ما زالت قضية تهميش الأقليات في العراق وشكواها المتكررة من تجاهل حقوقها من قبل القوى السياسية الحاكمة، تحظى باهتمام الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، التي عقدت العديد من المؤتمرات وجلسات الحوار، لحل هذه القضية الوطنية والإنسانية. وتعبيرا عن اهتمامها بالموضوع، نظمت الأمم المتحدة حوارا للأقليات في بغداد قبل أيام، جرى خلاله مناقشة أوضاع الأقليات في الوقت الحاضر وبحث مخاوفها وشكواها من الإقصاء والتمييز والتهميش، الذي تتعرض له من قبل بعض القوى السياسية الحاكمة.
وقد أدار جلسة الحوار، المستشار الخاص للأمم المتحدة المعني بمنع الإبادة الجماعية أليس ويريمو نديريتو ودانييل بيل مديرة مكتب حقوق الإنسان في بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق «يونامي». وجمع اللقاء ممثلين عن مكونات الأرمن، والبهائيين، والأكراد الفيليين، واليهود، والكاكائيين، والمنحدرين من أصل أفريقي، والغجر، والصابئة المندائيين، والشبك، والتركمان، والإيزيديين، والزرادشتيين، بالإضافة إلى مندوبين من منظمات المجتمع المدني، والصحافيين، والمفوضية العراقية العليا لحقوق الإنسان، ونقابة المحامين العراقيين، وهيئة الإعلام والاتصالات.
وركزت المستشارة الخاصة للأمم المتحدة نديريتو، على توضيح منظور الأمم المتحدة العالمي حول خطاب الكراهية، مشيرةَ إلى أن «خطاب الكراهية والتحريض على الكراهية والعنف يولد انقسامات عَميقة الجذور على أُسس عرقية ودينية تؤدي إلى إضعاف مساحة بناء الثقة والتفاهم المُتبادلة».
وأضافت أن «من الضروري معالجة الأسباب الجذرية لخطاب الكراهية وليس فقط مظاهره عبر الإنترنت وخارجه». وفي هذا الصدد ذكّرت المستشارة الخاصة نديريتو المشاركين بمسؤوليات العراق كدولة طرف في اتفاقية عام 1948 لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمُعاقبة عليها. كما دعت جميع المكونات في العراق إلى العمل معا لدعم تطوير وتنفيذ خطة عمل تهدف إلى معالجة خطاب الكراهية بشكل فعال، مشددة على أن «البشر لديهم قدرة هائلة على إيجاد الحلول حتى للمشاكل التي يخلقونها بأنفسهم».
وذكرت دانييل بيل، خلال مشاركتها «أن الحوار الشامل والموجه نحو تحقيق النتائج والذي يقترن بالالتزام والإجراءات الملموسة هو أمر أساسي لإنهاء عدم المساواة والتمييز الذي طال أمده في العراق» في إشارة إلى شكاوى الأقليات العراقية من التهميش والاقصاء في العملية السياسية.
وخلال جلسة المناقشة المفتوحة، ناقش المشاركون أبرز القضايا التي تواجه العراق عموما والأقليات خصوصا، وعرضوا بعض الاقتراحات والحلول المطلوبة كما حددوا الخطوات المقبلة لمعالجة هذه القضايا.
رفض التحرك الأممي
ويبدو ان الاهتمام الدولي بأوضاع الأقليات في العراق لا يروق لبعض القوى السياسية، حيث نددت لجنة حقوق الإنسان النيابية برئاسة النائب التركماني ارشد الصالحي وأعضاء اللجنة، بجلسة الحوار عن خطاب الكراهية والتمييز الذي عقد في بغداد في أيار/مايو الحالي برعاية بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق «يونامي».
وأكدت اللجنة النيابية «أن ما جاء في حوار خطاب الكراهية أمر مرفوض لما تضمنته الجلسة في حوارها من آلية الضغط على المكونات الضعيفة في العراق والمسحوقة وكأنها هي من تمارس الكراهية والتمييز، وكان الأجدر بالأمم المتحدة ان تبدي المشورة والنصيحة لبعض القوى السياسية المهيمنة في البلد والذين يسحقون الطبقات الضعيفة باعتبارهم الأغلبية، وينبغي ان يتم الضغط عليهم لنبذ كل أشكال الكراهية والعنف والتمييز وعدم المساواة بناء على الدستور العراقي وحق المواطنة والاتفاقيات الدولية».
وأشار بيان اللجنة البرلمانية، إلى أنها «ترفض كل الخطابات الساعية لإذكاء التفرقة وترسيم الفوارق بين مكونات الشعب من قبل بعض القوى المتنفذة في العملية السياسية، وان مبدأ تقسيم مكونات الشعب العراقي أمر مرفوض بناء على تقسيمات هامشية أو الانتقاص من حقوقهم بسبب التمييز والكراهية».
