نظام خامنئي يمر بمرحلة تُماثل في الكثير من جوانبها ما مر به حكم الرئيس حسني مبارك بمصر . في يوم الاثنين 23 مايو (أيار) الماضي، أدى انهيار مبنى مؤلف من 13 طابقاً في مدينة عبادان في إقليم عربستان (خوزستان رسمياً) إلى مقتل 78 شخصاً تحت الأنقاض، ثلثاهم من العرب، والثلث الآخر من المهاجرين غير العرب. ويملك هذا المبنى -المؤلف من برجين توأمين ويسمى متروبول- حسين عبد الباقي، المهاجر أساساً من مدينة أصفهان إلى عبادان. وتعالت أصوات تتهم “منظومة الفساد والريع والاختلاس” الحاكمة في إيران بالتواطؤ مع عبد الباقي والشراكة في جريمة انهيار مبنى متروبول، الذي لم تراعَ فيه الأصول الفنية والهندسية المخصصة لتشييد مبانٍ كهذا في مدينة لا تبعد كثيراً من البحر وتربتها غير مناسبة لمبانٍ مرتفعة. وقد هزت الكارثة عبادان والمجتمع الإيراني، وأدت إلى غضب شعبي وتظاهرات استمرت نحو عشرة أيام ليس في عبادان فقط بل وفي بعض المدن الإيرانية الأخرى. فسرعان ما تحولت التظاهرات من الاحتجاج على المسؤولين المحليين المقصرين في الأمر إلى تظاهرات سياسية، ردد خلالها المتظاهرون هتافات بالفارسية والعربية استهدفت المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي.
وفي 25 مايو، اجتمع نحو ستة آلاف شخص في وسط المدينة بالقرب من المبنى المنهار، مرددين هتافات ضد رجال الدين ومجلس بلدية عبادان والمدعي العام للمدينة، مطالبين بالانتقام للقتلى، ومؤكدين أن “عدونا ليست أميركا بل عدونا هنا”. كما ردد نحو مئتا شخص من أصل نحو ستة آلاف متظاهر هتاف “الرحمة على الشاه رضا”، ويعنون بذلك الشاه رضا البهلوي الذي حكم إيران بيد من حديد في الفترة بين عامي 1925 و1941. وفي مجال ترديد هذا الهتاف، أشير إلى تظاهرات مماثلة أقيمت في مدينة المحمرة المجاورة لعبادان وكذلك في مدينة “شاهين شهر” في محافظة أصفهان التي يتشكل معظم سكانها من الذين هاجروا من عبادان خلال الحرب الإيرانية – العراقية. وعارض معظم المتظاهرين -بخاصة العرب منهم- هؤلاء المؤيدين للشاه رضا البهلوي في تلك المدن. وقد حاول رضا البهلوي، ابن الشاه المخلوع وحفيد الشاه رضا البهلوي، أن يستغل الهتافات المؤيدة لجده ليطرح نفسه -والنظام الساقط- كمعارض بديل لنظام الجمهورية الإسلامية في إيران.
حضور العشائر العربية والتركيبة السكانية في عبادان
فعلى الرغم من ترديد هتافات عربية بشكل أشعار زجل (هوسات) خلال التظاهرات التي تلت انهيار مبنى متروبول فإن الهتافات الفارسية كانت هي السائدة. في يوم الأحد 29 مايو حضر جمع غفير من عشيرتي البوفرحان والسادة المحمدية في شارع الأميري والشوارع المجاورة للمبنى، يحملون أعلام العشيرتين، مما أثار ذعر المهاجرين غير العرب باعتبار أن العشائر العربية مسلحة ومن الممكن أن تستولي على المدينة. وكان هذا ثاني حضور عربي مكثف في وسط المدينة بعد تظاهرات عام 2018 التي أكد فيها المتظاهرون عروبة المدينة. فمنذ سقوط الحكم العربي في عربستان في عام 1925 بذل نظاما البهلوي والجمهورية الإسلامية في إيران مساعي حثيثة لتغيير التركيبة السكانية لمقاطعة عبادان لصالح غير العرب. وبلغت نسبة غير العرب فيها، في عز ازدهارها الاقتصادي في عهد الشاه، بين 30 و35 في المئة، وقد جاء هؤلاء المهاجرون للعمل في مصفاة النفط من الموانئ المجاورة المطلة على الخليج، والمناطق الشرقية والشمالية لعربستان، أي ما يوصف محلياً بـ”البندرية” واللور والبختيارية والفرس. وكانت هذه الهجرة إما مخطط لها حكومياً وإما طبيعية.
فعلاوة على ما شاهدناه من عرض عضلات لعشيرتين عربيتين في عبادان، هناك حراك شبه قومي يتجلى في شكل تكتلات قبلية هنا وهناك ناجم من خلو الساحة من المؤسسات السياسية والمدنية التي تتبنى الخطاب القومي أو الوطني، وذلك إثر القمع المستمر لمثل هذه المؤسسات. ويساعد وجود كيانات مدعومة حكومياً ينتظم فيها الشيوخ وكبار العشائر الموالون للنظام الإيراني مثل هذه التكتلات، منها جمعية عشائر عرب خوزستان (عربستان)، وستاد عشاير عرب خوزستان في الأحواز وعبادان، وكذلك جمعية شيوخ العشائر العربية في خوزستان (عربستان)، وجمعية شيوخ عرب خوزستان التي تعمل مباشرة تحت إشراف قسم العشائر في وزارة الاستخبارات الإيرانية.
فالمناطقية عند بعض شيوخ العشائر لا تعمل لصالح الحراك القومي والوطني في عربستان، بل ترسخ مفهوم الإمارات المجزأة في إقليم كان يوصف بمملكة عربستان ويضم إمارات عدة، لكن ظهور بعض الوجوه القومية بين رؤساء العشائر في مناطق مختلفة من عربستان وبخاصة تحركهم في مدينة عبادان يؤكد أن العشائر يمكن أن تلعب دوراً في الحركة الوطنية الأحوازية، إذا تخلص زعماؤها من شرك الأجهزة الأمنية والحكومية وأصبح صوتاً مستقلاً يدافع عن أبناء قومه ككل.
يوم الثالث من يونيو (حزيران) الحالي، وجه رضا البهلوي -ابن الشاه المخلوع محمد رضا بهلوي- كلمة محاولاً استغلال ما جرى من أحداث لصالحه وتياره المطالب بعودة الملكية إلى إيران، تلته كلمة للمرشد علي خامنئي تسعى لتأكيد مواقفه السابقة ورفض أي تغيير في سياساته الداخلية والخارجية لكنها مشفوعة بنوع من الخشية من التظاهرات والاحتجاجات المتنامية، وتأثير الفضاء المجازي والإعلام الموالي للحراك المعارض لنظامه. كما أنه أشار إلى الثورة الفرنسية وعودة الملكية إلى فرنسا لمدة 12 سنة، إذ اعتبر العديد من المحللين ذلك رد فعل على كلام رضا بهلوي، وتعبيراً عن القلق والارتباك الباطني من ظاهرة العودة إلى الماضي.
ويبدو أن خامنئي لا يزال يستقوي من جهة، بفئات تدعمه في الداخل، والتي أظهرت الانتخابات الرئاسية الأخيرة أنها في انحسار مستمر، ومن جهة أخرى، يستغل الخلافات بين الجمهوريين والملكيين في صفوف المعارضة، بل يعتقد البعض أن هتاف “الرحمة لروح الشاه رضا البهلوي” يتم طرحه من قبل عناصر من الأجهزة الأمنية المتغلغلة في الاحتجاجات لاتهام كل المتظاهرين بموالاة الملكية وبث الفرقة في صفوف المعارضين في الداخل والخارج. وبشكل عام يمكن القول إن نظام خامنئي يمر بمرحلة تماثل في الكثير من جوانبها ما مر به حكم الرئيس السابق حسني مبارك في مصر.
فعلى الرغم من تشابك الأمور في المشهد الإيراني، فقد انقسمت المعارضة الإيرانية بعد الذي تفوه به خامنئي ورضا البهلوي إلى شقين: فئات مؤيدة لنجل الشاه السابق وفئات معارضة له. فمن المؤيدين لرضا البهلوي يمكن الإشارة إلى الذين يصفون أنفسهم بالدستوريين (دستور ثورة المشروطة 1907) وبعض العناصر التي كانت تنتمي إلى اليسار أو “مجاهدي خلق”، ومن المعارضين لرضا بهلوي يمكن الإشارة إلى تنظيمات القوميات غير الفارسية، والأحزاب اليسارية، والجبهة الوطنية (التابعة لنهج محمد مصدق). ويبدو أن الذين يرددون شعار الرحمة للشاه رضا ليسوا كلهم مؤيدين لعودة الملكية أو أنصار حفيده المقيم في واشنطن بل يرددون ذلك ليظهروا استياءهم من النظام الديني الحاكم، وأن أنصار عودة الملكية أو بالأحرى أنصار رضا بهلوي في إيران لا يشكلون إلا نحو 20 إلى 25 في المئة من المتظاهرين، بينما 75 إلى 80 في المئة لا يوافقون على ذلك ويؤيدون تيارات سياسية مختلفة، غير أن الفرق بين الفئة الأولى والفئة الثانية هو أن أنصار رضا بهلوي يبيحون بحنينهم إلى جده كـ”منقذ” لإيران الآيلة إلى الانهيار الاجتماعي، فيما أنصار المجموعة الثانية غير متفقين على مرجعية واحدة.
ويمكن القول إن إيران مقبلة على تحولات لن تشمل نظام الحكم الحالي بل وأعمق من ذلك ستمس نظام “الدولة – الأمة” الذي أرساه الشاه رضا بهلوي في الربع الأول من القرن العشرين. ولهذا نرى هذا الاصطفاف الحاد بين المعارضة الإيرانية الذي يشتد يوماً بعد يوم: بين الحالمين بعودة الملكية للحفاظ على نظام الدولة القومية الفارسية أي الدولة – الأمة الفارسية من جهة والذين يعارضون أي نوع حكم فردي وراثي من جهة أخرى. فالمجموعة الثانية أيضاً تنقسم إلى فئتين: فئة تطالب بتغيير الجمهورية الإسلامية إلى جمهورية علمانية ديمقراطية – قومية فارسية، وفئة تطالب بتغيير جذري يشمل كل نظام الدولة – الأمة القائم على وحدة اللغة (الفارسية) ووحدة القومية (الفارسية)، إذ أصبحت مطالب الفئة الثانية كابوساً للملكيين وللجمهوريين القائلين بالحفاظ على شكل الدولة القومية الفارسية، وهم يصفون مجموعاتها وعناصرها بالانفصالية، فيما تؤكد هذه الفئة أنها لا تطالب إلا بأن تكون الدولة – الأمة ديمقراطية متعددة اللغات والشعوب.
المصدر: اندبندنت عربية