أدخل غزو أوكرانيا العالم في أزمة طاقة. منذ أن بدأت القوات الروسية في التدفق عبر حدود البلاد، ارتفعت أسعار النفط بأكثر من الربع. وتضاعفت أسعار الغاز تقريباً. والتوقعات لكلا السوقين ليست واعدة. ونظراً إلى أن الدول الغربية تستخدم العقوبات للحد من قدرة روسيا على تمويل حربها بعائدات النفط والغاز، فمن المرجح أن تظل أسعار الطاقة مرتفعة ومتقلبة. وفي سياق متصل، تتداخل حالة الارتياب في زمن الحرب مع المخاوف في شأن تغير المناخ، ما يؤدي إلى مزيد من القلق في شأن مستقبل الطاقة في العالم. في الواقع، كان متوجباً على البلدان أن تبدأ في الابتعاد عن الوقود الأحفوري منذ عقود لحماية كوكب الأرض. حاضراً، صار عليها فعل ذلك في وقت يدفع فيه الناس ثمناً مرتفعاً بشكل متزايد [لعدم القدرة على التصدي لأزمة المناخ].
وبينما تتطلع الدول إلى خفض تكاليف الطاقة المرتفعة وفصل نفسها عن روسيا، فيما تكافح تغير المناخ في الوقت نفسه، أعرب كثيرون عن اهتمامهم المتجدد بالطاقة النووية. ومن السهل معرفة السبب. في الحقيقة، تعد الطاقة النووية بالفعل إحدى أكبر مصادر الطاقة الخالية من الكربون في العالم، بل إنها مسؤولة عن 25 في المئة من كهرباء الاتحاد الأوروبي. خلافاً لمعظم أشكال الطاقة المتجددة، على غرار الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، يمكن للطاقة النووية أن تنتج بشكل موثوق كميات كبيرة من الكهرباء كل ساعة خلال السنة، إضافة إلى أنها ساعدت أوروبا بالفعل على الابتعاد عن الوقود الأحفوري المستخرج في أماكن أخرى من العالم، بما في ذلك الغاز الطبيعي من روسيا.
ولكن على المدى القصير، فإن زيادة اعتماد أوروبا على الطاقة النووية لن تحرر القارة من الوقود الروسي. ومثلما أصبحت أوروبا معتمدة على النفط والغاز الروسيين، كذلك أصبح جزء كبير من العالم يعتمد على روسيا من أجل الحصول على المواد اللازمة لصنع الطاقة النووية. في الواقع، تمتلك روسيا نحو نصف القدرة العالمية في تخصيب اليورانيوم المستخدم في صنع الوقود النووي، ويعتمد 40 في المئة من الطاقة النووية المنتجة في أوروبا على اليورانيوم من روسيا أو كازاخستان وأوزبكستان، وهما حليفان مقربان من الكرملين. بطريقة موازية، يعمل نحو نصف محطات الطاقة النووية الأميركية بكاملها (ما يوازي عشرة في المئة تقريباً من إجمالي توليد الكهرباء في الولايات المتحدة) بالاعتماد على الواردات من تلك البلدان الثلاثة (وهي حقيقة يمكن أن تفسر سبب الضغط الذي مارسه القطاع النووي الأميركي لاستبعاد اليورانيوم من العقوبات المفروضة على واردات الطاقة الروسية). في المقابل، تهيمن روسيا على سوق تصدير محطات الطاقة النووية وبنائها، خصوصاً في الاقتصادات الناشئة. واستطراداً، إن أقرب منافسيها هو الصين، وهي دولة استبدادية أخرى. إذا فمن الممكن أن تقضي الدول المتعاقدة مع الصين أو روسيا عقوداً في الاعتماد عليهما في الوقود النووي والخدمات النووية.
وبهدف إنهاء هيمنة روسيا على الأعمال التجارية النووية (ومنع الصين من أن تأخذ مكانها)، تحتاج الدول الديمقراطية إلى أن تكون جادة في شأن دعم صناعاتها النووية المحلية، خصوصاً مع وصول التقنيات الجديدة والمبتكرة إلى السوق. كذلك، يجب عليها تنفيذ سياسات تخلق طلباً على الطاقة النووية كجزء من أجنداتها المناخية الأوسع. وعلى نحو مماثل، عليها الاستثمار في إنشاء مرافق التصنيع النووي التي يمكن أن تزود سوقاً عالمية متنامية بشكل يمكن الاعتماد عليه. في الحقيقة، يعتبر تحقيق ذلك أمراً بالغ الأهمية في محاربة تغير المناخ وتقليص القوة العالمية للأنظمة الاستبدادية.
القوة الروسية
على مدى العقدين الماضيين، أصبحت روسيا المورد الذي يلجأ العالم إليه للحصول على التكنولوجيا النووية، خصوصاً بالنسبة إلى الدول التي تبني مشاريعها النووية الأولى، إذ تتمتع روسيا بخبرة عميقة في بناء المحطات النووية وصيانتها، وتقدم أيضاً متجراً شاملاً للعناصر اللازمة لإنشائها، على غرار المفاعلات، والوقود، والتمويل، وحتى تدريب العمال. منذ عام 2000، وقعت روسيا اتفاقات تعاون نووي ثنائية مع 47 دولة، ولديها محطات طاقة كبيرة قيد الإنشاء في بنغلاديش وبيلاروس وتركيا. إضافة إلى ذلك، تشارك روسيا في مشاريع نووية عبر أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط وأميركا الجنوبية.
واستطراداً، تنشئ روسيا مشاريع نووية أيضاً في أوروبا الشرقية. في الواقع، على مدى عقود، مثلت أوكرانيا أحد أهم العملاء النوويين لروسيا. وقبل أن تغزو روسيا البلاد للمرة الأولى في عام 2014، كانت أوكرانيا تستمد 95 في المئة من وقودها النووي من روسيا، ما يوازي معظم إمداداتها الكهربائية، ولكن بعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم ودعمت التمرد في إقليم “دونباس”، سرعت أوكرانيا خططها الهادفة إلى تنويع مصادر وارداتها من اليورانيوم. وبطريقة موازية، بدأ عدد من الدول الأوروبية الأخرى في التعبير عن مخاوفه في شأن الاعتماد على التكنولوجيا النووية الروسية. وقد ثبت صحة تلك المخاوف في فبراير (شباط) 2022. ومنذ ذلك الحين، تحرك الغرب بسرعة محاولاً فطم نفسه عن موارد الطاقة الروسية، بما في ذلك الطاقة النووية. ومثلاً، في 2 مايو (أيار)، أعلن كونسورتيوم فنلندي أنه سيلغي عقد بناء مفاعل روسي بقدرة 1200 ميغاواط/ساعة.
بطبيعة الحال، يتمثل أبرز ما تعتمد عليه أوروبا في نهاية المطاف في الفحم والنفط والغاز الروسي، وليس الطاقة النووية. في الحقيقة، في التوجيهات التي أعطتها “وكالة الطاقة الدولية” International Energy Agency حول أفضل السبل التي يمكن أن تتخلى بها الدول عن الوقود الروسي، سلطت الضوء على الدور الذي يمكن أن تلعبه الطاقة النووية. وكذلك أشارت “وكالة الطاقة الدولية”، إلى أن الطاقة النووية “أكبر مصدر للكهرباء المنخفضة الانبعاثات في الاتحاد الأوروبي”، ويمكن أن يؤدي توسعها إلى زيادة كبيرة في قدرة وصول القارة إلى الطاقة الخالية من الوقود الأحفوري. وفي المقابل، لا يوافق الجميع على ذلك. وكذلك من اللافت أن خطة المفوضية الأوروبية في خفض واردات الغاز الروسي لا تذكر الطاقة النووية، وفي المقابل، تمسكت ألمانيا بخططها بإغلاق مفاعلاتها النووية الثلاثة المتبقية مع حلول نهاية العام الحالي (على الرغم من أن الدولة استوردت من روسيا كمية من الوقود الأحفوري منذ بداية الغزو بقيمة عشرة مليارات يورو تقريباً). في المقابل، وعدت دول أخرى كبلجيكا واليابان، باستثمارات جديدة في الطاقة النووية بهدف تقليل اعتمادها على الغاز الروسي. في الواقع، إنها تستعيد تقليداً قديماً يتمثل باستخدام الطاقة النووية من أجل تعزيز استقلالية الطاقة. وفي مقلب مغاير، انتقلت الدول التي تعاني تضاؤل إمدادات الفحم المحلية على غرار المملكة المتحدة واليابان، إلى استخدام الطاقة النووية بعد الحرب العالمية الثانية بهدف تغذية قطاعاتها الصناعية المتنامية. وبعد الحظر النفطي في سبعينيات القرن الماضي، أنشأت فرنسا والسويد أيضاً بنية تحتية نووية ترمي إلى تقليل اعتمادهما على الشرق الأوسط.
