أثارت تصريحات ملك الأردن، عبد الله الثاني، عن تشكيل ناتو عربي زوبعة في المنطقة، لا تزال تتفاعل، وتثير تكهنات كثيرة وجدلا بشأن الدور الإسرائيلي فيها، خصوصاً أنه يأتي بعد صفقات تعاون بين بعض البلاد العربية وإسرائيل، ما سوف تكون له تداعيات على المنطقة العربية، وتأثير بعيد، ربما ضاعف الحال العربية التي تعيش في الأساس نوعًا من الهشاشة والتمزّق الداخلي، ومحاولات طرح مشاريع تخصّ تصفية القضية الفلسطينية، وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي دونما منح الشعب الفلسطيني أيًا من حقوقه المنصوص عليها في وثائق الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس أمنها، وحتى في الاتفاقات الأضعف التي جاءت فيما بعد بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
منطلق بعض الدول العربية في “الناتو” المزمع نابع من شعورها بالخطر الإيراني وسبيلها إلى درئه بالمفاضلة بين عدوين ومواجهة الأخطر بينهما.. هكذا، وبالبساطة كلها، يُجري بعضهم مفاضلةً بين عدوين: إيران وإسرائيل، لهما أطماعهما الملموسة، وإن اختلفت في ظاهرها، لكن جوهرها واحد، فلماذا تجرى المفاضلة، وعلى أي أساس؟. ويأتي هذا المشروع على أرضية هزائم مريرة عانتها المنطقة العربية منذ العام 1948.. وكان على العرب أن يتوجهوا، بعد انفصالهم بحكم التاريخ وحركة الحياة عن الإمبراطورية العثمانية، إلى ترتيب بناء دولهم الجديدة، لكنهم لم يفعلوا لأسباب كثيرة، وقد عانوا صراعات بينية، وابتعدوا عن أي تعاونٍ يثمر في مجال التنمية وتحصين الدول والارتقاء بشعوبها… إلخ.
وبسبب تلك الهزائم، استعان بعضهم بإيران التي رفعت عام 1979 شعار مناصرة القضية الفلسطينية أكثر مما رفعه العرب. ولكنه ضلَّ طريقه إلى ما كان مخفيًا وراءه، فكان التدخل المباشر في الشؤون الداخلية للبلدان التي أنشأت مع إيران علاقات دبلوماسية على المستويين الثقافي والاقتصادي، ثمَّ العسكري/ المليشياوي، وأذكت في تلك الدول الروح الطائفية، ما قاد إلى العبث بوحدة شعوب عدد من البلاد العربية مثل لبنان والعراق وسورية واليمن، وساهم بتبديد اقتصادها، وبإحداث عداواتٍ بينية أثَّرت في بِنْيَاتِها السكانية، وذلك كله وشعار المقاومة لم يفعل فعله داخل إسرائيل، لا من إيران ولا من أذرعها الطويلة.. بل إنَّ إسرائيل هي التي أخذت تفلح في بعض تلك البلدان ليل نهار..! وتشعر بعض الدول الخليجية اليوم بخوف تجاه أخطار إيران التي تنم عنها أفعالها.
ولكن هل يبرر ذلك التحالف مع إسرائيل إن صدقت التسريبات طبعًا؟ ولا تزال إسرائيل تحتل أراضٍ عربية، كما أشير، وتمنع عن الفلسطينيين التمتع بأيٍّ من حقوقهم التاريخية في أرضهم؟ من غير الواضح من سيقود ذلك التحالف، إسرائيل فعلًا أم الولايات المتحدة، لكنَّ البيِّن أنَّ على العرب، إذا ما قام ذلك التحالف ونشأت حربٌ ما، أن يدفعوا ضريبتها دمًا ومالًا وإعادة إعمار، وليمكِّنوا لإسرائيل أكثر فأكثر تمدُّدًا في الأراضي العربية الواسعة، واستثمارًا في مجال ثرواتها وأسواقها. وفي النهاية، سوف تكون المنطقة أمام واقع يمكن وصفه بما يلي:
أولًا، إنه صفعة تعادل كل ما ألحق بالعرب من هزائم، فهو، في جوهره، يتجاوز تصفية القضية الفلسطينية، والتجنيد المجاني للعرب، حكوماتٍ وجيوشًا وثروات.. تمامًا كما حدث في الحرب العالمية الأولى، إذ فوجئ العرب في نهاية الحرب، وانتصار الحلفاء، بتقسيم بلادهم، وشرذمتها وفق “سايكس بيكو”. ويأتي الحلف اليوم في وقتٍ لا تزال فيه إسرائيل ترتكب القتل، وتصادر الأراضي وتقيم المستوطنات، وتتوسع في مجال بيت المقدس تمهيدًا لتهويده كليًا، وللتطاول على المقدّسات الإسلامية والمسيحية.
