لم يعد ملء الفراغ الروسي في سوريا، من جانب إيران، مجرد نظرية يناقشها المحللون عبر وسائل الإعلام، بل برزت مؤخراً، بوصفها هاجساً لرأس هرم السلطة في دولة جارة لسوريا، هي الأردن. وسريعاً، اتضح الجانب الاقتصادي للمعادلة المتمثلة بتراجع روسيا وتقدم إيران في سوريا، عبر الإعلان عن تفاصيل محدودة بخصوص خط ائتماني إيراني جديد لدمشق.
غموض التفاصيل بخصوص هذا “الخط”، سواء من حيث قيمته، أو كيفية سداده، دفعت إلى التساؤل: على ماذا ستحصل إيران مقابل قرضها الجديد لنظام الأسد؟ فإزالة العقبات أمام الاتفاق على “خط الائتمان” الجديد، الذي تأجّل مراراً، تطلبت زيارة بشار الأسد شخصياً إلى طهران، بعد أن تفاقمت أزمة المحروقات في البلاد، وبعد أن فشلت حكومته في الحصول على القدر المناسب من المشتقات النفطية من مصادر بديلة (دول خليجية). وكما هو معلوم، فإن “خط الائتمان” الإيراني، هو قرض بفائدة ميسّرة. ومع العجز المالي لنظام الأسد، فإن السداد سيكون من خلال امتيازات اقتصادية جديدة لإيران، على حساب الموارد السورية، وعلى حساب المواطن، ذاته.
في آذار/مارس المنصرم، صدرت دراسة عن مركز الحوار السوري ومركز ماري للأبحاث والدراسات، بعنوان “التغلغل الإيراني الاقتصادي في سوريا بعد عام 2011”. تفيدنا هذه الدراسة في فهم سمات وأهداف الدخول الاقتصادي الإيراني إلى سوريا. وتتيح لنا، تصوّر مشهد مستقبلي، في ضوء التراجع المرتقب للنفوذ الروسي.
تشير الدراسة إلى معادلة خطيرة، تقوم على سعي إيران لربط الاقتصاد السوري باقتصادها، وهي ذات المعادلة التي قام عليها “الاستعمار الحديث”، والتي اعتمدت على ربط اقتصاديات الدول المُستَعمَرَة باقتصاديات الدولة المُستعمِرَة.
أحد تجليات تلك المعادلة، سعي إيران المتجدد لتحويل سوريا إلى سوقٍ لتصريف بضائعها. وهو سعيّ تعرض للفشل في كثير من جوانبه، لأسباب عديدة، كان أحدها، المنافسة الروسية. وهنا نضيف سبباً آخر ، وهو تعنت التجار السوريين ومحاولاتهم الالتفاف على الضغوط الممارسة عليهم، لشراء البضائع الإيرانية، نظراً لتدني جودتها وسوء سمعتها لدى المستهلك السوري. لكن مع تزايد الحاجة السورية للمعونة الإيرانية، وتجلي ذلك في خط ائتمان جديد، أحد بنوده، توفير مواد أساسية للسوق السورية، يعني ضغوطاً أشد على التاجر السوري، لشراء بضائع إيرانية، بالدين، وتسديد ثمنها، بعد تصريفها في السوق السورية. خاصة، مع تراجع المنافسة الروسية.
وبالتالي علينا أن نتوقع في الفترة القادمة، تغيّراً في معادلات التجارة بسوريا. ولتوضيح ما نقصد، نعطي مثالاً يتعلق بسعي إيران السابق لإغراق السوق السورية بمستلزمات قطاع الزراعة والثروة الحيوانية، كتسويق اللقاحات الحيوانية ومنتجات الدواجن الإيرانية، والأسمدة والمعدات الميكانيكية الزراعية. هذه الجهود الإيرانية تعرضت سابقاً لنكسات شديدة، جراء تزايد نسب التجارة الزراعية الروسية مع سوريا، وجراء فشل تجديد الخط الائتماني الإيراني. هذان العاملان، زالا الآن، فروسيا تحظر تصدير معظم سلعها الزراعية المهمة، وإيران جددت خطها الائتماني للنظام، مما يعني أن السلع الإيرانية ستغزو السوق السورية، بكثافة، في الفترة المقبلة. ولن يستطيع التاجر السوري مقاومة الضغوط، بهذا الصدد. وهو ما قد يفرض معادلة ليست في صالح المستهلك السوري، تتمثل في مقايضة منتجات زراعية وغذائية سورية تحتاجها إيران، كـ زيت الزيتون والعدس مثلاً، بسلع ومنتجات إيرانية لا يتم تصريفها بالشكل المأمول في السوق السورية، مثل زيت دوار الشمس.
“الخط الائتماني” الإيراني الجديد، لن يفرض تداعيات على صعيد التجارة، فقط. بل ستكون أبرز تداعياته، على الموارد السورية، التي تديرها حكومة النظام. ومن أهمها، الفوسفات، الذي لطالما سعت إيران للحصول عليه، نظراً لأهميته الكبيرة لديها، سواء من حيث تلبية احتياجات السوق الإيرانية الزراعية، أو بوصفه مصدراً مهماً للحصول على اليورانيوم الذي تحتاجه إيران في برنامجها النووي.
ورغم أن إيران خسرت احتكار مناجم الفوسفات السورية لصالح روسيا، عام 2018، إلا أنها نجحت في فرض نفسها، كمستورد رئيس له، بالاتفاق مع روسيا ذاتها. ومع “الخط الائتماني” الجديد، وحاجة النظام الى موارد لتسديد قرضه لطهران، قد تكون حصّة “الدولة” السورية، من الفوسفات المُنتج، والمحددة بـ 30%، هي الخيار الرئيس، كمقايضة مع المشتقات النفطية الإيرانية المُقدّمة عبر هذا القرض.
ومع تفاقم حاجة أوروبا لغاز بديل عن الغاز الروسي، ستزداد فرص تحقيق حلم إيران القديم، بتصدير غازها ونفطها، عبر المتوسط، إلى أوروبا. وستتجدد مساعيها للحصول على ميناء على الساحل السوري. ومع فشلها في ميناء طرطوس واللاذقية، ستتجدد مساعيها للاستيلاء على ميناء بانياس، وتوسيعه ليكون منفذاً استراتيجياً بديلاً عن مضيق هرمز. ويبقى هذا السيناريو رهن قدرة إسرائيل على عرقلته.
وسيكون قطاع الطاقة الكهربائية، من أبرز المجالات التي تنتظر مزيداً من التغول الإيراني، نظراً لأنه يدرّ أرباحاً كبيرة، ويتيح سرعة دوران رأس المال. وقد حصلت إيران، بالفعل، على امتيازات من نظام الأسد في هذا القطاع، خلال السنوات الفائتة. ومن المتوقع، أن تحصل على امتيازات أخرى، أكثر نوعية، بصورة تتيح استنساخ السيطرة الإيرانية على قطاع الكهرباء العراقي، بوصفها إحدى أوراق الضغط لضمان التبعية.
التغلغل الإيراني في سوريا، لن يزداد على صعيد الأنشطة الاقتصادية الشرعية فقط. بل ستتفاقم الأنشطة الاقتصادية غير الشرعية أيضاً، من تجارة مخدرات، وزراعة حشيش، وتهريب وتجارة أعضاء. وهو ما لمس الأردن تحديداً، مؤشراته الأولى، إذ تفاقمت تجارة المخدرات عبر حدوده الشمالية مع سوريا، منذ ان تعززت سيطرة النظام في درعا، خلال الصيف الفائت، بنسبة تقترب من الثلث في حالة تهريب حبوب الكبتاغون، وبعشرات الأضعاف في حالة تهريب الحشيش. وقد أقرّت الجهات الرسمية الأردنية أن هذه التجارة تتم بتمويل ودعم من ميليشيات حزب الله وإيران، وبتواطؤ من جهات وصفتها بـ “قوات غير منضبطة” من جيش النظام.
وتراهن إيران على هذه الأنشطة الاقتصادية غير الشرعية، لخلق قنوات تمويل ذاتي للميليشيات التابعة لها، وللعبث بالأمن الإقليمي، بغاية الابتزاز السياسي والأمني. وهو ما يتضح جلياً في حالة الحدود السورية – الأردنية.
ورغم استفاضتنا في الحديث عما ينتظر سوريا، من تفاقم للنفوذ الاقتصادي الإيراني، إلا أن هذه المساحة لا تتيح استيفاء هذا الملف حقّه. فهناك قطاعات كثيرة لم نستطع تناول المساعي الإيرانية فيها، كقطاع البنية التحتية والتشييد والإعمار، والقطاع المصرفي. لكن، يمكن لنا أن نختصر المشهد الراهن، بعبارة ثقيلة الوطأة، لكنها دقيقة التوصيف: إيران تحتل سوريا، اقتصادياً.
المصدر: المدن