لاقى الخبر الذي نشرته صحيفة «تركيا» المقربة من الحكم حول التوقعات بشأن تطبيع محتمل بين تركيا ونظام الأسد، صدى واسعاً في الصحف والمنابر الالكترونية العربية، مقابل اهتمام أقل في وسائل الإعلام التركية التي تعرف دوافع زميلتها وغاياتها. الواقع أن الصحيفة المذكورة لها سوابق في إطلاق تكهنات مماثلة، يمكن الافتراض أن الغاية منها تمهيد المناخ السيكولوجي في الرأي العام لتقبل تطورات مفاجئة من قبيل تحول خصومات الأمس إلى علاقات ودية وزيارات متبادلة ومصالح مشتركة. وغالباً ما تعتمد في صياغة أخبارها وتقاريرها على آراء «خبراء» مفترضين في الموضوع أو مصادر غير مذكورة بالاسم، ليضيع قارئ الخبر بين الوقائع والتخمينات والآراء والتكهنات، إضافة إلى دس معلومات لا أساس لها أو غير ذات صلة، كدس اسم الشاعر السوري أدونيس في الخبر الذي يدور حوله الحديث، بوصفه «العقل المرشد» لبشار الأسد وأبيه حافظ الأسد! سأعود إلى هذه النقطة لاحقاً.
بدأت التكهنات بشأن التطبيع المحتمل مع تصريح وزير الخارجية شاويش أوغلو الذي قال إن تركيا ستدعم نظام الأسد في أي حرب محتملة ضد الإرهابيين من قوات سوريا الديموقراطية. ثم تلتها تصريحات أردوغان للصحافيين المرافقين أثناء رحلة عودته من سوتشي حيث اجتمع مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فنقل عنه قوله إنه يفضّل أن تنسق تركيا مع النظام السوري في أي عمل عسكري داخل الأراضي السورية. وقال أردوغان في تعليقه على هذا الطلب إن الاتصالات قائمة فعلاً بين أجهزة الاستخبارات في البلدين، لكن العبرة هي في النتائج. يفهم مما نقله أردوغان عن بوتين أن الأخير ما زال رافضاً لأي عملية عسكرية تركية جديدة داخل الأراضي السورية، وأنه ربط موافقته بالتنسيق مع نظام الأسد. أما هل يؤدي ذلك إلى تطبيع العلاقات أم يقتصر على «مكافحة الإرهاب» بمفهومه التركي فهذا ما ترك للتكهنات. غير أن الصحيفة تحدثت عن مساعٍ أخرى للتطبيع تقوم بها «لجنة» مؤلفة من دولة عربية خليجية وأخرى أفريقية إسلامية لم تسمهما لنيل موافقة الطرفين على بدء صفحة جديدة في العلاقات المقطوعة بينهما منذ عشر سنوات، وأن هذا العمل بدأ بلا ضجيج بعد انتهاء قمة طهران الثلاثية.
وتسترسل الصحيفة في سرد الفوائد الجمة التي ستنتج عن هذا التطبيع المحتمل وأهمها، من وجهة نظر تركيا، القضاء على احتمال قيام «الدويلة غير الشرعية» (يقصد «الإدارة الذاتية الكردية») على الحدود الجنوبية لتركيا، والتخلص من عبء ملايين اللاجئين السوريين الموجودين على الأراضي التركية.
وفي هذا الشأن الأخير تكررت تصريحات لمسؤولين أتراك في الآونة الأخيرة تعد الناخب التركي بإعادة السوريين إلى بلادهم «إعادة طوعية» ومنهم وزير الدفاع خلوصي آكار ووزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل. الواقع لا يمكن تحقيق هذه الوعود بغير التنسيق مع روسيا ونظام الأسد كي لا تتحول تلك العودة إلى حمامات دم بقصف من طيران الأسد أو مدفعيته، الأمر الذي يفعله النظام باستمرار في محافظة إدلب التي تتوزع فيها نقاط عسكرية تركية بالعشرات، وكذلك في بعض مناطق ريف حلب التي تسيطر عليها مجموعات مسلحة تابعة لتركيا. وهنا تكمن نقطة القوة الوحيدة في خبر صحيفة «تركيا» فهي تنقل ما يبدو أنه يدور فعلاً في أروقة صنع القرار في انقرة من أفكار حول سوريا واللاجئين، والبدائل التي يمكن الاختيار من بينها بهدف الخروج بمبادرات من شانها استعادة الشعبية المتآكلة للحكومة على مرمى عشرة أشهر من انتخابات «مصيرية».
