لا يختلف العارفون على عمق واتساع المأساة السورية التي تجاوزت عامها الحادي عشر، وما زالت تتابع مساراتها في التمدد من جهة، وفي الغوص إلى العمق من جهة أخرى، ويزيد من فظاعتها أنها تواصل تداعياتها في المحيط، فتترك تداعيات في بنى وسياسات دول وتكويناتها السياسية والاجتماعية، ومثله في تحالفات دول ومؤسسات، وجميعها ساهمت في تعقيدات القضية السورية بصورة لم تصل إليها قضية أخرى في العالم خلال العقدين الماضيين.
مأساة السوريين في بعدها الخاص تجاوزت بعض آلام وخسائر ما مر في عقد الصراع الأول، وإن كان السوريون لم ينسوا ضحاياهم الذين قتلهم النظام بأدواته وحلفائه، وشركائه من جماعات التطرف الديني والعرقي، ولا مئات آلاف المعتقلين والمختفين قسراً، ولا ملايين المهجرين واللاجئين في كل الأنحاء، فإنهم شرعوا في إعادة ترتيب حياتهم، سواء كان ترتيباً مؤقتاً، كما يحلو لأكثرية المقيمين في دول الجوار وقربها أن تفكر، أو ترتيباً نهائياً، كما يفكر كثير ممن هاجروا إلى بلدان أعطتهم فسحاً من حياة مقبولة، بينما يسعى السوريون في الداخل نحو ترتيب حياتهم في ضوء الواقع واحتمالاته.
وحسب الصورة، فإن مأساة السوريين صارت تتعلق بالمستقبل أكثر مما تتصل بالماضي؛ لأن الحياة تدفع الماضي ليكون ماضياً أكثر وأكثر، وتجعل المستقبل أكثر حضوراً في الحياة، حاملاً معه الموضوعات الأكثر تعبيراً عن المأساة، والجوهري فيها غياب الحل الذي من شأن حصوله أن يبدل ويغير حياة السوريين أينما كانوا. وفي غمرة انتظاره، فإن تعبيرات المأساة الممتدة إلى المستقبل كثيرة، والبعض منها يسير نحو التحول إلى مأساة عميقة، كما يبدو حال انهيار منظومات التعليم والصحة والأمن والعدالة، وهو انهيار لن يتوقف إلا إذا جرى التوصل إلى حل يوقف الانهيار، ويدفع السوريين إلى إعادة ترتيب منظوماتهم، أو رسم منظومات جديدة.
وثمة أمران شديدا الأهمية حاضران في المأساة الممتدة نحو المستقبل، وهما موضع انشغال واهتمام ملايين السوريين: الأول قضية المعتقلين والمغيبين قسراً، والتي تعني عودة المعتقلين إلى أحبابهم، والكشف عن مصير المختفين، والثاني قضية المهجرين واللاجئين وحقهم في العودة إلى بيوتهم وأملاكهم وقراهم ومدنهم، وهو أمر لا يتعلق فقط بمن في الخارج من لاجئين ومقيمين؛ بل بملايين من مهجري الداخل، وكثير منهم موجود في مناطق سيطرة النظام وسلطات الأمر الواقع، ولا يسمح لهم بالعودة إلى بيوتهم وممتلكاتهم، وبعضها لا يبعد عنهم سوى مئات الأمتار.
إن الجوانب المستقبلية في مأساة السوريين كثيرة، وشديدة الخطورة في أبعادها الداخلية والخارجية، مما يجعلها موضع اهتمام كبير؛ لكن مرور أكثر من أحد عشر عاماً، والتداعيات والتداخلات التي حدثت وآثارها، جعل معالجة القضية كلها وجوانبها المأساوية خاصة، تزداد صعوبة كل يوم أكثر من السابق، لا سيما أن لدى الأطراف الفاعلة والمعوَّل عليها تحمل المسؤولية تقدير أن فواتير الحل ستكون مكلفة للذهاب إلى حل سياسي، وسوف تتضاعف إذا تم اعتماد الحل العسكري، وهذه بعض أسباب أحالت الملف السوري إلى هامش الاهتمامات الدولية التي تظهر في تركيز الاهتمام بـ«اللجنة الدستورية» التي ينشغل بها بعض الأطراف.