وشددت اللجنة بأن مساعي الأمم المتحدة في تغليب لغة الحوار والمساواة وعدم التمييز، هي من أهم المتطلبات الأممية في الضغط على الحكومة العراقية لتنفيذ الاتفاقيات الدولية ومبادئ باريس واتفاقية جنيف والعهود الدولية لحقوق الإنسان بتقديم النصيحة والمشورة على المتنفذين وعلى الحكومات تطبيق ما ورد أعلاه، وتطبيق مبادئ الدستور العراقي الذي ضمن حقوق كافة مكونات الشعب وفق الأطر القانونية».
ولم يكن بعيدا عن السياق، استقبال حاكم الزاملي النائب الأول لرئيس مجلس النواب العراقي، رئيس ديوان الوقف السني والوفد المرافق له، عندما حذر من السماح للشخصيات والحركات «المتطرفة» تبوأ أي منصب يمكن ان تتخذه سبيلا لنشر نهجها «المنحرف».
وقال الزاملي خلال اللقاء، قبل أيام إن الأوقاف «الشيعية والسنية والمسيحية» مؤسسات تعمل ضمن جسد واحد، أحد أهدافها الرئيسية تبني الخطاب المعتدل. داعيا إلى «ضرورة تبني المؤسسات الدينية بكافة مسمياتها، نهجاً موحداً ينبذ الطائفية والتطرف والعنصرية بكافة الأشكال، وإبعاد الشخصيات والحركات التي تستغل عملها ضمن المؤسسات الدينية والإدارية لدس سموم التطرف والتفرقة والكراهية بين أبناء الشعب الواحد، وعدم السماح لها بتبوأ أي منصب أو مسؤولية يمكن ان تتخذها سبيلاً لنشر نهجها المنحرف». ودعا الزاملي، إدارة الأوقاف الشيعية والسنية والمسيحية لتبني الخطاب المعتدل، وحماية المجتمع من الأفكار المنحرفة والظواهر السلبية.
مساع أممية لمنع التطرف
والجدير بالذكر، ان جلسة الحوار الأخيرة حول تهميش وإقصاء الأقليات في العراق، لم تكن التحرك الوحيد لمحاولة معالجة هذه المشكلة، حيث سبقها قيام ممثلي الأمم المتحدة في بغداد، بإجراء لقاءات كثيرة مع الرموز الدينية والسياسية للمكونات، للدعوة إلى محاربة التطرف الطائفي والقومي والتمييز بين الطوائف، الذي تسبب بكوارث على المجتمع العراقي بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 .
كما قامت الأمم المتحدة بتنظيم ندوات ومؤتمرات لتحقيق هذا الهدف، منها إطلاق برنامج الأمم المتحدة الانمائي، في اذار/مارس 2022 حوارا عراقيا من أجل تشكيل رابطة «القادة الدينيين» لمنع التطرف العنيف في العراق.
وأوضح تقرير لبرنامج الأمم المتحدة إن «اللجنة الوطنية لتنفيذ استراتيجية منع التطرف العنيف التابعة لمستشارية الأمن القومي، أطلقت الجلسة الحوارية الأولى، وذلك بالشراكة مع برنامج الأمم المتحدة». وأشار إلى أن «التركيز الأساسي للرابطة يستهدف الوسطية وتعزيز الخطاب الديني المعتدل ونشر الوعي والدعم للمبادرات المجتمعية حول منع التطرف العنيف» مضيفا ان «الجلسة الحوارية جمعت أعضاء من اللجنة الوطنية لتنفيذ استراتيجية منع التطرف وممثلين عن المؤسسات الدينية من الأوقاف الشيعية والسنية والإيزيدية والمسيحية والصابئة، بالإضافة إلى العتبة الحسينية».
وأوضح التقرير ان «تنظيم جلسة الحوار يندرج في إطار نهج برنامج الأمم المتحدة الانمائي المتكامل لمنع التطرف العنيف، وتعزيز التماسك المجتمعي في العراق، والذي يتضمن دعم اللجنة الوطنية المعنية بتنفيذ استراتيجية منع التطرف العنيف من خلال بناء قدرات اللجان الفرعية المختصة بتنفيذ الاستراتيجية في المحافظات، بالإضافة إلى إنشاء شبكات للقادة الدينيين من مختلف الطوائف والأديان بشأن منع التطرف». ونقل التقرير عن الممثلة المقيمة لبرنامج الأمم المتحدة الانمائي في العراق زينة علي أحمد قولها، إن «إنشاء رابطة وسطية للقادة الدينيين هو ضمن مشاريع برنامج الأمم المتحدة الانمائي لدعم الحكومة العراقية في منع التطرف العنيف من خلال نهج مستدام وشامل لجميع فئات المجتمع بما في ذلك القادة الدينيين والشباب والمجتمع المدني، وستساهم في تقوية التماسك المجتمعي في العراق».