على الرغم من أن الطاقة النووية ضرورية لتحرير أوروبا من الغاز الروسي، فإن هذا لا يعني أن تلك الدول لن تبقى معرضة للنفوذ الروسي. وحتى إذا ألغت الدول المشاريع النووية مع روسيا، فستتفوق الصين قريباً على فرنسا لتصبح ثاني أكبر منتج للطاقة النووية، مع طموحاتها بالسيطرة على سوق التصدير العالمي.
في الحقيقة، تمثل جميع مصادر الطاقة الخضراء تقريباً معضلات أخلاقية. واستطراداً، تصنع جمهورية الكونغو الديمقراطية حالياً 60 في المئة من الكوبالت في العالم، وهو معدن بالغ الأهمية للسيارات الكهربائية، بيد أن المنتجين في البلاد خضعوا لتدقيق من قبل المنظمات الدولية في شأن ممارسات حقوق الإنسان، بما في ذلك استخدامهم عمالة الأطفال. في عام 2021، أدرجت إدارة بايدن عدداً من شركات الطاقة الشمسية الصينية على اللائحة السوداء بعد اتهامها باستخدام العمالة القسرية وانتهاكات أخرى. وفي سياق متصل، تعتبر روسيا منتجاً كبيراً لمادة النيكل، وهي معدن بالغ الأهمية لبطاريات السيارات الكهربائية. وقد أدت المخاوف في شأن العقوبات المستقبلية على النيكل، أو الاختلالات الأخرى في توريده، إلى ارتفاع سعره إلى أعلى مستوى في 11 عاماً.
سلسلة ردود الفعل
كي يحرر العالم نفسه من الاعتماد على الطاقة الروسية، سيحتاج إلى أن يكون أكثر استباقية، وأن يضمن أن تكون سلاسل إمداد الطاقة الخاصة به مستدامة وأخلاقية. ولا يعني ذلك العودة إلى الانعزالية في مجال الطاقة. ويرجع ذلك إلى أن أنظمة إنتاج الطاقة الحديثة معقدة ومترابطة، لا سيما تلك التي تعتمد على المعادن المهمة غير الموزعة بالتساوي في جميع أنحاء العالم. ويشير ذلك إلى أن الاستقلال الحقيقي في مجال الطاقة، الذي يتمثل في خلق الدول الطاقة بالكامل من تلقاء نفسها، لم يعد عملياً. بدلاً من ذلك، يجب أن تركز الديمقراطيات على تعزيز ترابط طاقتها مع شركاء موثوق بهم.
إلى حد ما، سبق أن أصبحت هذه العملية قيد التنفيذ في مجال الطاقة النووية. في عام 2020، ألغت رومانيا اتفاقاً مع شركة صينية مملوكة للدولة في شأن مفاعلين نوويين، لأنها فضلت المضي قدماً مع حليف في “الناتو”. كذلك تنافست الصين وروسيا على مناقصة نووية في جمهورية التشيك، لكن الحكومة استبعدتهما في النهاية من عملية مشاركة الوثائق الرسمية، موضحة بشكل صريح أن البلدين كلاهما “غير مدعو” للدخول في المناقصة. في منحى مقابل، اعتبرت الشركات الصينية من كبار المستثمرين في مشروعين للطاقة النووية في المملكة المتحدة. وعلى الرغم من ذلك، في سبتمبر (أيلول) 2021، أعلنت الحكومة البريطانية أنها تحاول فرض بيع حصة شركة “مجموعة الطاقة النووية العامة الصينية” في أحد المشاريع. في عام 2019، أعلنت شركة نووية أميركية شارك في تأسيسها بيل غيتس أنها ألغت مشروعاً لبناء مفاعل تجريبي في الصين بعد أن فرض الرئيس الأميركي دونالد ترمب مزيداً من القيود التجارية.
