من المجلس الوطني السوري إلى الائتلاف وانسداد الآفاق

عبد الباسط سيدا

لم تكن التنسيقيات الشبابية التي تشكّلت في مختلف المدن والبلدات السورية في بدايات الثورة قادرةً على سد الفراغ الناجم عن عدم وجود قيادة للثورة؛ لأنها كانت، في المقام الأول، ميدانية تنظيمية، مهتمة باستمرارية المظاهرات، ونقل أخبارها عبر وسائط التواصل الاجتماعي، ووكالات الأنباء العربية والإقليمية والدولية، سيما بعدما أغلق النظام البلاد أمام الصحافة الدولية بكل أشكالها.

عُقد اجتماع عام عن سورية في إسطنبول في إبريل/ نيسان 2011، ثم انعقد مؤتمر أنطاليا للسوريين المساندين للثورة في مايو/ أيار – يونيو/ حزيران 2011، وآخر في بروكسل في يونيو/ حزيران 2011. وعقد اجتماع سميراميس في دمشق في الشهر نفسه، وكان لقاء الحوار الوطني الذي نظمته السلطة بدمشق في يوليو/ تموز 2011. وتم التحضير لاجتماعين عامين متزامنين في دمشق وإسطنبول تحت اسم مؤتمر الإنقاذ، لكن السلطة منعت اجتماع دمشق، فأخذ اجتماع إسطنبول في يوليو 2011 على عاتقه مهمة الاجتماعين، وكانت آمال المنظمّين المعقودة عليه كبيرة؛ إلا أنه، هو الآخر، أخفق بكل أسف، ولأسباب موضوعية. وعلى أثر فشله، تواصل بعض الأكاديميين في ما بينهم، واتفقوا على عقد اجتماع مصغّر بعدد محدود ما بين 20-25 شخصاً، للبحث في إمكانية القيام بخطوة ما تمهد لتشكيل قيادة موحدة للثورة، مع العلم أن محاولات كثيرة كانت تبذل من أجل الهدف ذاته.

وبعد مداولات معمّقة، برزت فكرة تشكيل المجلس الوطني السوري، وجرى التواصل مع مختلف القوى السياسية المعارضة، بغية دعوتها إلى المشاركة في هذا المجلس. وكان، من الواضح منذ البداية، أن مسألة الشرعية ستكون إشكالية، فالمجلس لن يكون منتخباً من السوريين لعدم وجود إمكانية لإجراء انتخابات في الأوضاع التي كنا نعيشها. لذلك كان الحرص على أن تُمثل القوى السياسية والمكونات المجتمعية ضمن حدود الإمكان، وذلك استناداً إلى مؤهلات المشاركين وتاريخهم، وبناء على معرفة المعارضين بعضهم بعضاً، سواء في الداخل أم في الخارج.

وفي خضم عمليات التحضير والاتصالات الخاصة بتشكيل المجلس، اقترح بعض الإخوة عقد اجتماع مصغر في الدوحة في أوائل سبتمبر/ أيلول 2011 بين ممثلين عن اللجنة التحضيرية للمجلس وممثلين عن “إعلان دمشق” وهيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الديمقراطي، وناشطين سوريين شباب في الدوحة. وهو اجتماع أسهم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في إعداده، وتأمين الدعم اللوجيتسي له، ولكنه لم يتدخّل في المناقشات التي كانت تجري إلا ضمن الحدود التي كان يُطلب منه إبداء الرأي فيها.

كان هناك من يطرح فكرة تشكيل هيئة مؤلفة من نحو 15 شخصية، تقوم بمهمة قيادة الثورة، وتتحرّك باسمها في المحافل الدولية، بغية جلب الدعم والتأييد لها. وربما كان هذا الرأي أكثر عمليةً ونجاعةً في الظروف التي كنا فيها، وذلك بعد تجارب غير موفقة أكثر من عشر سنوات. ولكننا في اللجنة التحضيرية لم نوافق على هذا الرأي؛ وكانت حجتنا أن المجلس الذي كنا نتطلع أن يكون عدد أعضائه ما بين 60-75 عضوا قد يتمكّن من تمثيل قطاع أوسع من القوى السياسية والشخصيات الوطنية وممثلين عن تنسيقيات الشباب، الأمر الذي قد يمنحه بعض الشرعية، أما القيادة المقترحة فمن الصعب إقناع السوريين بها، خصوصا في ظروف عدم معرفة السوريين بعضهم بعضاً، وغياب العمل المؤسّساتي الجماعي، سواء عبر منظّمات المجتمع المدني أم على صعيد الأحزاب.