وسط واقع المأساة السورية، ولا سيما في أبعادها المستقبلية، وفي ظل العجز الدولي عن علاج حاسم، تزداد وتتعدد الخرافات في الموضوع السوري وحوله، ويتعدد مصممو الخرافات ومروجوها، ويقف نظام الأسد في مقدمة هؤلاء، وهو صاحب أحد أهم الخرافات التي تقول إنه انتصر في الصراع ضد أكثرية السوريين الذين طالما وصفهم بـ«الإرهاب» و«السلفية» والسعي للاستيلاء على السلطة، وهو يعرف أنها مجرد ادعاءات كاذبة، ويضيف إلى مقولة الانتصار قول إنه انتصر على العالم الذي اتهمه بتنظيم مؤامرة دولية هدفها إطاحة النظام بسبب مواقفه «القومية» و«الوطنية». وروج النظام خرافة أخرى لا تقل كذباً عن سابقتها، وهي خرافة «حماية الأقليات»، وهو الذي لم تتأخر أجهزته وأدواته في قتل واعتقال السوريين وتهجيرهم وسرقتهم بغض النظر عن هوياتهم، ولم يكن بإمكان أسلحته العمياء من صواريخ وبراميل متفجرة وكيماوية أن تميز في أهدافها هويات ضحاياها.
وللأمانة فإن الخرافات لم تقتصر على نظام الأسد؛ بل امتدت إلى آخرين، ومنها خرافة بعض معارضيه عن التدخل الدولي، وهو أمر تأكد كذبه، وثبتت استحالته من جانب المجتمع الدولي رغم كل جرائم النظام التي تتجاوز في تأثيرها الحيز السوري، ومنها استخدام الأسلحة الكيماوية التي تجاوز النظام عقوباتها بتواطؤ أميركي- روسي، وسكون دولي وإقليمي مريب. بل إن روسيا لم تتورع عن إطلاق خرافات تتصل بالقضية السورية، وأبرزها خرافة موسكو أنها تسعى إلى حل سوري- سوري، بينما هي تصطف إلى جانب النظام وتحميه من السقوط، وتمنع أي إجراءات أو عقوبات دولية ضده؛ بل تدمر المدن والقرى بمعالمها المدنية من أسواق ومشافٍ، وتصف المعارضين حتى السياسيين والسلميين منهم بـ«الإرهاب».
وإن كان لا بد من تناول نسق من خرافات بصدد سوريا، فيمكن التوقف عند خرافة إعادة نظام الأسد إلى الحضن العربي وانتزاعه من حضن إيران. وبغض النظر عن مبررات مطلقي هذه الخرافة، فقد ثبت أنها غير قابلة للتحقق، وقد مر عليها أربع سنوات، أكد فيها النظام عدم رغبته وقدرته على الانفكاك عن إيران، في ظل أن الأخيرة وضعت سوريا في صلب استراتيجيتها، وأنها ستفعل كل شيء للحفاظ على وجودها هناك، وكلها أمور لا يرغب العرب في القيام بها.
لعل أكبر وأهم الخرافات التي جرى الترويج لها في الموضوع السوري، أن مفاوضات اللجنة الدستورية التي ترعاها الأمم المتحدة وتدعمها الأكثرية الدولية، سوف تأخذ السوريين إلى الحل المستند إلى القرار 2254، وتحقق حلاً انتقالياً سلمياً. ورغم أن الفكرة، لا تتصل أساساً بالقرار الدولي إياه، فإنه وبعد نحو ثلاث سنوات على تأسيسها، وثماني جولات من محادثات متعثرة، لم تتمخض عن أي تقدم ولو شكلي؛ لكن مروجي الخرافة الكبار والداخلين في لعبتها من الصغار، يبذلون كل جهودهم للإبقاء عليها والإيحاء بأنها الطريق إلى حل سوري قادم دون شك.
قد يكون من المهم والمفيد الإشارة إلى خلاصة الخرافات حول سوريا ومأساتها، باعتبارها واسطة لتزوير الوقائع، ومحاولة تضليل الرأي العام أو بعض منه، وطريقاً للهروب من استحقاقات أساسية، واستبدال موضوعات مختلقة أو جزئية بها، تغطي على ما هو أساسي وجوهري، وهي طريقة في إلهاء الرأي العام وإغراقه في تفاصيل لا تعنيه، أو أنها ضعيفة الصلة به، وقد تكون الخرافة أقل مما سبق كله، فتكون محاولة لملء الفراغ بالضجيج!
المصدر: الشرق الأوسط