كسرت مشاهد «مجزرة حي التضامن» المسربة أواخر نيسان/ إبريل الماضي، والتي حصلت أواسط شهر نيسان/ إبريل من عام 2013، بقيام فرع المنطقة التابع لشعبة الاستخبارات العسكرية، والمعروف أيضاً بالفرع 227، بقتل أكثر من 280 مدني اقتيدوا إلى الحي المذكور، وتم إعدامهم واحداً تلو الأخر في مقبرة جماعية كانت قد أُعدت مسبقاً، إنها مجزرة كسرت حاجز الخوف أمام معظم أهالي المعتقلين لمعرفة مصير أبنائهم، فضلاً عن جعل هذه القضية في موقع الصدارة.
لا تقتصر قضية المعتقلين والمختطفين في سورية على من تم اعتقالهم أو إخفاءهم بعد اندلاع الثورة عام 2011، وإنما هناك عدد غير معروف من المعتقلين الذين اختفوا نتيجة آرائهم ضد نظام العصابة منذ وصوله إلى السلطة.
فقد شهدت دمشق بعد المرسوم رقم /7/ مطلع أيار/ مايو 2022 نوع من الفوضى والإذلال لآلاف الناس وهم ينتظرون في منطقة جسر البرامكة وسط دمشق الشاحنات العسكرية التي تقلّ المعتقلين المفرج عنهم، وذلك بهدف التعرف إلى أبنائهم المفقودين لعل أحدهم يكون بين المفرج عنهم، إذ إن النظام لم يوزع مسبقاً ولم يعلن قائمة بأسماء الذين سيجري الإفراج عنهم، إذ أن النظام بعد العفو المزعوم يقوم بإطلاق سراح معتقلين بشكل غير منظم، فمرة تأتي السيارات العسكرية حاملة معتقلين تتركهم وتذهب، ومرة تأتي فارغة ويقوم الناس بملاحقتها في الطريق، وكأن النظام يتقصد فعل ذلك بهدف إذلال الناس وهي تنتظر سماع خبر عن أبنائها المعتقلين.
أعاد مرسوم العفو المزعوم رقم 7/2022، قضية معتقلي الرأي إلى الواجهة مجدّداً؛ نتيجة ما أثاره من جدل ونقاشات حول مصير عشرات آلاف المعتقلين والمختفين قسرياً، وبدا واضحاً أنّ النظام عمل على توجيه الأنظار إلى عمليات الإفراج عن الموقوفين بموجب (عفوه)، حيث قامت وسائل الإعلام التابعة له بتكثيف التغطية للملف، وبذلك سمحت السلطة لذوي المعتقلين بالتجمهر في ساحات دمشق لمحاولة حجب الأنظار وإبعادها عن الاهتمام بمشاهد «مجزرة التضامن» أو تناسيها.
ووفق تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان في 15 آذار/ مارس 2022، بلغ عدد الذين ما زالوا قَيْد الاعتقال أو الإخفاء القسري من قِبل النظام السوري 133 ألفاً تقريباً، فيما تعود معظم تلك الحالات للفترة بين عامَيْ 2011 و 2016، ويرجع هذا الرقم للملاحقات والعمليات الأمنية الواسعة التي شنّتها أجهزته الأمنية والعسكرية بشكل ممنهج لقمع المعارضة والاحتجاجات الشعبية السورية.
لم يتوانَ النظام عن تحويل منشآته الرياضية ومبانيه وقطعه العسكرية والحكومية إلى مراكز للاحتجاز، فضلاً عن إنشاء معسكرات اعتقال خاصّة؛ كون السجون والأفرع الأمنية لا تتسع للأعداد الكبيرة التي قام باعتقالها، وبمرور الوقت، تحوّلت قضية المعتقلين من قضية إنسانيّة، تُشكّل مصدر قلق ومعاناة حقيقيّة لذويهم خاصة أن الكثير من التفاصيل ما تزال غامضة وصعبة التوثيق، على الرغم من التحذيرات الشعبية من الاستمرار بمغبة الإيغال بالقتل والمجازر بحق الشعب والمعتقلين؛ لقد تحولت بفعل النظام وحلفائه إلى قضيّة سياسيّة وقانونيّة. ومن المرجح أنّ أعداد المعتقلين السوريين الحقيقية من جميع المكونات الوطنية، هي ضِعف العدد الموثق، فالكثير من ذوي المعتقلين يمتنع عن الإدلاء بمعلومات عن اختفاء أبنائهم خوفاً من رد فعل النظام الانتقامي، فبعد إعلان مرسوم عفوه المزعوم رقم 7/2022 ظهرت على الإعلام أسماء وصور لمعتقلين نشرَها ذوُوهم، وهؤلاء لم يتم توثيقهم سابقاً، إضافة لإحصاءات لمئات من الأسماء لمعتقلين فلسطينيين بعد إصدار العفو الأخير، وهؤلاء لم يكونوا مسجلين سابقاً، لكن التوقعات تشير إلى احتمالية تضاعف الرقم بنسبة لا تقل عن 40%.
لقد أسّس النظام السوري خطابه الإعلامي إزاء قضية المعتقلين على عناصر الرفض والنفي والانكار والاتهام المُتبادَل، سواءً بما يخصّ الممارسات القمعيّة التي تنسب لأجهزته الأمنيّة والعسكريّة أو الأعداد التي يتم توثيقها، لذلك، غاب أي اعتراف بوجود عمليات اعتقال أو احتجاز لمدنيين عن ثنايا خطاب النظام ووسائل إعلامه بشكل كامل، وحلّ مكانه خطاب الملاحقة ومكافحة الإرهاب، واعتبار أيّ حديث عن اعتقالات وتصفيات تحت التعذيب هو مجرّد مؤامرة وتزوير للحقائق!