وفي نهاية المناقشات، جرى التوافق على تشكيل ائتلاف سياسي، يضم “إعلان دمشق” و”هيئة التنسيق” والإخوان المسلمين. أما الأحزاب الكردية التي شكلت لاحقاً المجلس الوطني الكردي السوري فكانت موزّعة بين “إعلان دمشق” و”هيئة التنسيق”. ومع ذلك، كان هناك توجّه إلى إعطائها خصوصية معينة، باعتبارها كانت تتحرّك أحياناً بصورة مشتركة تحت اسم مجموعة الأحزاب الكردية. لكن الائتلاف المقترح لم يجد النور بكل أسف. الأمر الذي أعاد الكرة إلى ملعب اللجنة التحضيرية التي كانت قد تولت مهمة الإعداد لتشكيل المجلس الوطني السوري. وجرت اتصالات سياسية مع “إعلان دمشق” و”هيئة التنسيق” والأحزاب الكردية والإخوان المسلمين، والتنسيقيات الشبابية الكبرى الأساسية (لجان التنسيق المحلية، المجلس الأعلى لقيادة الثورة السورية، الهيئة العامة للثورة السورية ومجموعة من التنسيقيات الكردية: آفاهي، اتحاد تنسيقيات الشباب الكرد، سوا) ومع الشخصيات الوطنية المستقلة في داخل الوطن وخارجه. وتم الإعلان عن تأسيس المجلس الوطني السوري رسميا في 2/10/2011 برئاسة برهان غليون. وحظي المجلس بتأييد شعبي لافت في الداخل الوطني، تجسّد في المظاهرات التي رفعت شعار “المجلس الوطني السوري يمثلني”. كما حظي باهتمام عربي ودولي، تجسّد في الاتصالات والتهاني واللقاءات الكثيرة مع قيادته في دول عديدة.

لم يمتلك المجلس شرعية شعبية مستنبطة من انتخابات عامة في أوساط السوريين المناهضين لحكم بشّار الأسد، ولكنه كان أفضل الحلول الممكنة في الظروف التي نشأ فيها. وكان في الإمكان تطوير آلياته، وتوسيع قاعدته الشعبية. ودائما كنا نؤكّد أنه مشروعٌ غير ناجز، منفتح على الجميع، ومفتوح أمام كل من يوافق على برنامجه. لكن المشكلة الأساسية التي عانى منها المجلس، كما عانى منها المعارضون الذين ظلوا خارج المجلس، أولئك الذين شعروا بأنهم لم يأخذوا المواقع التي يستحقونها بناء على تاريخهم في المعارضة، تمثلت في القراءة الخاطئة المتسرّعة للموقف، فالجميع كانوا يشعرون بأن التغيير قادم، بل هو على الأبواب، وأن موضوع رحيل الأسد لن يتجاوز الأشهر. وقد أدّى هذا الأمر من جانب المجلس إلى التقاعس في طمأنة السوريين، كل السوريين من دون أي استثناء، بمشروع وطني، يلتزم باحترام سائر الخصوصيات الدينية والمذهبية والقومية والفكرية، ويعترف بالحقوق المترتبة عليها، ويؤكّد مبدأ المشاركة العادلة في الإدارة والموارد.

كما تقاعس المجلس في ميدان التواصل مع أهلنا في المخيمات، والجاليات، ولم يتواصل، كما ينبغي، مع القوى الميدانية في الداخل السوري، ولم يهتم، كما ينبغي، بالمخاطر الجدية التي كانت تترتب على عملية تكاثر الفصائل المسلحة بصيغة كانت تُنذر بهواجس كثيرة مشروعة. وفي الوقت ذاته، لم يخصّ المجلس الضباط والجنود الذين كانوا قد انشقّوا عن الجيش بالرعاية المطلوبة. ولم يدرس ملف المنشقين بالصورة المطلوبة؛ ولم يستفد من إمكاناتهم وخبراتهم والمعلومات التي كانوا يمتلكونها. كما أنه لم يتخذ الموقف المناسب في الوقت المناسب من القوى المتشدّدة المتطرّفة التي كانت تقلق السوريين الثائرين، وتستفيد منها الماكينة الإعلامية لسلطة بشار وأعوانه ورعاته.

ومن جهة المعارضين الذين ظلوا خارج المجلس؛ أو الذين كانوا يشعرون، بل ويصرّحون، في بعض الأحيان، بأنهم الأحق والأكفأ؛ فقد عملوا على التشويش على المجلس، واستمرّوا في اتصالاتهم الإقليمية والدولية من أجل الاستقواء بها على المجلس؛ وقد تفاعلت تلك الجهود مع أخطاء المجلس نفسه، وتذمّر بعض أعضائه من عقلية المحاصصة التي بدأت بوادرها تلوح في الأفق؛ وتأثر ذلك كله بالقراءة الخاطئة المتسرّعة أبلغ تأثير، وهي القراءة التي كانت تؤدي بأصحابها إلى توقع التغيير السريع. ولم تقتصر الانتقادات والهجمات التي طاولت المجلس على الغرف المغلقة، بل تجاوزتها إلى الإعلام، الأمر الذي أربك أوساط الثورة، وأسهم في زيادة الضغوط الدولية التي دفعت باتجاه جسم جديد. وقد شعرنا، منذ العام الأول، بعدم وجود جدّية دولية في مساعدة الشعب السوري، وتمكينه من بلوغ ما خرج من أجله، وضحّى في سبيله، وذلك بالقطع مع سلطة الاستبداد والفساد. هذا على الرغم من الوعود الكثيرة التي كانت تُعطى، والاجتماعات التي كانت تُعقد في إطار مجموعة أصدقاء الشعب السوري.

وبدأت الضغوط من كل الاتجاهات على المجلس، لدفعه نحو القبول بالتوجّه نحو الجسم الجديد الذي تمثل لاحقاً في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، والذي تأسس في 1/11/2012، وضم كيانات وهمية كثيرة، ظهرت في هيئة كتل، وكأننا في برلمان دولة مستقرّة. وأصبحنا، ونحن في معركة شرسة مع النظام في جميع الميادين، وعلى مختلف المستويات، نخوض كل ستة أشهر معركة انتخابات عبثية، أدّت باستمرار نحو مزيد من التراجعات، وإلى مزيد من التباين والتفكّك.

وإذا قارنا “الائتلاف” بـ”المجلس الوطني”، على الرغم من اشتراكهما في سلبياتٍ كثيرة، لوجدنا أن المجلس، على علاته وثغراته الكثيرة، كان حصيلة توافق قطاع واسع من السوريين المناهضين لحكم بشار الأسد. في حين أن “الائتلاف” تشكّل، وتوسّع، بإرادة دولٍ لم تلتزم بالوعود التي قطعتها على نفسها وقت تشكيله. وقد كرّر “الائتلاف” أخطاء “المجلس الوطني” نفسها، مع أن إمكاناته كانت أكبر، والدعم الدولي والدبلوماسي الذي حظي به كان أقوى. الإنجاز الوحيد الذي يمكن أن يسجّل له أنه تمكن من إقناع المجلس الوطني الكردي بالانضمام إليه، ولكن حتى هذا الإنجاز كان حصيلة جهود مستمرّة تراكمية كان المجلس الوطني السوري قد بذلها وتابعها من خلال ممثليه في “الائتلاف” مع جميع الأطراف.

اتخذ “الائتلاف” قرار المشاركة في مفاوضات جنيف 22 يناير/ كانون الثاني 2014 بناء على ضغوط إقليمية ودولية، ومن دون أية ضمانات بممارسة الضغوط على الروس، وحكم بشار، لدفعهم نحو القبول بهيئة الحكم الانتقالي؛ وكان من نتائج ذلك انحراف المفاوضات عن مسارها الأساسي، والتركيز على التفصيلات والقضايا التي كان من المفروض أن تحلّ إذا ما جرى التوافق على القضية المحورية، ونعني بها تشكيل هيئة الحكم الانتقالي. وبدأت التراجعات الكبرى مع مسار أستانة، وتشكيل اللجنة الدستورية، حتى وصلنا إلى الواقع الحالي الذي لا يوحي بأي أفقٍ بكل أسف.

___________________________________________________

من ورقة قُدمت إلى ندوة “سورية إلى أين؟” في الدوحة، 5-6 فبراير/ شباط 2022

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى