لا صوت يعلو على صوت اتفاقات الغاز. وفي هذا الصخب، لم يعد لدى أحد أدنى استعداد للتوقف عند مقتضيات التاريخ والجغرافيا والحضارة والثقافة، إذ صار المعيار هو الحصول على دور في عرض الغاز، الذي ينفرد ببطولته الكيان الصهيوني، ويتولّى شؤون إنتاجه وإخراجه.
تبدو الأمة كلها الآن وكأنها قرّرت أن تحيا بالغاز، ومن أجل الغاز، وتتنافس أطرافها على من يكون لسلطة الغاز أقرب، من دون أن تلتفت إلى أنها بصدد أبشع عمليات الاختناق الحضاري، وتتهيأ بسعادة بالغة إلى شنق نفسها عن طريق ما يمكن أن تطلق عليه “اسفكسيا الغاز”.
من أقصى شمال المتوسط، إلى الجنوب عند منابع النيل في أفريقيا، تمدّ إسرائيل ساقيها، معلنة هيمنتها على مصادر المياه والطاقة، فيما تهرول حكومات المنطقة نحوها، تعرض خدماتها، أو تطمع في فتاتٍ من الثروات المسروقة من فلسطين المحتلة.
نشوة الغاز تجرف في طريقها الخرائط التاريخية، فلم تعد ثمّة قداسة للحدود الجغرافية، إذ كل شيء قابل للتفاوض والمقايضة، وكأن التراب الوطني مقدّس، بينما مياه الوطن ليست كذلك، ليصبح طبيعيًا أن تتنازل البلاد عن حدودها البحرية، ولا تمانع في تسييل خطوط الطول والعرض وتطويعها، من أجل المشاركة في ولائم الغاز المصنوعة من كبد فلسطين.
على أن الأفدح من تطويع الحدود المائية والبرّية لسطوة زمن الغاز الإسرائيلي، هو إخضاع حدود ومفاهيم الكرامة الوطنية والسيادة، ومنطق المقاومة والنضال، وتعريف العدو والشقيق والصديق، فيحدُث في مصر، مثلًا، أن يصير الحصول على جزء من المسروق من فلسطين انتصارًا وطنيًا، وإنجازًا سياسيًا يعبر عن كفاءة النظام الحاكم وشطارته، أو مكسبًا غير مسبوق بتعبير إعلام صفيق لا يجد غضاضةً في أن تكون مصر مجرّد موزّع، بأجر يومي، لبضاعة الغاز الحرام التي تبيعها تل أبيب أوروبا.
في الحالة المصرية، يبدو الأمر أبعد من الخيال، إذ لا ردّ فعلٍ هناك لأيٍّ من القوى الوطنية، أحزابًا أو نقابات، على الخضوع الرسمي الكامل للتاجر الإسرائيلي اللص، وكأن عملية إعطاب وتخريب كاملة تمتا بنجاح للشعور الوطني العام، فلم يستفزّه ذلك المشهد المشين لتوقيع الاتفاقيات مع الكيان الصهيوني والاتحاد الأوروبي بالقاهرة.
الكل منشغلٌ في بروباغندا الحوار الوطني المزعوم، ومجنون حفلات العفو الرئاسي، ولا أظن أن أحدًا يمكن أن يقبل أن تكون هذا المناخ الوطني الكاذب كافيًا لتمرير كوارث وجرائم سياسية، فعن أي حوارٍ “وطني” يمكن أن تتحدّث بينما الوطن نفسه ينتحر تاريخيًا وحضاريًا أمام أعدائه؟.
من المهم في هذا الصدد التأكيد على أن كل هؤلاء، الذين خرجوا من السجون، يستحقّون الحرية، بل حرّيات كثيرة، سواء كانت الوسيلة منح عفو رئاسي، أو قرارات إخلاء سبيل يغطّي بها النظام جرائمه المرتكبة بحق أجيال قادمة في مصر وفلسطين، غير أن ذلك لا يكفي لتبرير حالة الصمت العام، وكأن كل الأطراف ارتضت صفقة “الحرية مقابل الغاز”، والتي هي أشد خطرًا وفتكًا من قنابل الغاز التي يعرفها جيدًا كثيرون ممن خرجوا من السجون أخيرا.
على أن الأمر لا يقتصر على مصر، فالكل مستجيبٌ في رضوخ وإذعان لمنطق الغاز المكتشف، وبدلًا من أن تكون هذه الثروات التي وهبها الله هذه الأمة مصدر قوة وصمود وقدرة على تعظيم مواقفها لمواجهة أعدائها ومساعدة أشقائها، فأن تتحوّل إلى نقاط ضعف إضافية، تجعل أصحابها ينحنون أمام العدو، ويدوسون على كل الاعتبارات التاريخية والإنسانية، ليتحوّل البحر المتوسط، في لحظةٍ، إلى مدفن لكل المعاني والقيم والشعارات، تبدو معها الأمة مصمّمة على خنق نفسها بالغاز، تمامًا كما احترقت بالبترول في السابق، وأحرقت ماضيها ومستقبلها، لتستمتع بحاضرٍ يحدد معالمه العدو، كما هويتها الحضارية، وجلست تتسوّل من أعدائها أمنها القومي.
المصدر: العربي الجديد