يُمكن ملاحظة ذلك بشكل واضح في (ما سمي) قوانين العفو الـ 19 التي أصدرها رأس النظام بين عامَيْ 2011 و2022، والتي تضمنت مصطلحات تُنّكِر حوادث الاعتقال لمدنيين، فيما تصف مَن تم إلقاء القبض عليهم بـ “مرتكبي الجرائم الإرهابية”، أو “جريمة (ما سمي) النَّيْل من هيبة الدولة”، أو “الفرار الداخلي” في إشارة لعناصر وضباط المؤسسة العسكرية المُنشقين، حيث تمّت مواجهة التقارير الحقوقية السورية والدولية التي تتحدّث عن انتهاكات وتصفيات جماعية في السجون بحقّ المعتقلين بالرفض القاطع والنفي والاستنكار، وصولاً لتحميل الاتهامات على خطاب “الإرهاب”؛ كالقول بأنّ “العصابات الإرهابية المسلّحة” هي مَن تقوم بالإعدامات والاعتداءات؛ كل ذلك تم بتغطية من مجتمع دولي يرعى نظام القتل والجريمة الأسدي ومحاولة إفلاته من العقاب، إضافة لوجود شخصيات سورية مرتبطة تاريخياً بالنظام أمثال “جورج جبور” حامل الدكتوراة بالكذب والتدليس والعداء للشعب السوري وحريته وحقوقه منذ بداية عهد الأب المقبور، فقد خدمت وتدربت تلكم الشخصيات- ومازالت تخدم- بمؤسسات الأمم المتحدة أيضاً وتحت غطاء صهيوني، وتعلمت كيفية كتابة وتمرير هكذا قوانين تحمل اسم الـ(عفو) وهي أبعد ما تكون عن شرعة حقوق الإنسان والـ(عفو)! ولا يغير ثناء “غير بيدرسون” لهكذا مرسوم من ابتعاده عن ملامسة معاناة المعتقلين الحقيقية وذويهم فضلاً عمن تمت تصفيتهم تحت التعذيب أو قتلاً أو حرقاً. وبذلك يكون خطاب النفي والرفض مرتبط بالحرص على عدم توفير أي ثغرة تسمح لممارسة ضغوط على النظام من قِبل منظمات دولية مثلاً، ودخول مراقبين دوليين لمراكز الاحتجاز والاعتقال، إضافة لعدم الاستعداد للكشف عن الأعداد الحقيقية للمعتقلين ومصيرهم.
كما أنّ هذا الخطاب كان- ومازال- مرتبطاً بمحاولة التأثير على قناعات شريحة واسعة من الرأي العامّ في سورية؛ لتقليص حجم المعترضين على سياسات النظام والمناهضين له قَدْر الإمكان؛ فالاعتراف بالانتهاكات أو الاعتقالات الواسعة تعني احتمال عودة الاحتجاجات الشعبية وتراجُع القدرة على تركيز الأولوية على خيار النظام العسكري والأمني.
كما تُشير تسمية القوانين التي تُنظّم عملية إطلاق سراح المعتقلين بـ”مراسيم عفو”، إلى حرص النظام على تجريد المعتقلين والمحتجزين لديه من حقوقهم، وتكريس سلطته وشرعيته، على اعتبار أنه يمتلك القدرة على العفو والتسامح؛ ومما يؤكد هذا القصد في الخطاب الإعلامي الرسمي حرصُ وسائله على إصدار تصريحات من بعض المُفرَج عنهم تتحدث عن “فضل، ومكرمة، وكرم صاحب العفو!” المتمثل بالإفراج عن المعتقلين.
لطالما كان ملف المعتقلين والمخفيين قسرياً والمغيبين، هو الأكثر إيلاماً بين الملفات المتعددة للقضية الوطنية السورية، فقد رفض النظام مقاربة هذا الملف حتى الآن- وفي جولات الأستانات والسوتشيات وما تمخض عنهم من لقاءات اللجنة الدستورية، وكلها خادعة ومعادية لطموحات شعبنا- بل كان يفرج بين وقتٍ وآخر عن قوائم الذين قُتلوا من هؤلاء تحت التعذيب أو بسبب انعدام الرعاية الصحية في المعتقلات؛ وكمْ صُدمَ الشارع السوري من مشاهد عشرات المعتقلين المفّرج عنهم، إذ فقدَ البعض منهم ذاكرته أو عقله، أو خرج بوضعٍ صحي مريع، وهو ما يعكس الأوضاع الكارثية داخل معتقلات النظام وميليشياته المتعددة.
جريمة الاعتقال والتعذيب والقتل والتغييب بحق مئات الآلاف من السوريين، من جميع المكونات، يجب ألا تمر من دون حساب، ويجب العمل لإيصال القضية للمحكمة الجنائية الدولية أو إنشاء محكمة دولية خاصة بسورية- رغم أنف روسيا وإيران والمنخرطين في لعبة التطبيع مع النظام ولعبة التسويات ممن تصدر المشهد المعارض- لإنصاف الضحايا وذويهم جميعاً رغم الخسائر البشرية الهائلة على طريق الحرية والكرامة.
المصدر: اشراق