بينما يُتوقع أن تمر أسابيع قبل أن يتمكن الرئيس المكلف نجيب ميقاتي من تشكيل حكومته، أو الإبقاء على حكومة تصريف الأعمال الحالية، مع استمرار الصراع بين القوى السياسية والطائفية ورفع الشروط المرتبطة بالاستحقاق الرئاسي وبملفات أخرى محلية وإقليمية، عاد ملف الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل إلى الواجهة، بعدما أعلنت واشنطن أن المبعوث الأميركي لشؤون أمن الطاقة العالمي آموس هوكشتاين أحرز تقدماً مع المفاوضين الإسرائيليين.
الإعلان الأميركي مهم بالنسبة إلى لبنان الذي يسعى من خلال رئيسه ميشال عون إلى تحقيق إنجاز قبل انتهاء العهد في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. لكنه في المقابل يطرح تساؤلات عدة، أبرزها ما إذا كان هوكشتاين قد تمكن فعلاً من التقدم لاستئناف المفاوضات اللبنانية – الإسرائيلية غير المباشرة للتوصل إلى اتفاق، أو أنه لمنع التصعيد، والإبقاء على الستاتيكو القائم تحضيراً لسلسلة جولات من التفاوض خلال المرحلة المقبلة.
الوقائع تشير إلى أن إسرائيل التي دفعت بالسفينة اليونانية إلى حدود الخط 29، وبدأت بتجهيز منصاتها، يمكنها البدء باستخراج الغاز خلال ثلاثة إلى أربعة أشهر، أي قبل حلول فصل الشتاء، وبالتالي تراهن على تصديره إلى أوروبا المأزومة في مجال الطاقة، ليحل مكان الغاز الروسي. الأميركيون تدخلوا قبل أن تتأزم الأمور ميدانياً لإعادة التفاوض في ملف ترسيم الحدود البحرية الذي كاد أن يتفجر، حيث من المتوقع أن يُبلغ الوسيط آموس هوكشتاين الردود الإسرائيلية على الطلب اللبناني باعتماد الخط 23 وحقل قانا كاملاً. ويرجح أن تتولى السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا، التي عادت إلى لبنان من واشنطن، وضع المسؤولين اللبنانيين بأجواء هوكشتاين، على الرغم من أن الأمم المتحدة تدخلت أيضاً في الملف وهي تحاول عبر مبعوثيها لعب دور متصل بالمهمات التي تتولاها عبر قوات اليونيفيل في جنوب لبنان.
حتى الآن لا شيء معلناً في ما يتعلق بالرد الإسرائيلي على الموقف اللبناني الذي أُبلغ لهوكشتاين، وإن كان جرى تسريب معلومات عن أن إسرائيل لم ترفض المقترح اللبناني، وهي تقبل بالخط المتعرج الذي يرفضه لبنان في الأساس. وهذا يعني أن تل أبيب تريد الحصول على ما يوازي مساحة حقل قانا الذي يطالب به لبنان، ما يعني العودة إلى نقطة الصفر أو إلى البدء من جديد مع مقترحات هوكشتاين الأولى، أي “حقل مقابل حقل”.
ويبدو أن لبنان في هذه الحالة سيخسر على أكثر من صعيد. إذا بقي الوضع على ما هو عليه قد تبدأ إسرائيل باستخراج الغاز خلال أشهر، فيما المسؤولون اللبنانيون يصرون في موقفهم على الخط 23 وحقل قانا، من دون أن يكون لبنان قد حدد نقطة انطلاق رسمية لحقوقه لدى المجتمع الدولي. وهذا يعني أن تهديدات “حزب الله” بتفجير المنصة الإسرائيلية أو بقصفها إذا بدأت باستخراج الغاز، غير مغطى لبنانياً ولا يستند إلى أي ملفات في الأمم المتحدة، ما دام الموقف اللبناني الذي أُبلغ للأميركيين لم يشمل حقل كاريش ولا الخط 29، أي أن لبنان تنازل عن الـ2290 كيلومتراً مربعاً في البحر، وبالتالي فقد حقه بالمطالبة بحصة في حقل كاريش.