وخلال جلسة الحوار، أكد رئيس «اللجنة الوطنية لمتابعة تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمنع التطرف العنيف» علي عبدالله البديري، على الأولوية التي تعطيها اللجنة لدور رجال الدين الفاعل والمؤثر في المجتمع والذي سيتعزز من خلال هذه الرابطة لبث رسائل تدعو إلى نهج الوسطية ما يساهم في دعم تنفيذ الاستراتيجية، فيما نقل التقرير عن ممثل الوقف السني محمد صالح رشاد قوله، إن «الاجتماع حول تشكيل الرابطة كان صريحا وشفافا في الدعوة إلى خطاب معتدل ومحاربة خطاب الكراهية، وان أحد أهداف هذه الرابطة هو رصد خطاب الكراهية الذي يؤدي إلى النزاعات وتحليله والرد عليه». أما رائد جبار الخميسي الذي يمثل وقف الأقليات، فإنه عبر عن أمله بتنفيذ «مبادرات جيدة لمنع التطرف العنيف قبل حدوثه».
وقد خرجت هذه الجلسة بتوصيات من أجل تنفيذ فكرة تشكيل رابطة دينية وسطية معتدلة للعمل على منع التطرف العنيف، ولكن لا يبدو انها تحققت فعلا.
التنوع الثقافي
وفي شأن ذو صلة، وبمناسبة «اليوم العالمي للتنوع الثقافي من أجل الحوار والتنمية» عُقد في قصر المؤتمرات في بغداد، مؤتمر التنوع الثقافي بمشاركة وزارة الثقافة والسياحة والآثار ودائرة قصر المؤتمرات، وقسم الدراسات والبحوث ودار الكتب والوثائق، ودار المأمون للترجمة والنشر.
وأقر وزير الثقافة والسياحة والآثار الدكتور حسن ناظم خلال كلمته بهذه المناسبة، أن «الوزارة مضت عليها عقود لا تعنى بتنوع العراق الثقافي واللغات والأديان والمذاهب ولا بالثقافات المختلفة». وشدد ناظم على ان «الجهل بقيمة تراثنا في التنوع الثقافي، والأشياء العظيمة التي نمتلكها في اللغات غير العربية، أدى إلى طمس ثقافتنا المتنوعة وأثر على تنوعنا العرقي واللغوي والثقافي والأدبي». وأعلن وزير الثقافة عن استحداث قسم للتنوع الثقافي في الوزارة، الذي «تم تأسيسه بفكرة جديدة تهتم بالتنوع الثقافي الكبير في العراق» موضحا أن «الباحثين قدموا أوراقهم البحثية للإضاءة على التنوع الثقافي من جوانب عديدة سواء سياسية أو ثقافية أو إعلامية أو دينية».
كما قُدمت عدد من البحوث لباحثين من الجامعات العراقية، وديوان الوقف السني، وقسم الدراسات والبحوث في وزارة الثقافة والسياحة والآثار، تناولت عدداً من المواضيع الخاصة بالتنوع الثقافي، وارتباطها بالمنهج الدراسي والتعليمي والإعلام، والتعددية السياسية والثقافية والدينية، والأماكن المقدسة، والموروث الثقافي، وتعزيز الهوية الثقافية الجامعة، والحماية القانونية.
ويتفق المراقبون على انه بالرغم من الاهتمام الدولي وعقد العديد من اللقاءات والمؤتمرات لبحث موضوع التهميش والتمييز الذي يشكو منه ممثلو الأقليات، ورغم إصدار البيانات والتصريحات الكثيرة من الحكومة والقوى السياسية المتنفذة، إلا ان الواقع لم يتغير بسبب تمسك تلك القوى بأسلوب الاستئثار بالسلطة وعدم السماح للأقليات بالمشاركة الفعالة، فيما تعرضت بعض الأقليات إلى جرائم ارتكبتها بعض القوى والجماعات المسلحة، لعل أبرزها كارثة استباحة تنظيم «داعش» لمناطق الإيزيديين في الموصل عام 2014 واستيلاء بعض الفصائل المسلحة على ممتلكات المسيحيين الذين غادروا العراق بسبب تدهور الأوضاع الأمنية، وغيرها من الحالات.
وغالبا ما يؤكد ممثلو الأقليات في العراق من السياسيين والوجهاء، على ان مرحلة ما بعد 2003 شهدت هيمنة القوى السياسية باسم المكونات الكبيرة على السلطة والدولة، بحجة الدفاع عن حقوق المكونات التي يمثلونها، بالتزامن مع إهمال حقوق أبناء الأقليات واقصاءهم عن مواقع المسؤولية في دوائر الدولة، ما دفع الأقليات إلى تقديم العديد من الشكاوى بهذا الشأن إلى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المعنية، التي نظمت العديد من اللقاءات ووجهت العديد من الدعوات إلى النخبة السياسية الحاكمة لإلغاء التمييز والتهميش بين العراقيين، من دون أن يسفر ذلك عن تصحيح الأوضاع على أرض الواقع.
المصدر: «القدس العربي»