الرهان الإيراني الأوروآسيوي

كيفن ليم

خلال العقد الماضي وعلى مدار فترة جائحة فيروس “كوفيد-19″، هيمنت الصين على التجارة الخارجية لإيران. غير أن طهران أعادت تنظيم دبلوماسيتها الاقتصادية التي شهدت حركة تغيير كبيرة في الآونة الأخيرة مع توجّه أنظارها إلى الشمال والشرق أيضاً. وصادف 27 نيسان/أبريل مرور ستة أـشهر على دخول اتفاقية مؤقتة بشأن “منطقة التجارة الحرة” حيز التنفيذ بين إيران و “الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي [الأوراسي]” (“الاتحاد”)، وهو منظمة تضم أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وروسيا. وتم التوقيع على الاتفاقية بعد تسعة أيام من انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي الإيراني في أيار/مايو 2018، وستصبح [اتفاقية] “منطقة التجارة الحرة” دائمة في غضون ثلاث سنوات إذا انتهت المحادثات بنجاح.

وهذا هو أول اتفاق اقتصادي إقليمي من نوعه بالنسبة لطهران، التي لا يزال طلبها لعضوية “منظمة التجارة العالمية” جامداً منذ عام 1996. ويبدو أن الجمهورية الإسلامية تنظر إلى “الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي” وسكانه البالغ عددهم 183 مليون نسمة كسوق مهمة – وأداة مفيدة لتخفيف العقوبات الأمريكية.

الدول التجارية

تفرض الاتفاقية تعريفاتٍ تفضيلية على 862 فئةً من المنتجات الزراعية والصناعية، منها 502 إيرانية. وتختلف هذه التعريفات، ويتم إلغاؤها تماماً في بعض الحالات. وفي المعدل، يمكن القول إنّ إيران لا تزال تفرض رسوماً أعلى على البضائع المستوردة من “الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي” من تلك التي يفرضها “الاتحاد” على البضائع المستوردة من إيران. وفي موازاة ذلك تستمر تجارة التعريفات غير التفضيلية.

ووفقاً للإحصاءات التي نشرتها الهيئة التنفيذية لـ “الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي”، و “اللجنة الاقتصادية الأوروبية الآسيوية”، انخفضت التجارة بين أعضاء “الاتحاد” والجمهورية الإسلامية من 2.7 مليار دولار في 2018 إلى 2.45 مليار دولار في 2019، مقارنة مع ذروتها التي بلغت 3 مليارات دولار في 2016، عندما دخل الاتفاق النووي الإيراني حيز التنفيذ. ووفقاً للحسابات المستندة على بيانات “صندوق النقد الدولي”، تتوافق أرقام السنوات 2016 و 2018 و 2019 مع 3.3٪ و 2.3٪ و 4.2٪ على التوالي من تجارة السلع العالمية لإيران. وعلى العكس من ذلك، تشكل التجارة مع إيران 0.3٪ من الإجمالي العالمي لـ “الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي”.

وبشكل أكثر تحديداً، تُظهر بيانات “اللجنة الاقتصادية” لعام 2019 أن ما يقرب من نصف صادرات إيران إلى “الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي” والتي تبلغ 823 مليون دولار تذهب إلى روسيا، و 40٪ إلى أرمينيا، و 10٪ إلى كازاخستان. ويشمل معظم هذا الحجم الفواكه والخضروات والمكسرات [كالبندق، على سبيل المثال] والأسمنت ومنتجات المعادن الحديدية والمنتجات البترولية والغاز الطبيعي/المسال.

