وصل الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى منطقة الشرق الأوسط بعد حملة إعلامية واسعة عن مضمون زيارته، ولكنه لم يحمل غير استعلائه على حكام المنطقة، وشغفه بما لديهم من براميل نفط وصفقات اقتصادية تنعش اقتصاد بلاده وتنقذه في الملمّات، وتدعم مواقفها قوةً وحيدةً عظمى. وأميركا إذ تربطها علاقاتٌ حميمة ببعض دول المنطقة تعود إلى أكثر من سبعة عقود، ترى أنّ ثمّة فراغًا عسكريًا واقتصاديًا تحاول إيران أن تملأه، بينما تفترض الرؤية الأميركية أن تشغله إسرائيل التي تخشى التمدّد الإيراني، ويتملكها الرعب من امتلاك إيران القدرة على تصنيع القنبلة النووية. وعلى الرغم من أنَّ في مجرّد مجيء بايدن نوعا من الاعتذار عن تصريحات سابقة بحق أكبر دولة نفطية في المنطقة، العربية السعودية، إلا أنَّ نظرة الاستعلاء كانت بادية في ما خصّصه من وقت لكل من إسرائيل ولرئيس فلسطين، محمود عبّاس، وفي أولوية الموضوعات التي قاربها، وهي زيادة ضخ النفط وتحجيم إيران والضغط عليها للعودة إلى الاتفاق النووي. ولم ينس أن يعرِّج على حقوق الإنسان المفقودة في المنطقة، من دون الإشارة إلى إسرائيل التي تمارس أشكال العنصرية كلّها ضد الشعب الفلسطيني قتلًا وسجنًا واقتطاع أراض وبناء مستوطنات وتجاهلًا لقرارات الأمم المتحدة التي تبلغ، بحسب الرئيس عباس، نحو 700 قرار صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة و87 قرارًا عن مجلس الأمن. وإذا ما تمرّد أحد المعتدى عليهم محتجًا على السياسة الإسرائيلية التي لا وجود فيها لأي شرط من حقوق الإنسان، يتهم بالإرهاب!
وإذا كان الرئيس الأميركي قد تعرَّض لجريمة قتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، بحسب إعلاميين، فإنه تجاهل أيّة إشارة إلى جريمة قتل الصحافية الفلسطينية، شيرين أبو عاقلة، حاملة الجنسية الأميركية. ومع ذلك، حظي بعدة صفقات اقتصادية، فيما لم تحظ القضية السورية منه بغير إشارات عابرة، وإنْ تعرّض زعماء عرب لها في كلماتهم الرسمية، وخصوصا أميرَيْ الكويت وقطر، كما أكَّد بعضهم أن َّأسباب التوتر في المنطقة بقاء الاحتلال الإسرائيلي الأراضي الفلسطينية في حدودها قبل 1967.
في مقابل تلك القمة، سارع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الغارق اليوم في أوكرانيا، وما خلفته في العالم من أوجاع إلى عقد قمة أستانة في طهران، غايتها القول إنه موجود، وإنَّ أوان قيادة القطب الواحد قد ولَّى (بغض النظر عمّا سوف تؤول إليه نتائج الحرب على أوكرانيا) إذ لم تكن القمة بعيدة في محتواها عن موضوعات قمة “أميركا – دول الخليج”، وخصوصًا تجاه النفط والغاز وتخلخل الأمن الغذائي. ورغم أنّ أقطاب هذه القمة قد تآلفوا بشأن القضية السورية، إلا أنّ سورية لم تأخذ منهم غير عبارات عامة ومكررة، فالرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، أكد فكرة إيجاد حل للقضية السورية من داخلها، “أن إيران تدعم التوصل إلى حل سياسي للأزمة في سورية. ومصير سورية يجب أن يقرّره شعبها من دون أي تدخل أجنبي”، وكلك فعل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين إذ “أكَّد ضرورة إيجاد الظروف اللازمة لتمكين السوريين من تقرير مصير بلادهم، بمعزل عن أيّ تدخل خارجي”، وأشار إلى أهمية وجوب الاتفاق “على خطوات محدّدة لتعزيز الحوار السياسي الداخلي السوري الشامل، لتقرير مصير بلدهم دون أي تدخل خارجي”.
