يواجه الأميركيون أزمة ثقة بمؤسسات الدولة ووسائل الإعلام تعمّق الانقسام ومراقبون يشيرون إلى حالة من التعثر الأخلاقي تسود المجتمع.
في منتصف يونيو (حزيران) الماضي، كشفت نتائج استطلاع أجرته شركة YouGove، المتخصصة في استطلاعات الرأي بالتعاون مع شبكة “ياهو نيوز”، أن معظم الديمقراطيين والجمهوريين، (55 في المئة و53 في المئة على التوالي)، يعتقدون أن “من المحتمل” أن لا تكون الولايات المتحدة بلداً ديمقراطياً في المستقبل، وبإضافة ردود المستقلين ممن لا يعبرون عن انتماءات حزبية، فإن نحو نصف الأميركيين، (49 في المئة)، أعربوا عن الرأي نفسه، وهو ما اعتبره مراقبون تعبيراً عن الإحباط بشأن اتجاه البلاد.
نتيجة الاستطلاع لم تكن مفاجئة لكثيرين داخل الولايات المتحدة، التي تشهد بالفعل انقساماً وسط تشكيك طرفي الخريطة السياسية في المؤسسات الديمقراطية. ووصل التشكيك في الديمقراطية الأميركية ذروته في أعقاب الانتخابات الرئاسية الأميركية 2020، عندما أصرّ الرئيس السابق، دونالد ترمب، الذي كان يسعى لولاية ثانية، على تزوير نتيجة الانتخابات التي جاءت لصالح خصمه الديمقراطي، جو بايدن، الذي فاز بهامش ضيق.
ليس ذلك فحسب، إذ اقتحم أنصار ترمب من اليمين المتطرف مبنى الكابيتول، حيث مقر الكونغرس الأميركي، وهو الحدث الذي اعتبره مراقبون حول العالم ضربة موجعة وزلزالاً هزّ واحدة من أعتى المعاقل الديمقراطية التي كان الانتقال السلس للسلطة هو أحد ركائزها الراسخة.
على يسار الخريطة السياسية، تشهد الولايات المتحدة طعوناً من الجناح اليساري بالحزب الديمقراطي في نزاهة المحكمة العليا، أعلى محكمة في القضاء الفيدرالي، بعد قرار تاريخي مناهض لحق المرأة في الإجهاض، حيث ألغت المحكمة العليا حكماً صدر منذ 50 عاماً يعرف باسم “رو ضد ويد”، يلغي الحق القانوني في الإجهاض.
وفي لقاء مع إذاعة “راديو سي بي سي” كندا، أقرّ فيل مورفي، الحاكم السابق لولاية نيو جيرسي الأميركية وعضو الكونغرس عن الحزب الديمقراطي، بأن الولايات المتحدة تواجه “مزيجاً من المخاوف” عندما يتعلق الأمر بديمقراطيتها. مشيراً إلى ما يتعلق بهجوم 6 يناير (كانون الثاني) على مبنى الكابيتول، وتحدث عن اعتقاده بأن المحكمة العليا في الولايات المتحدة كانت بعيدة من الرأي العام بشأن القضايا الخلافية، مثل الإجهاض وحيازة السلاح. مشيراً إلى أن القضيتين تظهران أن إرادة الشعب تتعارض بشكل كبير مع “الكتلة اليمينية المتطرفة في المحكمة العليا”، في حين أعرب عن تفاؤله بشأن مواجهة مثل هذه التحديات.
الهجوم على أعضاء المحكمة العليا لا يتعلق فقط بالدفاع عن حقوق المرأة، لكن ثمة معركة سياسية تتعلق بسيطرة المحافظين على المحكمة، التي تتكوّن من تسعة قضاة، حيث تتكون حالياً من ستة قضاة من التيار المحافظ وثلاثة ليبراليين، وقد حاز المحافظون الغالبية بفضل ترمب، بعد أن تمكّن من تعيين ثلاثة قضاة خلال السنوات الأربع التي قضاها في البيت الأبيض.
غير أن إقحام القضاء في الصراعات الحزبية، جنباً إلى جنب مع الانقسام المجتمعي المتزايد، دفع بكثير من التساؤلات بشأن فقدان أميركا قيمها التقليدية، وهو السؤال القديم الحديث الذي يطرحه الأميركيون مع كل حالة صراع سياسي متفاقم.
الضفدع… موت تدريجي
للرد على هذا التساؤل، يستعير الكاتب الأميركي ديك ياربرو، قصة وضع الضفدع في الماء وغليه تدريجاً حتى الموت من دون أن يشعر بالخطر. قائلاً “مثل الضفدع المسكين الذي يغلي ببطء حتى الموت، يبدو أننا نتآكل ببطء كأمة”. ويشير إلى أن الأزمة تتعلق بتركيز الأميركيين على ما يفرّقهم، بدلاً مما يوحدهم، فيتم التركيز على أخطاء الماضي، “كثيرون مهووسون بالمظالم العنصرية التي ارتُكبت في الماضي، التي كانت بالفعل غير مبررة، وينسون أن هذا البلد انتخب ثم أعاد انتخاب رئيس أسود، إذ لا يبدو أن هناك من يرغب في التركيز على تقدم الولايات المتحدة كأمة والفرص الهائلة التي تنتظر الراغبين للبحث عنها”.
