ما بعد قمة مدريد

بكر صدقي

لم يكن اجتماع القمة لقادة دول حلف شمال الأطلسي في مدريد اجتماعاً عادياً كسوابقه، وما كان له أن يكون بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا. فقد خرج الاجتماع بمفهوم استراتيجي جديد يعتبر أن «روسيا تشكل التهديد الأول والمباشر للسلام ولأمن واستقرار الدول الحليفة على ضفتي المحيط الأطلسي» ويدعو الدول الأعضاء إلى اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة الخطر الروسي.

يعود المفهوم الاستراتيجي السابق للحلف إلى العام 2010 وفيه اعتبرت روسياً «شريكاً» للحلف. هذه النقلة من شريك إلى الخطر الرئيسي والمباشر ستكون لها تداعيات كبيرة سواء بالنسبة للدول الأعضاء أو لسائر العالم. حلف الناتو الذي كان في حالة «موت سريري» قبل بضع سنوات، ودعا الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى حله، يعود اليوم إلى الواجهة كأكبر تحالف عسكري وسياسي في العالم، سواء بعدد أعضائه الذي ارتفع من 16 دولة في نهاية الحرب الباردة إلى 30، أو بإمكاناته العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية ونفوذه الذي يتجاوز عضويته المباشرة. وتبدو الولايات المتحدة، المحرك الأبرز لهذا التطور، وكأنها بصدد استعادة دورها القيادي في أوروبا بعدما نجحت في اجتذاب الدول الأوروبية إلى الاصطفاف وراءها في مواجهة روسيا. وبالنظر إلى عودة ألمانيا وغيرها من البلدان إلى الاهتمام بتسليح قواتها، ورصد ميزانيات ضخمة لهذه الغاية، لم يعد هناك هامش للتردد لدى الدول الأخرى، فتم تبني هذا المفهوم الاستراتيجي الجديد الذي يعني الاستعداد للحرب.

هناك دول قد لا يمكنها التكيف بسهولة مع هذا التغيير الطارئ على «المفهوم الاستراتيجي» لعل أبرزها تركيا المرتبطة مع روسيا بعلاقات قلقة. فمن جهة لا يمكن لتركيا أن تنتقل بسهولة من خانة الشريك لروسيا في مسار آستانا الخاص بالصراع في سوريا إلى خانة الأطلسي الذي يعتبر روسياً خطراً مباشراً على أمن الدول الأعضاء، وتملك روسيا وسائل كثيرة لإيقاع الأذى بجارها التركي من غير أن تتمتع تركيا بحماية أطلسية رادعة بالقدر الكافي.

في الطائرة التي أقلت الرئيس التركي في رحلة العودة إلى بلاده، قال أردوغان للصحافيين المرافقين إن «تركيا ستستمر في سياستها المتوازنة بين روسيا والغرب» هل هذا ممكن بعد توقيع تركيا على الوثيقة الاستراتيجية الجديدة التي تعتبر روسيا الخطر الأول والمباشر على أمن واستقرار الدول الأعضاء؟ وخاصة بعد تخليها عن الفيتو بشأن انضمام السويد وفنلندا إلى الحلف؟

فقبيل انعقاد القمة الأطلسية تم التوقيع على تفاهمات ثلاثية بين تركيا والسويد وفنلندا على رفع الفيتو التركي المشار إليه مقابل تعهدات غامضة من الدولتين لتركيا بخصوص التوقف عن دعم «المنظمات الإرهابية» التي تختلف على تحديدها تركيا والدولتين المذكورتين، مقابل اتفاق الثلاثة على إرهابية حزب العمال الكردستاني حصراً. فيما تنفرد تركيا في اعتبار كل من جماعة فتح الله غولن وحزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب (منظمات سورية) كمنظمات إرهابية. وبما أن مسار عضوية الدولتين في حلف الناتو يمتد على فترة أشهر ولا تنتهي إلا بمصادقة برلمانات الدول الأعضاء عليه، فالحكومة التركية ما زالت تمسك بورقة الفيتو البرلماني في حال لم تلب الدولتان مطالبها المتمثلة مبدئياً في تسليم عدد من المطلوبين الموجودين هناك. في حين أن تسليم المطلوبين يخضع في كل من السويد وفنلندا لقرارات القضاء المستقل عن السلطة التنفيذية.

الأشهر الثمانية التي من المفترض أن تستغرقها إجراءات الانضمام ستتيح للأطراف مساحة كبيرة للمماحكة، وفي الغضون لا يعرف أحد إلى أين يمكن أن تصل العمليات القتالية في شرق أوكرانيا، وما التغيرات السياسية التي يمكن أن تغير وجه أوروبا والعالم. كذلك ستكون الأشهر القادمة هي فترة استعداد الأحزاب والتحالفات السياسية في تركيا للانتخابات البرلمانية والرئاسية. لذلك لا يمكن التكهن بشان نتيجة المماحكات المذكورة بين تركيا والدولتين المرشحتين لعضوية الحلف. أما الثابت الذي نعرفه فهو أن الرئيس الأمريكي جو بايدن قد وعد نظيره التركي بالموافقة على بيع تركيا طائرات F16. وذلك مقابل تراجع تركيا عن رفضها لانضمام الدولتين للحلف.

هل يتجه العالم نحو حرب جديدة مدمرة تكون أكثر فتكاً من الحرب العالمية الثانية؟ أم ينتصر العقل على الجنون؟ الحرب التي تطحن الأوكرانيين والروس أيضاً من يملك مفاتيح وقفها؟

لا تبدو الولايات المتحدة البعيدة جغرافياً عن ساحة الحرب بصدد أي خطة لاحتواء الصراع، بل تعمل كطرف في الحرب من غير أن تخاطر بزج جنودها في القتال. بل هي تحشد وراءها دول الحلف الأطلسي ويدعمون معاً أوكرانيا بالسلاح. في حين يزيد بوتين من وحشية هجماته على الأهداف المدنية والبنى التحتية في أوكرانيا بهدف تركيع القيادة الأوكرانية ودفعها للاستسلام للمطالب الروسية.

بصرف النظر عن الخسائر الروسية الكبيرة في الحرب، لن يسلم بوتين بالهزيمة مادامت أوكرانيا غير قادرة على نقل الحرب إلى داخل الأراضي الروسية. وحتى لو تمكنت من ذلك فقد يصبح تهديد بوتين باستخدام السلاح النووي على الطاولة، الأمر الذي يجعل روسيا بوتين منيعة أمام الهزيمة حتى لو كانت غير قادرة على تحقيق النصر. وهو ما يعني أنه لا مفر من تسوية سياسية تمنح بوتين مخرجاً «مشرّفاً» أمام الرأي العام الروسي. وهو ما لا يبدو الحلف الأطلسي بصدد التفكير فيه.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى