في خريف العام 2014 كان عليّ أن أراقب الكيفية التي ينقضّ بها اللانظام العالمي الجديد الذي أخذت إدارة أوباما تبشّر به، زاعمةً أنها لا تنوي المضيّ في سياسة القطبية، وأن المستقبل لن يكون أمريكياً كما كان العالم يشكو باستمرار.
فالولايات المتحدة في انحسار تدريجي من الخرائط عائدة للاشتغال على إصلاح المؤسسات في الداخل وتلبية احتياجات المجتمع الأمريكي بَدْءاً من أوباما كير الصحي ووصولاً إلى بدائل الطاقة.
وباعتبار أن ما فينا يكفينا في الشرق، فقد بدا الأمر كما لو أن أمريكا تريد أن ترى نموذجاً مختلفاً للدولة التي عرفتها وعرفناها خلال القرن العشرين، نموذج يبدأ بهدم القوالب السابقة التي أثبتت فشلها، فلم تصل إلى التنمية ولا إلى الحريات ولا إلى ضمان الأمن في المنطقة ولا إلى تطويق الإرهاب والتطرف وطبعاً ليس إلى السلام مع الجيران المتخاصمين.
حينئذ كانت الدول العربية تهتز تحت ضربات مختلفة، فالشعوب تطلب حريتها، في حركة تحرُّر هذه المرة من الأنظمة المتواطئة مع الأسرة الدولية، لا من قوات احتلال أو انتداب كما كانت الحال بدايات القرن العشرين، والقوى المتطرفة تضرب بدورها مُصِرّةً على اقتطاع حصتها من الكعكة، وبين هؤلاء جميعاً كان كفاح الأنظمة الرسمية العربية للبقاء لا يعرف اليأس، والولايات المتحدة تدير اللعبة. وكان لا بُدّ من تفسير مَا تسمح به واشنطن، تدفُّق مقاتلي “داعش” واحتلالهم الجغرافيا العراقية والسورية، تدفُّق ميليشيات إيران وغزوها للبلدان العربية واحداً إثر الآخر مدينةً مدينةً وقريةً قريةً، ملايين اللاجئين في ظروف إنسانية صعبة، ملايين الباقين في ظروف أصعب، تدمير لا مثيل له للحواضر والمدن والأرياف تحت أنظار القانون الدولي، مجازر واعتقالات وفظائع، كل هذا كان يبدو كما لو كان مخاضاً لولادة نموذج جديد، فهل وُلد حقاً هذا الكائن من رحم كل تلك الآلام؟
وبقي مفهوم الدولة يلحّ أكثر، انطلاقاً من تعريفها الأولي “مجموعة من الأفراد يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد ويخضعون لنظام سياسي معين يتولى شؤون الدولة، وتشرف الدولة على أنشطة سياسية واقتصادية واجتماعية تهدف إلى تقدمها وازدهارها وتحسين مستوى حياة الأفراد فيها، وينقسم العالم إلى مجموعة كبيرة من الدول، وإنْ اختلفت أشكالها وأنظمة الحكم فيها”.
لم يكن ذلك الوصف ينطبق تماماً على الإطار الذي يضم الهُوِيَّة والمصالح والجغرافيا والتاريخ وغير ذلك من المركبات التي تصنع في النهاية مواطناً لدولة ما، فالشرق كان لا زال يدور في فلك السؤال عن الدولة ـ الأمة، التي ترمز إلى شعوب تجمعها اعتبارات مشتركة من أصول وتاريخ مشترك، بينما كنا حتى ذلك الحين، نعيش عصر الدول التي أصبحت تجسّد مؤسسات الحكم ذات السيادة على أراضٍ محددة وسكان محددين.
من الدولة الإلهية إلى اللادولة
الشرق لم يعرف النموذج المتطور من الدولة، وربما لم يعرفه بعدُ بشكله القابل للحياة، إذ بعد أن عاشت شعوب الشرق وعلى رأسها الأغلبية العربية كرعايا في ظل أنظمة حكم وراثية بدأت من صدر الإسلام وانتهاء الخلافة الراشدة، ثم تحوّلت إلى إمبراطوريات عائلية على مدى ألف وثلاثمئة عام، انتهت بالحرب العالمية الأولى، وسقوط الإمبراطورية العثمانية، وجدت شعوب الشرق نفسها بمواجهة مباشرة مع سؤال الدولة، وفي الوقت ذاته كان العالم القوي المنتصر، ممثلاً بالغرب الأوروبي لا يرى في هذه الشعوب مستوى معرفياً كافياً لتحقيق تلك الدولة التي يفهمها هو.
أما الغرب فبدوره يدعي أنه عرف الدولة وَفْق نظريات رافقت نشوءها، وهو يصنفها زمنياً على الشكل التالي، النظرية الإلهية: ويعتقد أصحاب هذه النظرية أن الدولة تعود نشأتها من الله، وأن الإنسان ليس عاملاً أساسياً في نشأتها وأن الإله هو الذي اختار لها حكاماً ليديروا شؤونها وشكلاً ومساراً وأهدافاً، ثم نظرية القوة: وترى أن الدولة نشأت من خلال سيطرة الأقوياء على الضعفاء، إذ إن كثيرا من المجموعات الحاكمة اعتمدت على القوة في الوصول إلى الحكم مستغلة خوف وقلق الأفراد من الحروب، ورغبتهم بالأمن والاستقرار وهي وسيلة في بناء الدولة وقوتها، وهي تتقاطع مع حاكمية المتغلب في الإسلام، ثم النظرية الطبيعية: وهي مبنية على طبيعة الإنسان الاجتماعية وحيث إن الإنسان لا يستطيع العيش منعزلاً عن غيره من الأفراد، فلا بُدّ من أن يتعاونوا من خلال تفاعُلاتهم الاجتماعية المختلفة ومن هنا رغبت الجماعات في أن تكون لها قيادة أو سلطة ومن ثمة دولة ذات سيادة وسلطة، وهي النموذج الملكي والوراثي البسيط، وأخيراً نظرية العَقْد الاجتماعي: وترى أن أفراد الشعب أجمعوا على قيام الدولة من خلال عَقْد اتفقت عليه مجموعة الأفراد، مع الحاكمين، حيث يتقبل الشعب حكم الدولة مقابل تلبيتها حاجات الناس الأمنية وتنسيق علاقاتهم مع بعض وقد نادى بهذه النظرية مفكرون، وكان على رأسهم جان جاك روسو، وهي دولة الإنسان التي تطورت إلى الدولة الديمقراطية الحالية في المركبات العالمية.
يزعم الغرب ومعه الأنظمة العربية التي اعترف بها، والتي يطيب له التعامل معها لا مع الشعوب، أنه لم يكن ممكناً تثبيت خارطة الشرق التي نتجت بعد سايكس بيكو سازانوف، إلا بحكّام ديكتاتوريين يحكمون بقبضة من حديد، فالوضع غير قابل لتركه بين أيدي الفوضويين، ويجب أن تكون السيطرة عليه دقيقة وإلا سينفجر.
العولمة حطّمت هذه القاعدة، وفي ظل تطوُّر عالم الاتصالات والتواصل والتكنولوجيا، أصبح البقاء خلف أسوار حديدية يديرها قادة ديكتاتوريون أمراً مستحيل التحقق.
من جهة أخرى كان شرط الأمن والاستقرار ما يزال مطلباً عالمياً مُلِحّاً فهو الذي يضمن تحقيق المصالح، لكنه سيرتطم مع السوق التي تتطلب المزيد من الحريات وفتح الأبواب للتنمية التي باتت حاجة خارجية ولم تَعُدْ محلية وحسب.
وكيف سيحدث هذا في ظلّ وجود محرّض فريد من نوعه وسط الدول العربية؛ وأعني إسرائيل. دولة غربية إلهية. فمعنى وجود إسرائيل ليس فقط معنى يصطدم بكل متطلبات العولمة، بل هو يرفض هذه العولمة ويغلق على ذاته الأبواب، إلا أنه يُؤثِّر أيضاً في مَن حوله من الشعوب، فيصبح من المستحيل إقامة نموذج آخر، والخيار الأسهل والأقرب إلى إمكانية التحقيق هو استنساخ النموذج الإسرائيلي.
إسرائيل دولة دينية (دولة يهودية) وَفْق القانون المحلي والقوى العظمى اعترفت بذلك رسمياً، ولا تمانع من تطبيقه. حسناً لكن نموذج الدولة الدينية محظور وممنوع في الشرق، لا سُنيَّة ولا شيعيَّة ولا سلفيَّة ولا من أي طراز.
كان “داعش” نموذجاً، وسبقه الولي الفقيه في إيران لتأسيس جمهورية دينية، الإسلام السياسي حاول شقّ طريقه في الشرق بعد النجاح التركي، لكن هذا النجاح كان مقروناً بما يفتقده الإسلام السياسي العربي، وهو الحسّ القومي، فتركيا بلا شعور قومي لا تستطيع جمع كلمة الأتراك، ولا يمكن لأكثر أحزابها بُعداً عن العنصرية إنكار حاجته إلى الخطاب القومي التركي، وهذا ما أراه طبيعياً.
غير الطبيعي هو الطلاق الذي تسبب به إرث الصراع ما بين الحركة القومية (زمن عبد الناصر وحافظ الأسد وبشار الأسد) والإخوان المسلمين، الأمر الذي جعلهم ينفرون كلياً من كل ما له علاقة بالعروبة، على الرغم من تحالُفهم التاريخي مع صدام حسين القومي العربي.
وجود الإخوان المسلمين في المشهد العربي ليس بلا تأثير، وهو يختلف كما هو معلوم عن تأثير بقية الأحزاب السياسية، فهم بصورة أو بأخرى يمثلون في نظر كثيرين، وجهة نظر الأغلبية من المسلمين السُّنة، حتى إن لم يكن الأمر كذلك، وإن لم يرغبوا هم بهذه المسؤولية، لكنها بقيت تلاحقهم منذ حسن البنا وحتى آخِر بيان أعلنوا فيه اليوم عن أنهم لا نية لديهم لاستمرار الصراع على السلطة في مصر مع نظام السيسي.
بتحطيم العلاقة مع الفكرة القومية العربية التي نجح إلى حدّ ما نظام بشار الأسد بتحقيقه بتحالُفه مع الإيرانيين، وابتذاله لكل مفاهيم العروبة والهُوِيَّة الثقافية العربية، بات الشعب السوري كنموذج قوي وساطع ومؤلم، في العرابة، فهو غير قابل للتماهي مع مشاريع الإسلام السياسي على إطلاقها، والأخيرة عاجزة عن تطوير ذاتها لخطاب جامع للكل، ومن جهة أخرى لم يَعُدْ لدى السوريين عصبية تجمعهم، وكيف ستنشأ الدولة بلا عصبية؟ عندها طرح البعض المواطنة كمن يخترع العجلة من جديد. لكن السؤال يكرّر ذاته مجدداً؛ كيف ستنشأ مواطنة من دون عصبية؟ العصبية بمعناها الطبيعي لا النُّعْرات ولا الغرائز.
في مكان آخر كانت العصبية تتطور، حتى شعوب الخليج العربي ودوله التي كانت ترفض فكرة الوطنية، باتت أكثر انغلاقاً بفعل بحثها عن العصبية المنشودة؛ لأنها الطريق الوحيد لنشوء الدول.
على مدى أقرب، كانت عصبيات أخرى تسير نحو التحول من مجرد مظلومية سياسية إلى مسألة عسكرية وتاريخية، تجسدها “قسد” التي تحارب على جبهتين على مستوى عصبيتها الكردية، الأولى مع تركيا التي تراها كما يقول غُلاة القوميين الأكراد في حزب العمال الكردستاني ”إسرائيل الكرد“، ومن جهة أخرى مع العرب السوريين الذين حمَلوا جريرة اضطهاد النظام السوري للكرد، فبات الانتقام منهم ومن هُوِيَّتهم وتجريف قراهم ومناطقهم ونهب ثرواتهم هو السبيل الوحيد لتعزيز العصبية الكردية الصاعدة، ولم يكن حزب العمال الكردستاني الذي يحتل المحافظات السورية الشرقية الثلاث الرقة ودير الزور والحسكة يمانع من التعامل مع الإسرائيليين ويستضيفهم في القامشلي جهاراً نهاراً، في الوقت الذي يبيع بندقيته للأمريكي والروسي وأخيراً للنظام السوري ذاته. فظهر كيان كردي قائم على تزييف التاريخ وادّعاء أن سورية بها كردستان غربية، وهذا ما ينكره ويُظهر تهافتَه وتلفيقَه كبارُ المؤرخين الكرد من بينهم العلامة محمد كرد علي.
في لبنان صارت سويسرا الشرق دولة الميليشيا، وأحكم حزب الله قبضته على معنى الدولة ومؤسساتها، ومن غير المرجَّح أن تفلح أكثر المدارس السياسية حكمة فيها بتطويق هذا الانزلاق الذي حوَّل لبنان إلى محافظة إيرانية ضِمن محور الوليّ الفقيه.
حدث هذا قبل أن تُجهِز حماس على ما تبقى من القضية الفلسطينية باتباعها طريق حسن نصر الله وأخيراً بتهافتها على التطبيع مع نظام الأسد.
الوحيد الذي يبدو أن صوته يأتي من الماضي، هو الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز، الذي أصدر كتابه المهمّ بوقت مبكر “الشرق الأوسط الجديد”، وقال فيه حينها: “إنني لستُ الرجل الذي غيّر مواقعه من المفهوم التقليدي المعتمد أساساً على المنظومات العسكرية والتسليحية إلى المفهوم الحديث الذي يقوم بالضرورة على الاتفاقيات السياسية”، ويشرح بيريز أن الشرق الأوسط يجب أن يُبنى على مبدأ مختلف عن ديمقراطيات وديكتاتوريات، بل على أساس مَن هي الدولة المعادية لإسرائيل ومَن هي الدول الصديقة لإسرائيل، وليتحوّل الشرق الأوسط إلى سوق مفتوحة للاقتصاد العالمي، فلا بُدّ من تحقيق الردع النووي الإسرائيلي والتفوق العسكري لها على كل دول الإقليم، والذي يحوّل إسرائيل إلى شرطي للمنطقة بلا نزاعات مستمرة معها، مما يحقق التعاون الاقتصادي بين مكونات الإقليم، ويذيب الدين واللغة والعصبيات، ليكون فضاء هذا المشروع هو تركيا إيران البلاد العربية في الشرق الأوسط وإسرائيل، مما سيخلق سوقاً شرقَ أوسطيةٍ كبيرةً ومنطقة استهلاك عملاقة.
كانت نظرية بيريز غير قابلة للتصديق في ذلك الوقت، لكن الشرق الأوسط يواجه اليوم عدداً كبيراً من المشكلات بحيث يبدو مشروع الشرق الأوسط الجديد هو حزمة حلولها الاضطرارية، لتتفتَّت الدول القديمة، ولا تنشأ في مكانها دول بديلة، بل تبقى في فضاء الإقليم الموسّع، تجمعها وحدة شبيهة بالوحدة الأوروبية، بلا حدود تفصل بينها، إسرائيل آمنة بفضل تحولها إلى منتجع ديني وثكنة عسكرية وحارة يهود خلف الجدار العازل، وتأتي حقيبة الحلول تلك لتضع حدّا للقضية الفلسطينية، ففلسطين هي قطاع غزة والضفة الغربية وفق خرائط المستوطنات المعقدة، وسوريا القادمة هي الشمال الكردي والغرب والوسط العلوي والجيوب العربية السُّنية والجنوب الدرزي والمراكز المدنية الكبرى، بعد زوال الحكم المركزي بقيادة بشار الأسد، والعراق شماله كردي ووسطه وجنوبه شيعيان وغربه سُنيّ، أما تركيا فقد زودت بملايين اللاجئين السوريين السُّنَّة الذين سيُعاد توطينهم في المدى الهابط من جبال طوروس إلى بادية الشام وحلب وحمص ودير الزور، وكذلك الأردن الذي سيحرص على تأمين مياه الشرب بالسيطرة على منابع نهر اليرموك في جنوب غرب سورية، وتحلّ قضية الجولان، فهي ستكون مفتوحة لمن يرغب بالعمل والحركة ضِمن الشروط الجديدة، تحكم تلك المناطق سلطات محلية ذات توجهات مختلفة خاصة بأهاليها، ولبنان المسيحي المعقَّد بشيعته ودروزه وسُنته سيكون ضِمن الشرق الأوسط منسجماً مع دولة جديدة مكوناتها عرقية دينية مذهبية مختلطة، تشبه إلى حد كبير الاتحاد الأوروبي بصيغته الحالية، فتحكم تلك المناطق بإدارات منتخبة دورها تسيير الأمور الخدمية والصحة والتعليم والتنمية والزراعة والاستثمار، ويدير الأقاليمَ كلَّها نظامٌ ديمقراطيٌّ معقَّدٌ، يُشرف على تواصُل الشرق الأوسط الجديد مع العالم الخارجي سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
سيصبح الوطن والقومية والأمة والدولة التقليدية من الماضي السحيق، في ظل التنمية والحياة المتطورة التي سيعيشها سكان الشرق الأوسط بعد أن يجري حلّ قضاياهم المعقَّدة والمزمنة، فلا حدود تمنع السكانَ من زيارة أراضيهم القديمة للسياحة، والسياحة الدينية في الأماكن المقدسة المتنازَع عليها، ولذلك فلا حاجة لمناقشة حقّ العودة بالنسبة إلى الفلسطينيين والجولانيين وملايين السوريين بعدئذ، لتزول الدولة العربية الحالية ويبدأ عصر الدولة الجديدة، الشرق الأوسط الجديد.
كيف يمكن لتصوُّر كهذا ألا يحضر الآن بقوة، بعد سنوات من مراقبة الجمر كيف ينتشر وَهَجُهُ في المجتمعات العربية والمحيطة بها والتي تعيش في كنفها؟
المصدر: نداء بوست