وعلى الجانب الآخر، جاءت ما يقرب من ثلاثة أرباع من واردات إيران من “الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي” البالغة قيمتها 1.6 مليار دولار من روسيا، وأقل من 20 ٪ من كازاخستان، و 5 ٪ من أرمينيا. وبالكاد كان لبيلاروس وقيرغيزستان أي نسبة تذكر من الواردات. واستحوذت ثلاث سلع فقط على 69 ٪ من الواردات الإيرانية، وهي: زيت عباد الشمس للطهي، والشعير والذرة لتغذية الماشية والدجاج بشكل أساسي. وانخفضت واردات القمح بشكل هائل من مليونَي طن بقيمة 510.6 مليون دولار في عام 2014 إلى 56.353 طن بقيمة 12 مليون دولار في عام 2019. وهذا الهبوط – من 22 ٪ من إجمالي واردات إيران من “الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي” إلى 0.74 ٪ فقط – هو برهانٌ على حملة الاكتفاء الذاتي التي تديرها القيادة الإيرانية لإنتاج الخبز وبعض السلع والمواد الغذائية الأساسية الأخرى.

ينبغي النظر إلى تجارة “الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي” في سياق تدفقات الأمن الغذائي الأوسع نطاقاً لإيران. ووفقاً لـ “معهد التخطيط الزراعي والاقتصادي والتنمية الريفية” الإيراني، فمن بين 9.3 مليار دولار من الواردات الزراعية خلال السنة المالية 2019/2020، تضمنت 8 مليارات دولار منها للذرة وحبوب البذور الزيتية وحدها (والتي شملت بذور زيت عباد الشمس).

الحواجز والمزايا

مع دخول اتفاقية “منطقة التجارة الحرة” حيز التنفيذ منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019، من المفترض من الناحية النظرية أن ترتفع قيمة الحركة التجارية الإيرانية مع “الاتحاد” هذا العام. ومع ذلك، يمكن أن تشكّل أي زيادة من هذا القبيل ثقلاً موازناً يعوّض عن العقبات التي تسببها العقوبات الأمريكية، والوباء المستمر، وأسعار النفط المتداعية. ويتوقع “صندوق النقد الدولي” عاماً ثالثاً على التوالي من النمو السلبي لإيران، مع احتمال تقلص “الناتج المحلي الإجمالي” بنسبة 6٪ في عام 2020. وعندما بدأ فيروس كورونا في الانتشار للمرة الأولى، فحتى أرمينيا المجاورة، على سبيل المثال، التي تعتمد على إيران في 5 في المائة من تجارتها، اضطرت لتعطيل حركة البضائع لمدة شهر كامل.

وهناك عقبة أخرى وهي أن [اتفاقية] “منطقة التجارة الحرة” تغطي فقط حوالي 50 ٪ من السلع المتداولة بين إيران و “الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي”، مع تحرير محدود. ولحماية الإنتاج المحلي وتعزيز الاكتفاء الذاتي، تحتفظ إيران بحد أدنى قدره 4٪ من الرسوم الجمركية الشاملة على الواردات. علاوة على ذلك، على الرغم من الفائدة المحتملة لـ “منطقة التجارة الحرة” ضد العقوبات الأمريكية، فإن “مركز أبحاث البرلمان” الإيراني ومسؤولي الدولة الآخرين يدركون جيداً أن عدم التوافق الاقتصادي مع “الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي” يمكن أن يمنع بلادهم من الاستفادة بصورة ملحوظة. على سبيل المثال، بصرف النظر عن أرمينيا، فإن صادرات الطاقة الإيرانية إلى الدول الأعضاء في “الاتحاد” لا تشكل أهمية كبيرة بالنظر إلى هيمنة روسيا في هذا القطاع.

