إنّ أخطر تطورات الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي هو تنامي أهمية البعد الديني، وقد كانت سنة 1967، وما حملته من انتصار إسرائيلي على العرب، بمثابة معلم في هذا المنظور. فللمرة الأولى وقع ” كامل أرض إسرائيل “، وفي جملتها القدس بكاملها و” جبل الهيكل “، تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية الكاملة. وقد اعتبر ذلك توكيداً لـ ” الرضى الإلهي “، ودليلاً على صحة كون الشعب اليهودي ” شعباً مختاراً “، وأفضى إلى نشوء حركة الاستيطان القومية الدينية ” غوش إيمونيم ” أو ” كتلة المؤمنين “، المصممة على بناء الهيكل واستيطان كامل ” أرض الميعاد ” إلى الأبد، إتماماً للعهد المقطوع مع يهوه (الله).
لا يعود هذا التغوّل العنصري فقط إلى الجذور الاستعمارية لإسرائيل بقدر ما يعود، كذلك، لنجاح اليمين الديني الصهيوني في التغلغل داخل دوائر القرار الإسرائيلي، وبالتالي، إعطاء الصراع صبغة دينية من خلال مخطط التهويد الذي يستهدف السيطرة على القدس والمسجد الأقصى. ومن المفارقة أن هذا اليمين يشترك مع الحركات الإسلامية في المنطقة، على الرغم من تناقضه البنيوي معها، في تديين الصراع بتحويله من صراع قومي وسياسي، يتعلق بالأرض والهوية ومقاومة الاستعمار، إلى صراع ديني مفتوح بين المسلمين واليهود.
وفي الجانب الآخر، يبدو أنّ العرب مغرومين بلعبة التطابق، فالتطابق الذي حصل بين المسألة الفلسطينية وبين الإسلام يبدو كأنه سدرة المنتهى للعالم العربي ولقسم من النخب الفلسطينية، حتى عندما صار هذا التطابق مهلكاً بسبب من التحولات في العالم الإسلامي ونزوع حركات فيه إلى المواجهة العنيفة مع الغرب ورموزه، إذ لم نرَ أي جهد يذكر لفض هذا التطابق وتأكيد التباين والاختلاف بين المسألة الفلسطينية، بوصفها قضية شعب يسعى إلى الحرية واستعادة جزء من وطنه التاريخي، وبين الإسلام الجهادي الذي انزلقت أوساط فيه إلى العنف الصريح تحت مسميات وأغراض لا علاقة لها بالمسألة الفلسطينية التي تم تجييرها على غير إرادة منها.
إنّ هدف إسرائيل تجاه المسجد الأقصى هو الهدم التدريجي، بهدف بناء الهيكل المزعوم مكانه، لذا يتحرك الإسرائيليون وفق مخطط استراتيجي وينفذونه على مراحل متدرجة ومتصاعدة. ففي هذه الأيام يشتد الصراع بين المتطرفين الإسرائيليين، مدعومين من حكومة ” التغيير ” الجديدة بقيادة بينت، والفلسطينيين في القدس. وفي الوقت نفسه، تتواصل ادعاءات الأوساط الإسرائيلية الدينية المتطرفة وجود هيكل سليمان المزعوم تحت المسجد الأقصى.
وفي الواقع يمكن استيضاح أهمية القدس في المشاريع الاستيطانية الإسرائيلية منذ العام 1948 مرورا بالعام 1967، وحتى اليوم من خلال مجموع سكانها اليهود الآخذ بالنمو لتحقيق أهداف سياسية وديموغرافية في الوقت نفسه: فمن جهة بات مجموع المستوطنين اليهود في مدينة القدس الشرقية يشكلون نسبة كبيرة من المستوطنين في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة. ومن جهة أخرى، بات مجموع السكان اليهود في القدس الكبرى يشكلون نسبة معتبرة من إجمالي مجموع اليهود في إسرائيل والأراضي المحتلة.
وهكذا، فإنّ اكتساب الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي طابعاً دينياً سيصعّب إمكانية الوصول إلى ” الحل الوسط التاريخي ” للقضيتين الفلسطينية والإسرائيلية، إذ إنّ الرداء السياسي العلماني الذي تلبسه الحركة الصهيونية الرسمية، يبدو قناعاً تتخفى وراءه رؤية دينية تصر إسرائيل من خلالها على تحديد مواقفها من الصراع استناداً إلى اعتبارات تمليها عقائد دينية بأكثر مما تمليها اعتبارات سياسية.
ولأنّ المعتقدات الدينية لا تقبل بطبيعتها حلولاً وسطاً، فمن الطبيعي أن تصبح الصراعات المبنية على معتقدات من هذا النوع مستعصية على الحل وعلى التسوية. فأية تسوية قابلة للحياة هي بطبيعتها حل وسط بين حقوق ومصالح متعارضة، وما لم تبدِ أطراف الصراع جميعها استعداداً حقيقياً ومتكافئاً لتفهم حقوق الآخرين ومصالحهم، والقبول بصيغة تحقق التوازن بين حقوق ومصالح الجميع، يصبح إمكان التوصل إلى أرضية مشتركة، أي صالحة لبناء اتفاق نهائي فوقها، مسألة بالغة الصعوبة. وحين يكون هناك طرف عربي يرى الصراع من منظور سياسي، من خلال خطة السلام العربية، وهو منظور براغماتي – مرن بطبيعته، وآخر إسرائيلي يراه من منظور ديني، وهو منظور عقائدي – جامد بطبيعته، يصبح من الصعب جداً التقريب بين مواقف الطرفين للاتفاق على مرجعية واضحة للأسس التي يقوم عليها الحل.
إنّ اغتيال شيرين أبو عاقلة، المسيحية العربية الفلسطينية، والاعتداء على جنازتها، يعيدان الصراع إلى جذوره، لأن الهدف الاستراتيجي لدولة الاحتلال يبقى اقتلاع الهوية الفلسطينية بمختلف مكوّناتها الروحية والثقافية، لا فرق في ذلك بين مسلمين ومسيحيين. وشيرين كانت شاهدةً على فصول غير قليلة في مسلسل الاقتلاع هذا إبّان العقدين الأخيرين.
ومن المؤكد أنه إذا أصرت إسرائيل على رؤيتها الدينية للصراع فلن يكون هناك سلام شامل وعادل ودائم. ففي مواجهة رؤية لحقوق يهودية مستمدة من التوراة، لا بدَّ أن تبرز رؤية مقابلة تعتبر فلسطين كلها أرض وقف وجزء من دار الإسلام الذي لا يجوز لأحد التفريط في شبر واحد منه.