أعترف أنَّني غير ملِّم بالجوانب القانونية للَّجنة الدُّستوريّة؛ وعاجز عن استيعاب الأهداف السِّياسيّة الّتي تسعى إلى تحقيقها؛ وجاهل تمام الجهل بكيفيّة فوزها بشيءٍ من وفدٍ يمثِّل نظامًا يلعب اللُّعبة السِّياسيّة لكسب كلِّ شيء -دون أن يعطي الآخر شيئًا-، أو 1:0، عملًا بمبدأ العفو مقابل السَّلام، وبالتّالي ما سأكتبه هنا إنَّما هو أفكار تعتمل في صدر واحد من النّاس، حيال اللَّجنة الدُّستوريّة وعملها وما استطاعت تحقيقه حتّى الآن، وما يمكن أن تكسبه لاحقًا. والحقُّ أنَّ أكثر ما لفتني بشأن هذا الجسم الناتئ ككتلة مريبة يوم الإعلان عن قيامه هو: أنَّ شيئًا من المبادئ الّتي يجب تحقيقها قبل نقاش أيِّ شيء لم يتحقَّق، لا سيَّما المحاسبة الَّتي يجب أن تسبق أيّ مصالحة.
الموت لمّا ينتهِ بعد -هذه حقيقة قائمة- وكذلك التَّشرُّد والضَّياع والتّيه الّذين لوَّنوا العقد الأخير من حياة كثير من السّوريين، كي يذعن “ممثِلو الشَّعب” بهذا الشَّكل لمطلب الجلوس مع ممثِّلي النِّظام ويعقدوا معهم محادثات بشأن إبعاد ماريا ديب عن برنامج “ما يطلبه الجمهور”، وفصل زهير رمضان من رئاسة “نقابة الفنّانين” (قبل أن يتنحّى بسبب موته!)، وتسريح نصف لاعبي المنتخب الوطني لكرة القدم كونهم شبّيحة بالدَّليل القاطع، ثمَّ الانتقال إلى مناقشة الدَّور الحقيقي لشرطي المرور وعامل البلديّة والحارس، وبقيَّة المخبرين من سائقي سيّارات الأجرة وباعة اليانصيب وعربات “طير وفرقع يا بوشار” وترامس القهوة والميلو، وغيرها من النِّقاط الّتي التهمت لوحدها أربع سنين من عمر الزَّمن دون توفير دقيقة منه كي يتلمَّس من غرَّتهم الأماني النَّسائم الحقيقيّة لشكل حلٍّ يبزغ من وراء أفق مدلهم. كلُّ هذا دون أن ننسى أو نتغاضى عن مناقشة داعشية اللِّحية وعصرية السَّكسوكة، قبل الالتفات إلى التَّنازلات المطلوبة من الطَّرف الآخر لتنتقل النِّقاشات لتصبح وجهًا لوجه، ولتأخذ مسارها الجدّي بشأن ألوان العلم وكلمات النَّشيد الوطني، وكذلك مواد الدُّستور الحالي المتعلِّقة بصلاحيَّته من عدمها وصلاحيّات أمناء فروع الحزب وزوجاتهم وسائقيهم، وضبّاط الجيش والشُّرطة وعائلاتهم، ليكون التَّمديد للرَّئيس إلى الأبد قد جرى دون دستور أو “معارضة”، أو تحصيل حاصل.
والظُّلم بدوره لمّا ينتفِ بعد، وكذلك اليأس من مواقف الإخوة والأشقّاء وهواننا على النّاس الّتي فضَّلت الجلّاد وتغنَّت “بصموده الأسطوري” في وجه الهجمة الكونية عليه، على الشَّعب الضَّحيّة الَّذي تنكَّر له الأقربون، على الرَّغم من فضله السّابق عليهم، ويتجهَّم في وجهه الأبعدون من دعاة الإنسانية والحرِّيّة، كي يقبل “ممثِّلو الشَّعب” الانسياق مثل قطيع من العميان وراء “استراتيجيّة” وفد النِّظام الّتي بشَّر بها وزير الخارجيّة السّوري السّابق وليد المعلِّم بلا مواربة -منذ البداية- عندما قال: سنغرقهم في التَّفاصيل، وهو أعلم النّاس بجهل رَبْعنا بالسِّباحة في تيّارات السِّياسة المتقلِّبة وبضعفهم في مواجهة أمواجها الهوجاء.
ولمّا يتوقَّف مسلسل التَّرويع بعد، ولم يُرفع السِّتار عن مصير عشرات الآلاف من المغيَّبين قسرًا منذ انطلاقة الثَّورة المباركة وحتّى الآن، ليهرول “ممثِّلو الشَّعب” وراء أوَّل إشارة أمميّة الطّابع تحت مسمّى اللَّجنة الدُّستوريّة، مبرِّرين ذلك بأنَّهم لا يريدون منح النِّظام الفرصة كي يدَّعي أنَّهم هم من يعطِّل جهود التَّوصُّل إلى حلٍّ للمسألة السّوريّة، مع أنَّهم يوقنون أنَّ آخر همِّ النِّظام الوصول إلى حلٍّ قد يفضي إلى التَّاثير سلباً على مخطَّط التَّغيير الديمغرافي القائم فعلًا، وعلى رهن البلد لمحور المقاولة عبر التَّوجُّه المطَّرد لبيع المؤسسات وتبديد الثَّروات -ناهيك عن التّاريخ والكرامة- مقابل وجود له، ولو على مساحة لا تتعدّى مساحة قصر المهاجرين أو مستعمرة حميميم وحسب.
لم ينته شيء ولم ينتف شيء ولم يتوقَّف شيء على كافة الصُّعد، ولن نلمس أيَّ تقدُّم أو تطوُّر في عمل هذه اللَّجنة ولو استمر الأمر سنوات ضوئية، لأن “الممثِّلين” غرقوا فعلًا في التَّفاصيل، منذ التَّصفيّات التَّمهيديّة، على يد الشَّيطان السّاكن في التَّفاصيل الَّتي غصَّت بها صفحات المذكِّرات وما بين سطورها، فحققَّوا للمعلِّم -رغم مماته- ما بشَّر به في حياته.
لكن للحق، يوجد صعيد واحد هو الوحيد الّذي يشهد فاعليّة وحيويّة من حين لآخر: إنَّه ضجيج الممثِّلين على الشَّعب الّذي يرتفع مع اقتراب موسم “تزاوج المهام” وتبادل الطَّرابيش والكراسي بين أعضاء اللَّجنة الدُّستوريّة الموقَّرة ورئاستها المظفَّرة، وحساب بدلات السفر والإقامة في فنادق تليق بالدَّور الحاسم الَّذي تلعبه اللَّجنة في تحديد ملامح “اليوم التّالي”، مع أنَّ اليوم السّابق لمّا ينته بعد!
المصدر: اشراق