يواصل ياربرو رسم خريطة الأزمة، كما يراها، حيث “لم يعد الخطاب المدني وسيلة يمكن من خلالها للأميركيين مناقشة خلافاتهم، فعلى النقيض تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ملتقى للتهديد والتنمر على من يختلفون عنهم، وما يزيد الأمر سوءاً هو وجود رئيس سابق اعتاد السباب والشتائم بطريقة طفولية، (في إشارة إلى ترمب). ومن جانب آخر، عمقت وسائل الإعلام الوطنية حالة الانقسام بين الأميركيين من خلال التغطية المتحيزة لمن يتفقون معها والانتقاص ممن يخالفوها الرأي”.
ويحذر أيضاً الكاتب الأميركي، ديفيد بروكس، مؤلف كتاب “الجبل الثاني: البحث عن حياة أخلاقية”، من تراجع حاد في مستوى الثقة في مؤسسات الدولة الأميركية وسياساتها وبين المواطنين وبعضهم بعضاً. يقول “عندما تنهار الثقة الاجتماعية، تفشل الدول”، متسائلاً “هل يمكننا استعادتها (الثقة) قبل فوات الأوان؟”. ومع ذلك، فإن هذا التعثر ليس “جديداً، فالتاريخ الأميركي مدفوع بلحظات دورية من التعثر الأخلاقي”، بحسب وصفه.
ويشير بروكس إلى أن العالم السياسي الأميركي الراحل صامويل هنتنغتون سرد تلك التعثرات التي تبدو وكأنها تضرب الولايات المتحدة كل 60 عاماً، الفترة الثورية في الستينيات والسبعينيات من القرن الثامن عشر، وانتفاضة جاكسون في عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر، والعصر التقدمي الذي بدأ في تسعينيات القرن التاسع عشر، وحركات الاحتجاج الاجتماعي في الستينيات وأوائل السبعينيات.
استعادة الثقة
على الرغم من ذلك الشعور بالخطر في الأوساط السياسية المختلفة داخل الولايات المتحدة، لكن لا يتفق الجميع على أن الأزمة الحالية داخل المجتمع الأميركي تعني تآكل القيم التي تأسست عليها البلاد منذ صدور الدستور الأميركي في القرن الثامن عشر.
وفي افتتاحية نشرتها صحيفة “وول ستريت جورنال”، مطلع العام الحالي، أشارت إلى أنه على الرغم من أن أحداث الشغب في الكابيتول كانت بمثابة وصمة عار وطنية، وكانت الطريقة التي تعاملت بها الفصائل السياسية المتصارعة، مع الأحداث، أكثر إحباطاً، “لكن الواقع أن المؤسسات الديمقراطية الأميركية صمدت أمام الضغط”.
وأشارت الصحيفة الأميركية إلى مايك بنس، نائب الرئيس الأميركي السابق، باعتباره الرجل الحقيقي في هذه الأحداث، إذ بحكم منصبه ترأس مجلس الشيوخ، واعترف بواجبه الدستوري في التصديق على فرز الأصوات. متصدياً لتهديدات ترمب من أجل مصلحة البلاد، وربما على حساب مستقبله السياسي.
بعبارة أخرى، تقول الصحيفة “صمدت المؤسسات الديمقراطية الأميركية تحت الضغط، وصمدت أيضاً في الولايات التي صادق فيها المسؤولون والمشرعون في الحزب الجمهوري على نتيجة الأصوات الانتخابية على الرغم من شكاوى ترمب. وصمدت المحاكم حيث رفض القضاة مزاعم تزوير الانتخابات التي تفتقر إلى الأدلة الكافية”.
وتشير الصحيفة إلى أن جزءاً من الأزمة هو الطريقة التي استغل بها الديمقراطيون الأحداث من أجل مكاسب سياسية. فالديمقراطيون يعترفون على مضض بهذه الحقائق السابق سردها ويقللون منها، في حين واقعياً كان هناك قرار شبه إجماعي ضد مزاعم ترمب الانتخابية.
وأضافت أن الحزب الديمقراطي في تعامله مع قضية 6 يناير ارتكب انتهاكات للدستور، لكن على الرغم من أنه ليس هناك الكثير الذي يدعو إلى التفاؤل في ظل هذا الانقسام، لكن في نهاية الأمر نجت الولايات المتحدة من يناير وعدد قليل من الرؤساء السابقين.
ويرى بروكس أن تجاوز الأزمة الحالية يحتاج للرد على سؤال واحد: “هل لدينا الطاقة لبناء منظمات جديدة تعالج مشكلاتنا، بالطريقة التي فعلها البريطانيون في ثلاثينيات القرن التاسع عشر والأميركيون في تسعينيات القرن التاسع عشر؟”. ويجيب إن “الثقة المجتمعية يتم بناؤها من خلال منظمات يلتزم أعضاؤها بالعمل المشترك معاً والحوار عبر المؤسسات المدنية التي للأسف جرى استبدالها في السنوات الأخيرة الماضية بـ(تويتر) و(إنستغرام)”.
المصدر: اندبندنت عربية