وعلى الرغم من هذه العقبات، تحمل “منطقة التجارة الحرة” بعض الفوائد الاقتصادية البارزة لإيران. على سبيل المثال، تُحفز الاقتصاد غير النفطي للبلاد، الذي بدأ في التعافي قبل فترة الوباء مباشرة، على عكس قطاع النفط الخاضع لعقوبات شديدة. ووفقاً لبيانات الجمارك الإيرانية، ارتفعت قيمة التجارة غير النفطية مع “الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي”، ولا سيما منتجات الأغذية الزراعية، بنسبة 34 ٪ في السنة المالية 2018/2019. وفي وقت سابق من هذا الشهر، أعلن النائب الأول للرئيس الإيراني إسحاق جهانجيري أن ما يمثل أولوية للسنة المالية 2020/21، هو: الوصول إلى 48 مليار دولار من الصادرات غير النفطية إلى 15 دولة مجاورة، من بينها أرمينيا وكازاخستان وروسيا. وفي الوقت نفسه تقريباً، حدد مساعد وزير الصناعة والتعدين والتجارة لشؤون التخطيط والموازنة في إيران، سعيد زرندي، زيادة البديل عن الصادرات والواردات كأهداف استراتيجية رئيسية للحد من الضغط على احتياطيات طهران من العملات الأجنبية. إن التركيز بشكل أكبر على الصادرات الصناعية والعلمية والتكنولوجية عالية القيمة يمكن أن يمنح إيران ميّزة نسبية داخل “الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي”، أي في المرتبة الثانية بعد روسيا (وهو الأمر بالنسبة للخدمات، والاستثمار، وتدفقات رأس المال، التي تتجاهلها “منطقة التجارة الحرة”).

وحتى إذا عجزت تجارة إيران مع “الاتحاد” عن الارتفاع بوتيرة تصاعدية، فبإمكانها على الأقل أن تنمو بشكلٍ متناسب بفعل تراجع التجارة الإيرانية مع سائر دول العالم، كما تشير أرقام العام الماضي. وفي الواقع، إذا تسارعت عملية انحسار عولمة الوباء المتفشي وتنامت وتيرة إعادة فروع الشركات من الخارج إلى بلد المنشأ، فإن الاتفاقيات الخاصة بـ “مناطق التجارة الحرة” والنزعة الإقليمية قد تكسب من [هذه التطورات]. كما أن موقع إيران الجغرافي -الاستراتيجي الرئيسي سيساعد البلاد أيضاً – فالجمهورية الإسلامية هي حلقة رئيسية على طول “ممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب” الذي يربط الهند بروسيا عبر أذربيجان، بالإضافة إلى “الممر العابر للحدود بين الشمال والجنوب” الذي يربط كازاخستان عبر تركمانستان.

التعاون كأداة للمنافسة

ينبغي النظر إلى [اتفاقية] “منطقة التجارة الحرة” في السياق الأوسع نطاقاً، أي من منظار السعي الإيراني الدؤوب إلى نشر النزعة الإقليمية والتعاون الأوروآسيوي على نطاقٍ أكبر. ويلمّح تعامل إيران مع هيئتين إقليميتين أخريين – هما “منظمة التعاون الاقتصادي” و “منظمة شنغهاي للتعاون” – إلى ما قد ينتظر العلاقة مع “الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي”.

منذ أواخر عام 1992، شاركت إيران وتركيا وباكستان في قيادة “منظمة التعاون الاقتصادي”، والتي تضم أيضاً أفغانستان وأذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان. واستناداً إلى بيانات “صندوق النقد الدولي”، ارتفعت تجارة إيران مع الأعضاء الآخرين في “منظمة التعاون الاقتصادي” من أقل من 3.7 مليار دولار في عام 2003 إلى ذروة بلغت 22.3 مليار دولار في عام 2012، قبل أن تنكمش إلى 8.5 مليار دولار في عام 2019. وهناك عوامل عديدة تحد من فوائد “منظمة التعاون الاقتصادي” لإيران: فالكثير من تجارتها مدفوعاً بالاقتصاد التركي، وتظل التخفيضات التعريفية دون المستوى الأمثل على الرغم من التقدم في نقاط العبور الإقليمية، وتتنافس طهران بقدر ما تتعاون مع كل من إسلام آباد وأنقرة. ومع ذلك، تتمتع إيران بفائض تجاري ثابت داخل المنظمة، وتَوافق اقتصادي كبير مع تركيا، وسوق تصدير مغلق لها في أفغانستان.

