العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية غالبًا ما تنشأ في إطار عملية تحول أو انتقال، إما من الحرب الى السلم , وإما من حكم تسلطي إلى حكم ديمقراطي , أو عقب نزاعات مسلحة دولية أو اقليمية أو محلية , وكمعالجة لآثار ما تخلفه تلك الحروب من تجاوزات ومن انتهاكات الأنظمة على حقوق الإنسان . وبدخول الصراع السوري عامه الحادي عشر , الذي بدأ بمظاهرات سلمية احتجاجية مطالبةً بالإصلاح في بنية الدولة وأجهزتها القائمة على الفساد والاستبداد والاستئثار بالثروة والسلطة , والدعوة الى مجتمع ديمقراطي تعددي تداولي تحت سقف الوطن الواحد وضمن شعار ” واحد .. واحد .. الشعب السوري واحد ” . ونتيجة للعنف المضاد الذي وجهت به الحركة الاحتجاجية السلمية تحولت بالتدريج الى العسكرة تدخلت أطراف اقليمية ودولية في دعم طرفي النزاع لإذكاء الاحتراب الداخلي وفقا لأجندات متعددة ومتصادمة حولت الوطن إلى كرة نار ملتهبة أحرقت الأخضر واليابس , ليصل عدد القتلى مئات الآلاف والمهجرين بالملايين هذا عدا المفقودين والمغيبين قسريا , وتحويل الصراع إلى حرب بالوكالة عصفت بالبلاد خدمة لمصالح دولية وإقليمية منذرة بتشظي المجتمع وتحول الصراع في كل لحظة إلى صراع دولي مباشر تتفاعل معطياته على الأرض السورية .
ولقد أصبح جليا من مسار الحرب وتفاعلاتها أن إرادة القوى الفاعلة عملت ولا زالت تعمل على اطالة أمد الصراع ومنع انتصار طرف على آخر , وان الحل السياسي هو المخرج الوحيد لوقف الصراع المتصاعد , وبان الانتقال السياسي عبر القرارات الدولية هو المظلة التي يمكن أن تحد أو توقف شلالات الدم والدمار , وتمنع تقسيم الوطن , والانقسام في النسيج الاجتماعي بالمجتمع , وتهيئ الارضية لمرحلة انتقالية ترسي دعائم الانتقال من الاستبداد الشمولي الى العدالة الانتقالية تمهيداً لتأسيس سورية المستقبل لجميع ابنائها .
ولا شك بان تطبيق العدالة الانتقالية لا يمكن أن يتم إلا بعد توقف القتال وأعمال العنف , كما أنه لا يمكن ان تتم المصالحة الوطنية دون توافق وطني عبر حوار وطني شامل حول حقيقة النزاع وآليات الانتقال السياسي ومرتكزاته وإصلاح بنية الدولة ومرجعياتها , والرؤية الواقعية للعدالة الانتقالية تجنيبا للمجتمع السوري من عمليات الانتقام أو الثأر أو كل ما يغذي عوامل الكراهية والحقد , ومنعا لوقوع جرائم جديدة في المستقبل . ويجب ان يدرك الجميع معارضة وموالاة ان الحوار والتفاوض بشأن التحول الديمقراطي هو الضمان لعدم تعرضهم وتعرض الوطن للعنف بالمستقبل , وان يدرك الجميع أيضا ان تأسيس مستقبل سورية يتعلق بقدرتهم على تجاوز الماضي ودخول الجميع في شراكة وطنية حقيقية تبعد شبح الماضي ولا تنساه , وتجري التسويات والمصالحات , ولا تلغي الذاكرة الجمعية للجرائم والانتهاكات الحاصلة التي ينبغي توثيقها وأرشفتها وتخليد ذكرى ضحاياها .
ومن هنا فإن تطبيق العدالة الانتقالية في سورية يجب ان يتجه الى المحددات المعيارية التالية :
1- إن تطبيق العدالة الانتقالية يجب ان يأخذ دلالات ونتائج ما آلت إليه الأوضاع في سورية واختلال التوازن بين طرفي الصراع على الأرض , اذ ان القصاص من جميع مرتكبي الجرائم والفظاعات من طرفي النزاع أمر غير واقعي نظرا لضخامة عدد المرتكبين من جهة , ولان هؤلاء الأشخاص وكياناتهم ومؤسساتهم ستعمل على إفشال تطبيق العدالة الانتقالية وتقف عقبة كأداء في نسف جهود قيامها , وقبل ذلك نسف كل الجهود للوصول الى حل سياسي توافقي ينهي مأساة الحرب والاحتراب القائمة , وقد يتحولون بدافع الخوف من أن يطالهم القصاص العادل الى قنابل موقوته يعمدون إلى تفجيرها لإعادة إنتاج الصراع بأشكال متعددة مرة ثانية . وبالتالي فإن الاحتكام للقانون بأثر رجعي لمحاسبة جميع مرتكبي الانتهاكات قد يكون له نتائج كارثية لا يمكن التنبؤ بمخاطرها وآثارها ومآلاتها .
2- أولوية المصالحة الوطنية في تطبيق العدالة الانتقالية , فسنوات الحرب الطويلة خلفت جروحا عميقة في وجدان المجتمع السوري , وأحدثت شروخا في النسيج الوطني , ووضعت الأفراد والكيانات في مواجهة عدائية بين مؤيد ومعارض . فتنامت الأحقاد ودوافع الانتقام والثأر , مما يقتضي تشكيل هيئة عليا مستقلة للإنصاف والمصالحة تضم ممثلين عن جميع القطاعات المجتمعية ( قضائية , قانونية , أكاديمية , إعلامية , أمنية وعسكرية , صحية , مجتمع مدني .. ) لها شخصيتها الاعتبارية واستقلالها الإداري والمالي , والسعي لإعادة بناء الثقة وضمان مشاركة جميع التكوينات الاثنية والدينية والمذهبية من أبناء الشعب السوري , وضمان حقوقهم المشروعة ضمن إطار الهوية الوطنية الجامعة .
3- إن تطبيق العدالة الانتقالية يحتاج لسنوات يتم عبرها بناء مؤسسات العدالة الانتقالية , بإحداث هيئة قضائية مستقلة تتولى النظر بالانتهاكات الجسيمة بعد إجراء عملية إصلاح قضائي شاملة بما يضمن الكفاءة والنزاهة والعدل , وإنشاء لجان لتقصي الحقائق بشأن الانتهاكات وكشفها للرأي العام , وخاصة الجرائم أو المجازر الجماعية التي تعتبر جرائم ضد الانسانية وإحالة مرتكبي تلك الانتهاكات إلى الهيئة القضائية الجنائية , ورفع الدعاوى بمواجهة المتورطين بالجرائم المختلفة وجرائم الحرب من الأجانب ومن كافة الجنسيات بطلب محاكمتهم أمام المحاكم الدولية . وهذا يتطلب إشراك الضحايا والاستماع لهم , وإنشاء مكتب خاص لتوثيق كافة مراحل الانتهاكات , وإحداث صندوق التعويض وجبر ضرر المتضررين من ذوي الضحايا والجرحى بوجه خاص .
4- الإقرار بمدنية الدولة السورية والحفاظ على مؤسساتها وإصلاحها , وإعادة تشكيل المؤسسات الأمنية والعسكرية , وضمان خضوعها للسلطة المدنية , بما يضمن احترام سيادة القانون , وحقوق الانسان , والحريات العامة , وعدم التمييز , والمساواة في الحقوق على أساس المواطنة المتساوية والعيش المشترك لجميع تكوينات الشعب السوري , وإطلاق العمل الحزبي وإغلاق قاعدة الحظر السياسي , وتوسيع دور الجمعيات والمنظمات المدنية ومؤسساتها وإخراجها من تبعيتها للأجهزة الحكومية نظراً لأهمية الدور الذي يمكن ان تلعبه هذه المنظمات في رصد الانتهاكات ومتابعتها وتزويد لجان تقصي الحقائق بالمعلومات والبيانات الداعمة لعملها .
5- التأكيد على وجود ترابط بين العدالة الانتقالية والتحول إلى الدولة الديمقراطية , وهذا يتطلب وجود إرادة سياسية للانتقال السياسي مقدمة لابد منها لتطبيق العدالة الانتقالية , بما يسمح بتعزيز دولة المؤسسات , وترسيخ سيادة القانون , وتجاوز سلبيات الماضي وإكراهاته , ومعالجة آثار الحرب ومخلفاتها وانعكاسها على التنوع المجتمعي القومي والديني , والاحتكام الى العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين الجميع بعيدا عن المحسوبيات والامتيازات الخاصة , وفي جو من الحريات الدستورية والقانونية .
على أن تطبيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية يكتنفها العديد من المعوقات ينبغي العمل على تجاوزها . وأهم هذه المعوقات :
1- عدم وجود إرادة دولية لوضع حد للنزاع السوري بعد تدويله وخروجه عن إرادة طرفيه . إذ لابد من انتقال سياسي آمن يوفر الأرضية الملائمة لتطبيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية , وتوفر الإرادة الوطنية السياسية لطرفي النزاع بالدخول في عملية توافق سياسي يتحدد من خلاله المرجعيات اللازمة التي ستستند إليها آليات العدالة والمصالحة المجتمعية .
2- عدم وجود الثقة بين المعارضة والنظام , اذ سيحاول كل منهما ( وخاصة الأطراف العسكرية والأمنية في كل منهما ) عبر أشخاصهم وكياناتهم نسف جهود العدالة الانتقالية نظرا لتورط الجميع بالانتهاكات سواء بالاعتقال أو الاحتجاز غير القانوني أو القتل خارج القانون .
3- إشكالية الدستور الحالي كمرجعية دستورية للبلاد , والأخطر إشكالية ما يطرح من دساتير مفروضة من القوى الدولية الفاعلة في الملف السوري التي تعمل على ترسيخ مخططات التقسيم وتثبيت نفوذ القوى الإقليمية والدولية على الأرض السورية وإدخال البلاد في دوامة الصراعات البينية .
4- عدم وجود مرجعية قانونية موثوقة التي ستحكم عمل المحاكم ولجان الحقيقة , إضافة إلى فساد الجهاز القضائي وترهله .
5- تعدد المعارضة وتشرذمها وعدم وجود بيئة سياسية ملائمة لتجددها نتيجة الاستبداد السياسي الطويل الذي فرض تصحرا سياسيا في الحياة الوطنية العامة , وحول البقية الباقية من الأحزاب الى هياكل تفتقد الفعل والتأثير . إضافة إلى ضعف وهشاشة منظمات المجتمع المدني وخضوعها وتبعيتها للنظام والدوران في فلكه .
6- تصاعد العنف الى درجات غير مسبوقة وما رافقه وما يمكن ان يرافقه من حالات ثأر وانتقام وتعصب فئوي ومذهبي وإثني , ما قد يدخل الوطن في الفوضى والصراع الأهلي .
7- الفساد المعمم في بنية الدولة والمجتمع الذي أباح النهب العام العشوائي والمنظم , سيقف حجر عثرة في وجه أي عملية محاسبة أو مصالحة , وضد أي انتقال سياسي يعمل على ترسيخ مبادئ العدالة وإرساء نظام قانوني جديد بما يتصادم مع مصالح المافيات الاقتصادية والسياسية وأصحاب النفوذ والسلطة .
وفي كل الأحوال , فإن العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية ستفرض نفسها سواء بانتقال سياسي تفاوضي , أو حتى بانتصار ساحق لأحد أطراف النزاع . ولان عقارب الساعة لا يمكن ان تعود الى الوراء , فإنه لا يمكن إعادة الأوضاع في سورية الى ما كانت عليه قبل عام 2011 . إذ أن الأزمة السورية وبعد دخولها العام الحادي عشر من الكوارث العسكرية والاقتصادية والاجتماعية قد أحدثت متغيرات عميقة ومعقدة في تركيبة المجتمع وبنيته , وإن الهروب من تطبيق العدالة والمصالحة سيفتح الباب واسعا على حالات الانتقام والثأر , وحالات من العنف بمستويات وأساليب جديدة قد تدخل البلاد في صراع أهلي وفوضى لا يمكن التكهن بحدودها ومنتهاها .