في مسار موازٍ، توقفت الصناعات النووية المحلية في الغرب خلال السنوات الأخيرة، بالتالي تجد الشركات النووية الأميركية والأوروبية حاضراً صعوبة في إيجاد بدائل مناسبة عن البائعين الروس والصينيين التابعين للدولتين كلتيهما. وللحاق بالركب، يجب على حكومات تلك الدول صياغة سياسة صناعية قديمة تعتمد على الاستثمار في قدرات التصنيع المحلية بحيث تشمل كامل حلقات سلسلة التوريد النووية [كي تكون قادرة على إنتاج الطاقة بنفسها في حال حدوث انقطاع كلي أو جزئي في تلك السلسلة]. علاوة على ذلك، سيتعين عليها [الصناعات النووية في الغرب] أن تعرض بنجاح تقنيات نووية جديدة قابلة للتسويق عالمياً. ويعني ذلك أنه يجب على الدول الغربية زيادة تمويل مشاريع التصدير النووي من خلال بنوك التصدير والاستيراد الخاصة بها والتمويل الإنمائي، وأيضاً عن طريق دفع المصارف الكبيرة المعنية بالاستثمار والتنمية إلى تغيير سياساتها في شأن دعم الطاقة النووية.
لن يكون تحقيق ذلك سهلاً ولا رخيصاً. في المقابل، سيستفيد ذلك التغيير [في مجال الطاقة النووية] في الغرب من قطاعه النووي الديناميكي والمبتكر. على الرغم من أن المشاريع النووية التقليدية والواسعة النطاق واجهت صعوبات على الصعيد المحلي في الولايات المتحدة وأوروبا، فإن مجموعة جديدة من التقنيات النووية يمكن أن تبدأ في دفع السوق باتجاه صالحها، إذ تملك الولايات المتحدة أكثر من 60 شركة تعمل على تقنيات المفاعلات المتقدمة، بما في ذلك شركة “نيوسكايل باور” NuScale Power التي تسوق مفاعلات معيارية صغيرة small modular reactors. وقد توصلت إلى اتفاقات في شأن نشرها في بولندا ورومانيا (علماً بأن الدولة الأخيرة وافقت أيضاً على استيراد مفاعلات من كندا). على نحو مماثل، تعمل الشركة البريطانية “رولز رويس” Rolls Royce على تطوير تقنية المفاعل المعياري الصغير الخاصة بها. وقد وقعت مذكرة تفاهم مع شركة المرافق العامة “إكسلون” Exelon الأميركية، ومؤسسات كبرى في جمهورية التشيك. وأخيراً، عملت شركة “وستنيغهاوس” Westinghouse، وهي شركة طاقة نووية أميركية ساعدت أوكرانيا بشكل كبير في تقليل اعتمادها على موسكو، على توسيع تعاونها مع جمهورية التشيك (وسلوفينيا) بهدف استكشاف فرص نشر أحدث مفاعلاتها الكبيرة من نوع “إي بي 1000” AP1000. وفي أبريل (نيسان) 2022، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أنها ستساعد لاتفيا في دراسة جدوى الطاقة النووية.
في الحقيقة، تجسد تلك الأنواع من التعاون بين الديمقراطيات المتحالفة ما يحتاج إليه الكوكب بالضبط كي ينشئ سلاسل إمداد للطاقة تكون آمنة وأخلاقية ومستدامة، إضافة إلى أنها ستساعد الغرب في بناء قدرة على مواجهة نزوات الأنظمة الاستبدادية. ومن خلال الابتعاد عن الوقود الأحفوري، ستساعد الدول أيضاً على تجنب نقص الإمدادات وصدمات الأسعار. في المقابل، تعبر عمليات التعاون تلك عن اعتراف بأن الحل المناسب للهيمنة الروسية على الطاقة والتغير المناخي، لا يتمثل في محاولة تنفيذ سياسة القومية البيئية. عوضاً عن ذلك، يتطلب الأمر أن تعمل الدول المتحالفة معاً من أجل تصميم أنظمة وتقنيات طاقة تكمن قوتها في التعاون والترابط.
* جيسيكا لوفرينغ، المديرة التنفيذية لـ”مجموعة الطاقة الجيدة” Good Energy Collective، المنظمة البحثية التقدمية التي تعمل على السياسة النووية المتقدمة. وهي أيضاً زميلة في “مركز الطاقة من أجل النمو” Energy for Growth Hub وفي مبادرة “الطريق الأسرع نحو تحقيق صفر في الانبعاثات”Fastest Path to Zero في جامعة ميشيغان.
** هافارد هالاند، خبير اقتصادي رفيع الشأن في مركز التنمية التابع لـ”منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية”. شغل في السابق منصب خبير اقتصادي رفيع الشأن في “البنك الدولي”، وعمل أستاذاً زائراً في جامعة ستانفورد.
فورين آفيرز يونيو (حزيران)/ يوليو (تموز) 2022
المصدر: اندبندنت عربية