ثانيًا، في حال تحقّق هذا التحالف، فسوف يعمل على ترسيخ تقسيم العرب سياسيًا وعسكريًّا، وعلى غير صعيد، وقد يقوِّي شعارات الممانعة الكاذبة بمنحها دفقة حياة بعد موت مؤكّد، وسيفتح أمامها بازار المساومة، خصوصا أن هذا التحالف يأتي من دون طلب أي خطوةٍ من إسرائيل يمكن استثمارها، فماذا لو وضعت السعودية، مثلًا، أمام بايدن إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية مقابل زيادة ضخّ النفط التي يتوقع أن يطلبها الثاني في اللقاء المرتقب بينهما، في وقتٍ يحذّر فيه الرئيس الروسي بوتين من خطر أزمة نفطية عالمية خانقة.
ثالثًا، لتخوُّف بعض دول الخليج تحديدًا ما يبرّره، وهو مرئيٌّ وملموسٌ في ممارسات إيران الفاقعة. ومع ذلك، تمكن مجابهة تلك الأخطار والتغلب عليها بالمواقف السياسية الواعية، ومن خلال العلاقات البينية المتوازنة بين إيران وحكومات الدول العربية التي تحصل فيها التجاوزات، كما يمكن العمل على التخلُّص من المليشيات العسكرية بأشكال مختلفة، بحلِّها كليًا أو بإحالتها إلى التقاعد أو بإلحاقها بالجيوش الوطنية، خصوصا أننا نشهد نهوضاً وطنياً في كل من العراق ولبنان، وربما سورية، إذا دخلت في حلٍّ ما.. ولكن لا بد أن يقتنع العرب بأن مصالحهم واحدة، وأنهم مستَهدفون، وعليهم أن يعملوا على هذا الأساس. دونما أيديولوجيا قومية استعلائية أو عنصرية تمييزية يحتكرها حزبٌ أو فئةٌ أو حاكمٌ بعينه.. والانتهاء من الخلافات البينية، وهذا ممكن التحقّق، إذا ما سادت بينها علاقاتٌ ودّيةٌ فعلية تغذّيها الإرادات الحرّة، والانفتاح على الشعب، والتخفيف من قيود الأنا والتفرد المَرَضِيِّ بالسلطة..
رابعًا، إنَّ جوهر المشكلة يكمن في أن العرب لم يستطيعوا بناء دولهم الحديثة وفق معايير ديمقراطية، تساهم في تحرير طاقات شعوبهم للاستفادة منها في التنمية والارتقاء والمحافظة على كيانات دولها، وجعل مكانة مرموقة لها بين شعوب الأرض قاطبة.. وقد برز ذلك جليًا في عمق ظاهرة ثورات الربيع العربي وأبعادها وشعارات شبابها، إذ ارتعدت بعض تلك الحكومات القائمة، فعملت على دعم الثورات المضادّة التي أخذت أشكالًا مختلفة، منها التطرّف والتسلح، ما قاد في النهاية إلى وأدها على نحو أو آخر..
خامسًا وأخيرًا، لن يقارب هذا الحلف، في حال تشكله، معايير “الناتو” الأوروبية من ديمقراطية تمنح المواطن الفرد حرية أوسع، وأعمق، ومحاربة فساد، بل ربما جاء، وعلى المدى البعيد. عكس ذلك تماماً، يمكن أن يقوّي الحلف، سواء “العربي” منه أم “الشرق أوسطي”، الاستبداد السياسي لدى مختلف حكوماته القائمة، ولتجديد أسر الشعوب إلى أمد آخر غير معلوم، وخصوصًا أنه يأتي على أنقاض ما خلفته الثورات المضادّة للربيع العربي.
المصدر: العربي الجديد