في المشهد السياسي العام، أحيت المنظومة الحاكمة في لبنان، الثلاثاء، موقعَيْها في رئاسة البرلمان ونيابتها ونجحت في حماية “سلطتها” من أيّ خرقٍ، للتأكيد بعد انتكاسة الانتخابات النيابية، في مايو/أيار الماضي، أنها قادرة على تأمين الغالبية المُطلقة في الاستحقاقات بأساليبها التقليدية القائمة على التسويات والمحاصصة.
على أثر ذلك، فازت في الجولة الأولى بوجه قوى المعارضة التقليدية والتغييريين، بانتظار جولات انتخاب اللجان النيابية أهمها المال والموازنة والإدارة والعدل، والتشكيلة الحكومية ورئاسة الجمهورية.
أما في قراءة الوقائع والتصويت والتصريحات والهفوات والرسائل، لا يمكن إلّا التوقف عند مشاهدات رُصِدَت في جلسة البرلمان التي غابت عنها الكهرباء لفتراتٍ جعلتها “استثنائية”، أبرزها، تراجع “تفنّن” نبيه بري في الإدارة وعجزه عن ضبط الإيقاع بعدما جرت العادة على التوافق مسبقاً على هيئة مكتب المجلس وغياب التنافس في الانتخاب، عدا عن حالة الإرباك التي ظهر بها بري أثناء فرز الأصوات وعدّ الأوراق التي تحمل اسمه لضمان فوزه من الدورة الأولى فنجح “على حفة” الغالبية المطلوبة؛ أي 65 صوتاً من أصل 128.
وفور فوزه تنفّس بري الصعداء مع نوابه وجمهوره في القاعة من إعلاميين وسياسيين ودبلوماسيين صفّقوا وهلّلوا بمجرد الوصول إلى الرقم 65 الذي أمّنته نسبة لافتة من نواب “تكتل لبنان القوي” (برئاسة رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل) رغم إعلانه عدم التصويت لصالح بري.
ولم يسبق لبري أن حاز على أقل من 90 صوتاً منذ انتخابه عام 1992، حتى أيام الصراع السياسي الكبير بين فريقي 8 و14 آذار وبعد عام 2005، في مشهدية بثت تفاؤلاً وأملاً في المستقبل عند القوى المعارضة والمستقلة والتغييرية رغم الخسارة الراهنة.
وتمكّن بري من حصد أصوات 65 نائباً في الجولة الأولى لانتخاب رئيس البرلمان، دون أن تظهر إشكالية احتساب الغالبية المطلقة بعكس ما حصل عند انتخاب نائب الرئيس الذي شهد موقعه معركة محتدمة بين النائب الياس بو صعب (ينتمي إلى تكتل لبنان القوي وله علاقة جيدة مع بري) وغسان سكاف الذي يُحسَب على “الحزب التقدمي الاشتراكي” (يتزعمه وليد جنبلاط) كونه خاض الانتخابات النيابية في البقاع الغربي على لائحته رغم تأكيده أنه مستقلّ تماماً ولا ينتمي إلى أي كتلة.
وحصل بو صعب في الدورة الأولى على 64 صوتاً بينما حاز سكاف على 49 صوتاً مقابل ورقتين ملغاتين و13 ورقة بيضاء، الأمر الذي حتم عقد دورة ثانية لعدم تأمين الغالبية المطلقة أي 65 صوتاً من 128 نائباً، فكان أن “انتفض” نواب تكتل “لبنان القوي” و”حزب الله” يتقدمهم النائب حسن فضل الله الذي طلب توضيح كيفية احتساب الأغلبية المطلقة باعتبار أنّ المادة 12 من النظام الداخلي للبرلمان تنص على أنه “لا تدخل في حساب الأغلبية في أي انتخاب يجريه المجلس، الأوراق البيضاء أو الملغاة”.
كما أشار فضل الله، النائب عن “حزب الله”، إلى أنّ الأوراق الملغاة (عددها 2) لا تحتسب من عدد المقترعين؛ وبالتالي يجب احتساب الغالبية المطلقة من 126 نائباً لا 128 ما يؤمّن فوز بو صعب من الدورة الأولى، فيما تدخلت النائب بولا يعقوبيان بالإشارة إلى أنّ هذا “اجتهاد مرفوض بالكامل”، في حين قال النائب عن حزب “القوات اللبنانية” (بزعامة سمير جعجع) جورج عدوان، إنّ “الدستور تكلم عن المقترعين، أي 128 قبل الفرز فتكون الأكثرية المطلقة 65 من المقترعين”.
عندها أكد بري الالتزام بالدستور ولو أنه يؤيد كلام فضل الله، لتعقد دورة ثانية يخرج بها بو صعب فائزاً بـ65 صوتاً، ما طرح علامات استفهام حول الصوت الإضافي الذي صبّ في صالحه وأمّن فوزه، علماً أنّ كتلة بري صوّتت له منذ البداية، في حين تمكّن سكاف من حيازة 60 صوتاً بعدما صبّت لصالحه أصوات النواب التغييريين مقابل ورقتين بيضاوين وورقة ملغاة.
الإشكالية الأكبر التي أربكت البرلمان وفضحت تسوياته البعيدة من المعارك الديمقراطية، تمثلت في انتخاب أميني السرّ والمفوضين الثلاثة، إذ فُتِحَ النقاش للمرة الأولى على آلية الاقتراع بعدما كان الاختيار يحصل توافقياً، وتحولت الجلسة إلى محاضرة في الدستور والنظام الداخلي.
وأصبح كل نائب “يغني” على نصوصه واجتهاداته وتفسيراته، بين من يقترح التصويت لأمين السرّ الأول الماروني على حدة ومن ثم الدرزي، ومن يقترح الاقتراع بورقة واحدة للأمينين، ومن ثم التصويت للمفوضين الثلاثة بورقة واحدة، وزاد “الضياع” إعلان النائبين من التغييريين ميشال دويهي وفراس حمدان ترشيحهما في خطوة لفرض اللعبة الديمقراطية على منطق المحاصصة، قبل أن ينسحبا رافضين تكريس الأعراف الطائفية ومخالفة الدستور.
وفصل بري الجدل بطلب التصويت لكل أمين سرّ على حدة، ففاز عن المقعد الماروني النائب آلان عون الذي ينتمي إلى تكتل باسيل بـ65 صوتاً بوجه مرشح حزب “القوات اللبنانية” النائب زياد حواط، بينما فاز النائب عن “الحزب التقدمي الاشتراكي” هادي أبو الحسن بالتزكية كأمين سرّ عن المقعد الدرزي.
وفي ظل عدم وجود تنافس، ولعدم الدخول في الجدال نفسه وإطالة الجلسة، فاز بالتزكية عن مفوضي هيئة مكتب المجلس النواب هاغوب بقرادونيان (نواب الأرمن)، وميشال موسى (حركة أمل)، وكريم كبارة (كان المقعد لسمير الجسر الذي عزف عن الترشح انسجاماً مع قرار رئيس تيار المستقبل سعد الحريري).
وكان لافتاً سؤال النائب في تكتل باسيل، سليم عون الذي قال: “كيف كنا نصوت من 28 سنة لليوم؟ كنا نتوافق.. أحسن شي التوافق”، ليجيب بري: “كنا نتوافق وبيمشي الحال، هلق ما حدا عم يتوافق، قلنالكن منمشي هيك صار في ستة مرشحين وبقلولك ليش بري بيعمل توافق”، وهنا ردّت النائب بولا يعقوبيان: “هذه أول مرة يحدث فيها اقتراع حقيقي”، فردّ بري ساخراً “كل بلدك قايم هيك”.
وقال بري في السياق: “عادة يحصل تفاهم في هذا الانتخاب، والأسبوع المقبل هناك انتخابات اللجان، فإذا لم تكن التوزيعات معدة ومجهزة سلفاً نحتاج أياماً للانتهاء منها، من هنا نحتاج إلى تفاهمات، لا أحد يبتعد بأفكاره”.
وتركزت الأنظار عند كلمة نائب “حزب الله” علي عمّار الذي قال “إنني مفجوع وفجيعتي كبرى وأشعر أننا بدأنا بالسقوط من الجلسة الأولى”، طالباً من بري ضبط أكثر لإدارة الجلسة.
ومن السجالات التي حصلت عند انتخاب رئيس للبرلمان عدم قراءة بري الشعارات المكتوبة على الأوراق والتي تعتبر ملغاة، فعلت أصوات النواب خصوصاً التغييريين الذين طالبوه بقراءتها بصوتٍ عالٍ، فكان لهم ذلك، خصوصاً أنهم دوّنوا عليها رسائل عدّة منها ربطاً بانفجار مرفأ بيروت، مع الإشارة إلى أنّ الجلسة حضرها 4 مطلوبين للعدالة في القضية (رئيس الوزراء السابق حسان دياب والنائبان علي حسن خليل وغازي زعيتر ومدير عام أمن الدولة اللواء طوني صليبا المطلوب الحصول على إذن لملاحقته)، وفي قضية الاعتداءات من جانب شرطة مجلس النواب التابعة لبري على متظاهري انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول، ومن بين الجرحى كان النائب فراس حمدان، إضافة إلى قضية قتل الكاتب السياسي لقمان سليم، وغيرها من القضايا التي ينتظر أن يحملها هؤلاء معهم خلال مشوارهم النيابي.
كذلك، كانت “لطشات” النواب “التقليديين” للنواب التغييريين الذي سجلوا اعتراضات كثيرة خلال الجلسة بأننا “في مجلس النواب وليس في الشارع أو في التظاهرات”، بينما رد بري على شعار العدالة لجرحى شرطة المجلس بتوجيه التحية لعناصرها، هم الذين سارعوا للاحتفال بمجرد فوزه.
في السياق، يقول منسق اللجنة القانونية في “المرصد الشعبي” المحامي جاد طعمة لـ”العربي الجديد”، إنّ النواب التغييريين “تمكّنوا من تعرية المنظومة السياسية ومنطق التحاصص والتوافق القائم بين أعضائها”، مشيراً إلى أنه “خرج في الجلسة خصوصاً عند انتخاب أميني السرّ، أبشع كلام طائفي من نواب الأمة، الذين لم يعهدوا الديمقراطية فخافوا من ضرب الأعراف الطائفية للانتخاب بدل أن يكون مبدأهم الاختيار حسب الكفاءة”.
ويرى طعمة أنّ هناك “سلوكيات جديدة داخل البرلمان ليست اعتيادية”، مبيّناً أنها “إذا استمرت ستكون قادرة على إحداث إرباكات تسجل في مصلحة الديمقراطية”، وأضاف: “لاحظنا الإرباك بدعوة بري وتمنيه التوافق على اللجان قبل الجلسة التي حددها يوم الثلاثاء المقبل”، مشيراً إلى أنه “رغم حنكة بري نتيجة خبرته الطويلة برئاسة المجلس النيابي، فقد أثبتت الجلسة أنّ الحنكة تقتصر على الصفقات والتوافق، لا على الممارسة الديمقراطية الحقيقية”.
المصدر: العربي الجديد