في المقابل، تستند إسرائيل إلى ما تعتبره حقاً لها. حقل كاريش كاملاً. فلبنان لم يطالب بحصة منه بتنازله عن الخط 29، فيما تقدم الإسرائيليون للمطالبة بحصة لهم من حقل قانا والخط 23، أي الـ860 كيلومتراً مربعاً، وإن كان الأميركيون قد يضغطون لمنح لبنان هذه المساحة في مقابل تمكن إسرائيل من استغلال حقل كاريش والبدء باستخراج الغاز. أما الخطر في ضعف الموقف اللبناني فهو أنه يمكّن إسرائيل من التسلل من ثغراته والمطالبة بحصة من حقل قانا الممتد بين الخطين 23 و29، وهو مطلب يتطابق مع اقتراح الخط المتعرج الذي اقترحه الأميركيون. وهكذا يبقى التفاوض مفتوحاً بلا تصعيد، لا من “حزب الله” ولا من إسرائيل التي تبدأ بالاستفادة من كاريش.
في كل حال، تشير المعلومات إلى أن الترسيم النهائي غير قابل للحل قبل انتهاء ولاية الرئيس اللبناني ميشال عون، لكن ذلك لا يعني أن الأمور قد تصل إلى طريق مسدود، وأن الحرب باتت خياراً وحيداً، فالظروف الإقليمية والدولية لا يبدو أنها مواتية للتصعيد في هذه المنطقة الحساسة، إذ إن الوضع اللبناني المتدهور والأزمة في إسرائيل الذاهبة إلى انتخابات مبكرة، وانشغال العالم بتداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية، تؤكد أن لا أحد يريد حرباً الآن، خصوصاً أن هناك حراكاً أميركياً نحو المنطقة، إن كان في زيارة الرئيس جو بايدن أو عبر وسطاء، إضافة إلى لقاءات القمة بين أكثر من زعيم في المنطقة. ولا يبدو أن التهديدات المتبادلة بالتفجير والتدمير، قد تذهب إلى الحرب، بل محاولة لتحسين الشروط.
وما دام هوكشتاين لم يبلغ لبنان رداً إسرائيلياً حاسماً على الطلب اللبناني، يكون هدفه في المرحلة الراهنة منع الصدام الذي ستكون له ارتدادات على الدول كلها. وحتى الآن ترفض إسرائيل وقف عمل الباخرة اليونانية، من دون أن يعني ذلك أنها دخلت عمق الخط 29 المتنازع عليه. وعلى هذا لن يتجه لبنان أو “حزب الله” إلى التصعيد، لكن ستتكثف الاتصالات اللبنانية – الدولية، خصوصاً مع الأميركيين للوصول إلى حل، مع تأكيد رفض الاستخراج الإسرائيلي للغاز أو بدء عمل المنصة الإسرائيلية في المنطقة المتنازع عليها. فرئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون، سيعتبر أن وقف عمل الباخرة على حدود الخط 29 بمثابة إنجاز له يمنع التقدم الإسرائيلي، من دون أن يعني ذلك أن إسرائيل لن تحاول استغلال نقاط الضعف اللبنانية والبدء بتشغيل منصتها لاستخراج الغاز.
الوجهة المتوقعة ستكون باستمرار مهمة هوكشتاين إلى أن تنضج ظروف مواتية تسمح بالوصول إلى تسوية أو حل، وعليه سيبلغ لبنان أنه مستمر بمساعيه وبإدارة التفاوض غير المباشر، مع احتمال دخول الأمم المتحدة على الخط ومواكبتها لملف ترسيم الحدود البحرية، وإرسال بعثات ووفود إلى إسرائيل ولبنان، إلى أن تتضح وجهة المفاوضات النووية غير المباشرة، وأيضاً المحادثات الإقليمية وفي مقدمها الإيرانية – السعودية، وما سينتج أيضاً من زيارة بايدن للمنطقة ولقائه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
وفي انتظار تفاهمات أو تسويات، يستمر الأميركيون في إدارة التفاوض وإبقاء الوضع على ما هو عليه، أي منع التصعيد إلى مرحلة تؤدي إلى الحرب الشاملة.
المصدر: النهار العربي