتبطة بها، أن بشار الأسد غير قادر على حكم سورية مجدّداً، كما كان يفعل قبل مارس/ آذار 2011. وما نعتقده، في هذا المجال، أن هذا الموقف لا يحمل جديداً، بقدر ما يعكس استعداداً روسياً لتطوير مستوى التفاهم مع الأميركيين نحو اعتماد مخرجٍ يضمن المصالح، ويحول دون الاستنزاف، خصوصا في أجواء جائحة كورونا، وأزمة أسعار النفط، واحتمالات الحرب الاقتصادية المفتوحة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية. وهذا ما يستشف من مقابلة المبعوث الأميركي الخاص بسورية، جيمس جيفري، أخيرا مع صحيفة الشرق الأوسط، فالروس على قناعةٍ، منذ سنوات، باستحالة تمكّن نظام بشار من العودة إلى حكم سورية، كما كان يفعل في السابق. واليوم تترسخ قناعتهم هذه، بعد أن تغيرت سورية كثيراً نتيجة تهجير أكثر من نصف السكان، وقتل ما يزيد على المليون سوري، هذا فضلاً عن تدمير المدن والبلدات، وانهيار الاقتصاد، وتآكل البنية التحتية، والمشكلات الكبرى التي تعاني منها المؤسسات التعليمية والصحية، والقطاعات الخدمية. والأخطر من ذلك كله الجروح الكبرى التي يعاني منها النسيج المجتمعي الوطني. وإذا أخذنا بعين الاعتبار واقع ومآلات المشكلات الكبرى التي تعاني منها اقتصادات الدول الغنية، خصوصا التي كان الروس يتطلعون إلى استخدام أموالها في مشاريع إعادة الإعمار.
تريد روسيا صيغة من التوافق مع الأميركيين حول توليفة حكومية، تمثل الموالاة والمعارضة. أما مصير بشار نفسه، فهو لم يعد يهمها كثيراً، ما دامت مصالحها في مأمن. وفي هذا، تختلف عن النظام الإيراني الذي يعتبر استمرارية بشار ركيزة لتمكّنه من تحقيق مشروع الهندسة المذهبية الذي يعمل عليه منذ عقود، وهو المشروع الذي يعد المحور الذي يتمفصل حول مشروعه التوسعي الأكبر في المنطقة. ولكن الموقف المتشدد لإدارة الرئيس الأميركي، ترامب، تجاه هذا المشروع، أقله وفق ما هو معلن حتى الآن، قد دفع النظام المعني إلى مراجعة حساباته، خصوصا في العراق الذي من الواضح أنه يحظى بأهمية أكبر في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة مقارنة مع سورية. هذا مع الحرص على الربط بين الملفين، نتيجة التداخل السكاني بين البلدين، وبفعل تكامل الدور الإيراني فيهما.
وبناء على ذلك، يُعتقد أن التوافق على مشروع حل ما في سورية لن يكون بمعزل عن توافق مماثل بالنسبة إلى الملف العراقي، أو ربما بعده. أما الملف اللبناني، فسيكون مجرّد تحصيل حاصل في حال بلورة حل ما في كل من سورية والعراق. وفي جميع الأحوال، لا تبدو في الأفق المنظور أية مؤشرات فعلية لخطوات تنفيذية، وإنما هي مجرد أفكار وتصورات تطرح، انتظاراً لانتهاء محنة كورونا، وظهور نتائج الانتخابات الأميركية. وبالنسبة إلى السوريين، هم في انتظار التوافقات الدولية والإقليمية، بعد أن وصلوا إلى قناعة تامة بخروج زمام المبادرات الخاصة برسم ملامح مستقبل سورية والسوريين من يد النظام ومؤسسات المعارضة الرسمية.
وما يعقد الوضع أكثر سورياً، ويجعل معادلته مستعصية، انعدام وجود القوى الوطنية السياسية القوية القادرة على تمثيل السوريين، والدفاع عن مطالبهم بحكمة وحنكة، أساسهما مشروع وطني، يطمئن الجميع على قاعدة احترام الحقوق والخصوصيات. وعلى الرغم من أكثر من تحرّك في أكثر من اتجاه، لم تظهر بعد، بكل أسف، قوى سياسية سورية حقيقية ذات مصداقية، تستمد مشروعيتها من إرادة السوريين، لا من الدول التي تظل أولوياتها مبنية على حساباتها ومصالحها العارية.
المصدر: العربي الجديد