وعلى العكس من ذلك، تواجه إيران عجزاً تجارياً ثابتاً مع “الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي”، والذي كان سيزداد سوءاً بسبب نقص الاستثمار الأجنبي المباشر القوي لولا الفائض التجاري العالمي لإيران. وفشلت التجارة مع روسيا – شريكها الرئيسي في “الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي” – في تجاوز 2 مليار دولار في حقبة ما بعد الاتحاد السوفيتي. وحتى بالمقارنة مع “منظمة التعاون الاقتصادي” سيئة الأداء نسبياً، يُظهر “الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي” القليل من الدلائل على أنه سيولّد فائدة اقتصادية قادرة على تغيير قواعد اللعبة بالنسبة لإيران.

أما بالنسبة لـ “منظمة شنغهاي للتعاون” – التي تتزعمها الصين وروسيا والتي يُنظر إليها غالباً على أنها ثقل موازن لـ “حلف شمال الأطلسي” والولايات المتحدة – فتحمل أبعاداً سياسية واستراتيجية وعسكرية أكبر بكثير من تلك التي تحملها “منظمة التعاون الاقتصادي”. وتضطلع إيران بدور المراقب في المنظمة منذ عام 2005، لكن طلب العضوية الذي قدّمته لم يلبَّ منذ سنوات حتى مع قبول الهند، المنافس الاستراتيجي الرئيسي للصين. وبالتالي، فإن تحوّل إيران نحو “منظمة شنغهاي للتعاون” هو أكثر رمزية من كونه جوهرياً، ومتسق مع جهودها المتوازنة القائمة منذ فنرة طويلة ضد واشنطن.

وفي الواقع أن التعامل الإيراني مع “الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي” يعكس هذه الذهنية – وعلى الرغم من افتقار “الاتحاد” إلى البعد العسكري العلني، إلّا أن أعضاءه الخمسة ينتمون في الوقت نفسه إلى “منظمة معاهدة الأمن الجماعي”، وهي منظمة مشابهة لـ “حلف شمال الأطلسي” (“الناتو”) ولكن برعاية روسية. بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من الشكوك المتبادلة والمنافَسة المستمرة على الغاز الطبيعي، إلّا أن إيران تتعاون مع روسيا في عدد من المجالات منذ فترة طويلة قبل [الاتفاق على] “منطقة التجارة الحرة”، من بينها التطوير النووي، وتكنولوجيا الصواريخ الباليستية، ونقل الأسلحة التقليدية، والمناورات البحرية، والتنسيق الجوي-الأرضي في الحرب في سوريا.

الخاتمة

ينطوي تعامل طهران مع أعضاء “الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي” على جوانب عديدة تتراوح بين المفيدة إلى حد ما (على سبيل المثال، العلاقات الاقتصادية الطفيفة مع أرمينيا واستعدادها لتعويض أذربيجان سياسياً) والطموحة البحتة (على سبيل المثال، العلاقات الشاملة مع روسيا البيضاء، باستثناء صفقات الأسلحة العرضية). ومع ذلك، يقدم الاتحاد، ككتلة، ما يشبه بالتجارة المؤكدة والدبلوماسية المضمونة اللتين قد تفيدان إيران المحاصرة. والوجه الآخر من العملة هو أن موسكو ستهيمن على الأرجح على أي شروط مرجعية وتبادلات أوسع – وهذا حقل ألغام سياسي للنخب الإيرانية التي لطالما رعدت من الاعتماد المفرط على القوى الأجنبية. على أي حال، وفي حين أن [الاتفاقية] المؤقتة لـ “منطقة التجارة الحرة” قد لا تحسّن حظوظ إيران بشكل كبير على المدى القريب، إلا أنها قد تساعد القيادة الإيرانية على منع الأمور من أن تصبح أكثر سوءاً في وقتٍ تتعاظم فيه الأزمات الداخلية والضغوط الغربية.

كيفن ليم، هو باحث دكتوراه في “كلية العلوم السياسية والحكومة والشؤون الدولية” في “جامعة تل أبيب”، ومساهم في شؤون “الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” لمُزوِّد المعلومات العالمي “آي.إج.إس. ماركيت” (IHS Markit).

المصدر: معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى