تبقى تهمة الانفصال التي تُرمى في وجه الكرد السوريين فارغة رغم تكرارها، ليس لأنهم غير انفصاليين بطبيعتهم ويفضلون البقاء في إطار سياسي واحد مع العرب وغيرهم من القوميات، فلا غرابة في أنّ أيّ جماعة قومية تعي ذاتها كذلك، سوف تميل إلى اعتناق حقها في بناء دولتها القومية، والكرد ليسوا استثناء. هي تهمة فارغة، لأنّ الواقع السوري لا يوفر عناصر الانفصال (غلبة سكانية مهمة وتواصل جغرافي)، عدا عن الواقع الإقليمي والدولي الذي أعاق، كما هو معلوم، محاولة انفصال كردستان العراق في استفتاء سبتمبر/ أيلول 2017، رغم اكتمال عناصر الانفصال هناك.
يزيد من بطلان تهمة انفصال الكرد السوريين أنهم في برامجهم لا يطرحون فكرة الانفصال أصلاً، وأنّهم، رغم تميّزهم القومي، يندرجون في الصراع السوري على خلفية وحدوية. لا حضور ملحوظاً في سياسة التشكيلات السياسية الكردية في سورية للطرح الانفصالي، وليس الانفصال من عدمه هو مربط خلاف الكرد السوريين مع العرب، سواء الذين منهم في السلطة أو في المعارضة. والحق أنّ الكرد وُجدوا في مختلف مواقع المعارضة السورية، من هيئة التنسيق إلى المجلس الوطني ثم الائتلاف الوطني، وكان التغيير السياسي الذي يحمل، في طياته، تحقيق أكبر قدر ممكن من حقوقهم القومية الديمقراطية في سورية، هو الخط العريض لنضالهم، رغم الخلافات الكبيرة في ما بينهم، كما هو حال الخلافات الكبيرة أيضاً بين المعارضين السوريين العرب.
النقد الأساسي لنضال الكرد في غضون الثورة السورية ارتبط بالنهج الكردي (الأطراف الأكثر فاعلية في الوسط الكردي) للتمايز عن الجسد العام للثورة السورية، أو، بطريقة أخرى، الانشغال في شأنهم القومي أساساً في غضون ثورة، رأى منتقدو هذا النهج الكردي أن من شأن انتصارها (الثورة) أن يقود إلى تحقيق المطالب القومية الكردية كجزء من بناء سورية ديمقراطية، وأنّ التمايز الكردي في الثورة أعاق، بالتالي، هذا الانتصار، وهكذا أضرّ بالكرد كما أضرّ بالعرب. وكان من طبيعة الأمور أن ينطوي هذا التحليل على استبطانات تآمرية كثيرة وتهم خيانية لن ينقصها وجود وقائع تسندها من هنا وهناك. في المحصلة، تأسست، لدى نسبة كبيرة من العرب السوريين مشاعر عدائية ضد الكرد، زاد من حدّتها الاستقطاب بشأن الموقف التركي الذي جمع بين ما بدا لكثيرين دعماً للثورة وللشعب السوري (استقبال ملايين اللاجئين السوريين وحماية ملايين آخرين شمال سورية)، وبين موقف تركي شديد العداء للكرد، تجلى في عمليات عسكرية، شارك فيها سوريون عرب، ضد مناطق كردية، وما استجره ذلك من تبعات كارثية على الكرد في هذه المناطق.
لم يكن تاريخ العلاقة بين الكرد السوريين والمعارضة السورية طيباً إلى الحد الذي يطمئن الكرد على حقوقهم القومية على يد هذه المعارضة، فيما لو أمسكت زمام الأمر في دمشق. السلبية العربية تجاه أحداث مارس/ آذار 2004 في القامشلي، والممارسات غير المسؤولة من بعض الكرد، مثل حرق العلم السوري ورفع شعارات انفصالية، رسمت خط تمايز كردي عربي صريح في النضال الديمقراطي في سورية، لعب دوراً في تفتيت النضال السوري عقب 2011. وينبغي القول إن غالبية الأحزاب الكردية أيضاً لم تكن أقل سلبيةً في موقفها من قمع النظام الدائم ضد أحزاب المعارضة السورية، بمن فيها التي كانت تساند الحقوق القومية الكردية، وتضم في صفوفها كردا كثيرين، مثل حزب العمل الشيوعي في سورية. مع ذلك، ليس من الصعب فهم هذا الحذر الكردي على خلفية الارتداد العنيف لنظام الأسد ضد كل تواصل نضالي للكرد مع العرب في سورية. وليس غريباً، والحال هذه، القلق الذي لم يفارق الكرد إزاء موقف الأحزاب السورية العربية التي دخلوا في تحالف معها خلال الثورة (هيئة التنسيق أو في المجلس الوطني ثم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة) وتلكؤها في تبني المطالب الكردية.
يفسّر السياق السابق تقدّم الهم الكردي (القومي) على الهمّ السوري (الوطني) في نظرة القوى الكردية الأكثر فاعلية، إلى الصراع في سورية، ووجود أرضية شعبية كردية لقبول هذه النظرة. هكذا، فتح الباب أمام شلال من العناصر المتوالدة، مثل حضور العمال الكردستاني وبروز قوة عسكرية كردية عزّزت النظرة المذكورة، ثم نشوء العلاقة بين القوات الكردية الناشئة في سورية وبين الولايات المتحدة والتحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ثم ترسيخ سلطة الإدارة الذاتية التي عرضت قدرة جيدة على ضبط المنطقة وملء فراغ الدولة الغائبة، وإدارة ملف آلاف من معتقلي “داعش”، هذا كله وسط جو متوتر عسكرياً وأمنياً وسياسياً.
إذا كان مسار الحدث قد أفضى إلى توضع الإدارة الذاتية وثباتها، فإن المعضلة العميقة التي تواجهها أنها، في السياق “العدائي” الذي نشأت فيه، تحتاج حماية دائمة، ذلك أنها نشأت على الضد من إرادة أطراف مجاورين أكثر ثباتاً منها (تركيا، نظام الأسد، المعارضة السورية العربية لنظام الأسد)، ما يجعل من الصعب بقاء الإدارة الذاتية على المدى البعيد إلا برضى هذه الأطراف. يزيد من تعقيد الأمر أن الإدارة الذاتية لا تمثّل كل الكرد، وأن هناك طرفاً كردياً وازناً (المجلس الوطني الكردي) غير راض بها، طالما أنه خارجها، والراجح أن من الصعب على الإدارة استيعابه. المفارقة أن حرص الإدارة الذاتية على الاستمرار في وجه التهديدات الدائمة والجو العدائي وعدم الرضا العام من حولها، يدفعها أكثر إلى الاستمرار في علاقتها مع حزب العمال الكردستاني، للحصول على مزيد من الدعم العسكري، ومزيد من التماسك الداخلي، الأمر الذي يزيد في عدائية المحيط لها.
يمكن القول، بإيجاز، إنّ مأزق الإدارة الذاتية في شمال شرق سورية، هو في فشلها في كسب دعم سوري عربي واسع لها، فهي مرفوضةٌ من قطاع واسع من جمهور النظام ومن جمهور المعارضة، لأسبابٍ مختلفة، وتحتاج كي تستمر إلى فرض نفسها على الواقع السياسي في سورية. وعليه، إما أن تستطيع الإدارة الذاتية أن تفرض نفسها بصورة دائمة، أو أن تستطيع أن تكون جزءاً من حلٍّ توافقي سوري يرضى بها السوريون العرب من خلاله. نعتقد أنّ الخيار الثاني هو الضمان، ونتمنّى أن نمتلك ما يكفي من الاعتقاد بإمكانيته.
المصدر: العربي الجديد