تمر هزيمة «الانتفاضة» السورية، كإشارات عابرة في أدبيات وكتابات معارضين، وكأن من يذكرها يريد المرور عليها سريعاً، وجعلها عنصراً من عناصر عدة، تستخدم لتحليل الأحوال التي مرّت خلال ما يزيد عن عشرة أعوام، وليست نتيجة لهذه الأحوال وختاما لها. ونقل سياق الهزيمة من كونها نتيجة إلى كونها عنصر تحليل، ينطوي على تناقض، ففي حديث واحد عن «الانتفاضة» يمكن أن يذكر معارض ما، الهزيمة ثم يختتم بالدعوة لـ»مواصلة النضال» لإسقاط السلطة. مجاورة الهزيمة و»مواصلة النضال» في سياق واحد، معناه أن «الانتفاضة» كما ترسخت في الوعي المعارض، لا يعترضها الزمن والتاريخ، وحتى لو هُزمت، لا يغير ذلك من حقيقة مواصلة النضال.
خروج «الانتفاضة» عن التاريخ سببه، على الأرجح، أمثلتها، أي جعلها مثالا من أفكار تمت ترقيتها لرتبة مبادئ وقيم، ما عزلها عن تحولات تراكمت منذ 2011، وتأرجحت بين تظاهر سلمي وعسكرة وعنف وتطييف وتطرف، وحروب أهلية وتدخل إقليمي وغربي وروسي، وترسيم مناطق محمية من دول خارجية. هذه التحولات، التي يمكن التأريخ لها ضمن ترتيب مكرور (تظاهر عنف.. تدخل خارجي) لم تسر دائما بشكل خطي، بل غالبا ما تعرجت حركتها، فاختلط التظاهر بالعسكرة وبالتطييف، والتدخل الخارجي بالحروب الأهلية وبالتطرف. وهذا التعرج والاختلاط، في حركة التحولات، وضعا مثال «الانتفاضة» أمام تحديين، الأول، المسافة الفاصلة مع الواقع، والثاني، أن هذا الواقع شديد التعرج والتعقيد.
والمثال والخروج عن التاريخ بوصفه تحولات وأحداثاً متلاحقة، قلل من جرع السياسة داخل «الانتفاضة» أي من فاعلية النشاط السياسي، المتمثل بالتوافقات والتسويات والمفاوضات وصياغة تصور جديد لسوريا، فتبدى «التغيير» المنتظر، حدثا أحاديا منفصلا عن أدوات تنفيذه، حدثا يأتي دفعة واحدة، من دون تراكم، وبشكل مطلق ونافٍ للنسبية وتحقيق المكاسب الجزئية، فكلما كانت السياسة تتقدم خطوة، كان المثال يطغى ليعدمها، ويكرس أكثر الانفصال عن الواقع، ويضيع فرصة تطوير مفاهيم للتكيف مع كل تحوّل، وتحقيق مكاسب. ولأن، جذر المثال، المشار إليه، كأفكار عامة، ليس سوى تصور أيديولوجي لسوريا، يقول بوحدتها وعروبتها، ولا يضيف الكثير عن ذاك الذي كرّسه الاستبداد واستثمر فيه لتثبيت أركان تسلطه، فإن الانفصال عن الواقع وتراجع السياسة، يُرتبان استبعادا للمجتمع، المتشكل كجماعات لديها هواجس ومطالب فرعية لا تستقيم مع التصور الأيديولوجي العام، النافي للتاريخ وللسياسة معاً. وانطلاقا من الخروج عن التاريخ والسياسة والمجتمع، تأتي مقاربة الهزيمة في كتابات المعارضين السوريين وأحاديثهم، فهي نتاج تموضع «الانتفاضة» في الوعي المعارض، كمثال أيديولوجي معاد للسياسة والاجتماع، بمعنى، يراد لها أن تكون هزيمة لا تاريخية، يجاورها «النضال» دائما، ولا سياسية، تتقلص ضمنها السياسة لحدود تفاوض دستوري من دون معنى، ولا اجتماعية، تهمل وجود ملايين المهجرين والمعتقلين والباحثين عن شرط للعيش.
تفريغ الهزيمة من هذه المضامين، يفسر مرورها الخجول في أدبيات المعارضة، وعدم تجذيرها كمفهوم يختتم مساراً، انطلق في 2011. وهو ما يساهم في انفلاش فكرة الهزيمة في الوعي السوري المعارض، بدل ضبطها في جذور وأسباب ومسؤوليات تستند إلى التاريخ والمجتمع والسياسة. وعواقب الانفلاش ليست مضمونة، فالخروج عن السياقات العقلانية لحدث ما، يفتح هذا الحدث على المصائر الشخصية والشعر والدراما، فنجد ناشطين طالما كانوا نجوما في التظاهرات وما تلاها من أحداث، يعانون من تعطل حياتهم بفعل هزيمة «الانتفاضة» التي تشكل وعيهم ضمنها، وربطوا حيواتهم بأمل انتصارها. أي أن بعض السوريين، يعانون من تداعيات الهزيمة، من دون أن يهزموا، وهذا مأزق عميق، لا يقل خطورة عن مأزق الذين «ينتصرون» دائماً فيما شرط «الانتصار» يتموضع، في العقائد والقضايا الكبرى، أي خارج حياتهم الزمنية واليومية. المهزومون من دون الإقرار بالهزيمة، تنهش الأخيرة حيواتهم، لكن وعيهم في مكان آخر، ربما هو ذاته الذي يستريح فيه «المنتصرون».
كاتب سوري
المصدر: القدس العربي