لكنَّ الجانبين الإيراني والروسي لا يعدان دولتيهما ضمن المتدخلين الخارجيين، فكلاهما يؤكّد ضرورة أن يكون الحل السوري شأنًا داخليًا، فمن هم الأغراب في سورية إذًا؟ هل هي تركيا التي تستقبل منذ عشر سنوات نحو أربعة ملايين داخل بلادها وتؤمن لثلاثة ملايين آخرين خدمات ضرورية يفتقر إليها السوريون الذين هم بحماية الروس والإيرانيين، ثم إنّ الروس والإيرانيين شجّعا، منذ البداية، النظام على ما سمّي الحل الأمني، وأخذ الروس يستخدمون حق النقض منذ المبادرة الأولى عام 2011 وما تلاها مرورا بقرار مجلس الأمن 2254 الذي اختصر باللجنة الدستورية (تحاول روسيا اليوم إخراجها، وبعد ثلاث سنوات، من تحت عباءة الأمم المتحدة) وإلى أحدث “فيتو” في 9 يوليو/ تموز 2022 ضد مشروع قرار مجلس الأمن الذي يوصل المساعدات الغذائية إلى ثلاثة ملايين سوري في المخيمات، والغرض تجويع هؤلاء، أو جعلهم تحت رحمة النظام ليتحكّم بلقمة عيشهم، ويأخذ أولادهم إلى الموت بعد أن كان هجَّرهم بقصف الروس أنفسهم.
ثم أليس الأوْلى بمن يدعو إلى وحدة الأراضي السورية أن يسهل عودة السوريين كافة، وبذلك يؤكد وحدة الشعب السوري في الداخل والخارج، أم إنّ هؤلاء المهجرين الذين نزحوا عن دمشق وحمص وحلب وإدلب والرقة ودير الزور ليسوا سوريين؟! وما الغاية من إطالة أمد هذا التجاهل غير تأكيد لرغبةٍ دفينة غامضة، فإن من يريد خلاصاً للشعب السوري يناقش قضيته أمام الملأ، وقد اتخذت الأمم المتحدة قرارها في هذا الشأن، رغم استخدام روسيا حق النقض مرارًا، ودونما وجه حق سوى المماطلة وتعميق الأزمة السورية للحصول على مكاسب خاصة.
أما النظام فلم يرد الانعزال عن تلك القمة، وإن شكليًا، فأرسل وزير خارجيته، فيصل المقداد، إلى طهران، ليقول إن للنظام حصة في القمة (بحسب المقداد نفسه) “لم يكن وجودي في طهران مستبعدًا” وقال إن الرئيس حمّله تحياته إلى المرشد علي خامنئي، وشكر الإيرانيين على موقفهم تجاه “تأكيدهم وحدة الأراضي السورية واستقلالها”. وأشار إلى موقف تركيا من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) واحتمال إبعادها عن حدودها، فقال: “لا فائدة لتركيا من دخول حدود سورية”، وبيَّن ذلك بقوله إن ذلك سوف يؤدّي إلى “صراع بين الحكومة السورية وتركيا، ويؤثر على الشعبين الصديقين والشقيقين”. ورغم الإحالات الإيجابية المستقبلية لهاتين الصفتين، إذ ارتبطا بقوة العلاقات السابقة بين سورية وتركيا ومساهمتها في نمو اقتصادي البلدين، إلا أنَّ المقداد عاد ليحمِّل تركيا مسؤولية دخول الإرهابيين، متجاهلًا دور تركيا الديبلوماسي، آنذاك، ونصائحها بعدم الانجرار إلى الحلول الأمنية التي نقلها عبر رحلات مكوكية وزير الخارجية التركي آنذاك، أحمد داود أوغلو، لكن الأسد لم يكترث، وربما كان لأعوانه، ولأخيه قائد الفرقة الرابعة، ماهر الأسد، بالذات، والمتهم بتصفية خلية الأزمة في يوليو/ تموز 2012، دور رئيسي في ذلك.
أما المعارضة السورية (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة)، فلم يبد منها أي موقف من تلك القمة يظهر موقفها ويشير إلى وجودها، أو ما تأمله من القمة، وهي التي انجرَّت قبل ذلك إلى مجموعة أستانة، وأدارت الظهر إلى الأمم المتحدة، ومسؤولياتها تجاه قراراتها المتعلقة بإنهاء عذابات السوريين، واستصدارها القرار 2254 الذي تساوق، على نحو أو آخر، مع توجهات جنيف السابقة، وتقاطع عنده جميع المعنيين بالقضية السورية.
المصدر: العربي الجديد