كل التعليقات والتحليلات التي تناولت مضمون خبر صحيفة «تركيا» ركزت على صعوبة التطبيع المفترض على القيادة التركية، والرئيس أردوغان بالذات، بسبب التراكم الكبير من العداء بينه وبين نظام بشار خلال السنوات العشر الأخيرة، ولم يهتم أحد بموقف النظام السوري المحتمل من مشروع التطبيع الذي يتم الحديث عنه، ربما بالنظر لأن النظام يعيش عزلة دولية وإقليمية شاملة، يستثنى منها فقط إيران وروسيا، وبسبب الأوضاع الكارثية التي تعاني منها مناطق سيطرته اقتصادياً واجتماعياً وخدمياً ومن كافة النواحي الحياتية. لكن احداً لم يفكر بالعنجهية الأسدية التي ستدفعه لرفض أي تطبيع مع القيادة التركية إلا مقابل ما لا يقل عن الانسحاب العسكري الكامل من الأراضي السورية، وربما يطالبها باعتذار وتعويضات مادية! لا نتحدث هنا عن عنجهية لها أساس يبررها، بل عنجهية مستمدة من قوة الاحتلال الروسي والدعم الميليشيوي الإيراني من جهة أولى، وموجهة إلى دعامته الاجتماعية التي ترى فيه «القائد الضرورة الذي لا ينحني ولا يستكين.».. أي أنها الصورة التي يتم بيعها للموالين مهما كانت قائمة على أساس هش. هذا ما نعرفه من سوابق النظام في «المصالحات» مع قادة عرب ولبنانيين خاصموه طوال سنوات ثم «جاءوا إليه» كما قدم إعلام النظام تلك المصالحات.
في عودة لموضوع أدونيس، يتمتع هذا الشاعر السوري بكتلة لا بأس بها من المعجبين بين المثقفين الأتراك، وقد ترجمت معظم أعماله الشعرية وكتبه الأخرى إلى اللغة التركية ونشرتها عدة دور نشر. وفي حزيران الماضي كان أدونيس ضيف شرف على مهرجان هوميروس الثقافي في دورته الأولى التي أقيمت في إحدى المدن في محافظة إزمير، وتم تكريمه بإحدى جوائزه. بعد أيام من هذا الحدث نشرت الكاتبة بيرين بيرسايغلي موت «رسالة مفتوحة» إلى أدونيس في صحيفة «يني شفق» المقربة من الحكومة، هاجمت فيه الشاعر على موقفه المشين من ثورة شعبه على نظام بشار الإجرامي، في نص مؤثر حقاً فضحت فيه انحياز الشاعر للنظام.
أما أن يتم ذكر أدونيس في معرض الجهود المبذولة للمصالحة بين القيادة التركية ونظام بشار فهذا ما لم يخطر في بال أشد كارهي أدونيس. وخاصة وصفه بأنه «عضو في المجلس الملي للعلويين» الذي زعمت الصحيفة التركية أن بشار الأسد لا يمكنه الخروج على توجيهاتها! من المحتمل أن الفقرة الخاصة بأدونيس من خبر الصحيفة التركية مستمدة بالكامل من رأي الرئيس السابق للمجلس التركماني في سوريا الذي استعانت بتحليلاته.
هذا الاستسهال في الدس يخفض كثيراً من قيمة الخبر ككل، وأقصى ما يمكن استخلاصه منه هو أن القيادة التركية منهمكة في طرح البدائل الممكنة للخروج بأقل الخسائر من المشكلة السورية.
المصدر: القدس العربي