يفر الروس من بلادهم بأعداد كبيرة نحو أرمينيا، وجورجيا، وأوزبكستان، وإستونيا، ولاتفيا، والجبل الأسود. في أول أسبوعين فحسب من الحرب، استقبلت جورجيا 25 ألف روسي، فيما كان يصل إلى أرمينيا ستة آلاف روسي يومياً. وبحلول نهاية مارس (آذار)، توجه 60 ألف روسي إلى كازاخستان. كذلك، لجأ كثيرون إلى عدد من البلدان المختلفة في أوروبا الشرقية. ومنذ بدء غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا، شهدت الحدود تهافت الروس الذين لديهم الوسائل للقيام بذلك، في ما يعتبر أكبر نزوح جماعي منذ الثورة البلشفية.
في الواقع، يبرز هذا الهروب الدراماتيكي الآثار البعيدة المدى المترتبة على حرب بوتين. بالنسبة إلى الروس الذين بلغوا سن الرشد في تسعينيات القرن الماضي، بدا للوهلة الأولى أن الأيام التي سيجبرون فيها على مغادرة البلاد لأسباب سياسية قد ولت. كان يمكن للمرء المغادرة لأسباب اقتصادية، لكن الخوف من الاضطهاد أو تقييد الحريات الشخصية لم يعد موجوداً. في السنوات الأخيرة، عندما أصبح نظام بوتين استبدادياً بشكل متزايد، تغير ذلك كله. كانت أول مجموعة كبيرة تأثرت بذلك هي من السياسيين المعارضين والصحافيين المستقلين والنشطاء السياسيين، الذين بدأوا في الفرار إلى أوروبا والولايات المتحدة بعد عام 2013 (أعاد بوتين الهجرة السياسية في وقت مبكر في عام 2000، ولكن في ذلك الوقت، كانت تقتصر في الغالب على الأوليغارشيين الذين اختلفوا مع الكرملين)، ثم تسارع تدفق المهاجرين في عام 2020، بعد أن كثف بوتين حملته القمعية على المجتمع المدني وغير الدستور ليسمح له بالبقاء في السلطة حتى عام 2036 في الأقل.
بيد أن الهجوم على أوكرانيا هو الذي حول تلك النزعة إلى موجة عملاقة. خلال الأسابيع الأولى من الغزو، وسط قمع متزايد في الداخل، يعتقد أن مئات الآلاف من الروس قد غادروا البلاد. والجدير بالذكر أن أولئك الذين فروا يأتون من عديد من الخلفيات والمهن المختلفة، علماً بأن عدداً كبيراً منهم لم يفكر في الهجرة من قبل، لكن جميعهم تقريباً لديهم ثلاثة أشياء مشتركة، وهي أنهم يتمتعون بمستوى عالٍ من التعليم، ويأتون من المدن الكبرى، ويملكون نظرة ليبرالية.
بالنسبة إلى روسيا، يثير رحيل عديد من المهنيين المتعلمين والأكاديميين ورجال الأعمال أسئلة عميقة حول البنية المستقبلية للبلاد. وبالنسبة إلى أولئك الذين يسعون إلى تغيير سياسي واسع النطاق، فإنه يمثل أيضاً تحدياً جديداً، يتمثل في ما إذا كان من الممكن الضغط بشكل فعال على النظام من الخارج، مع وجود كثير من أعضاء المعارضة المحلية الآن في السجن أو رحيلهم ببساطة. في منحى مقابل، بالنسبة إلى أولئك الذين ما زالوا في البلاد، فإن اضمحلال المجتمع المدني يعني أنهم قد يكونون عالقين في بلد فقير ثقافياً ومرتاب ومتشدد.
هجرة الأدمغة
يمكن تقسيم الموجة الجديدة من المنفيين من روسيا بوتين إلى أربع فئات. تتكون الفئة الأولى والأكبر من متخصصي تكنولوجيا المعلومات، وفقاً للرابطة الروسية للاتصالات الإلكترونية، غادر ما لا يقل عن 100 ألف من أولئك المهنيين منذ بدء الغزو. وفي ذلك الإطار تجدر الإشارة إلى أن روسيا التي تشتهر منذ زمن بعيد بمهندسيها وعلماء الكمبيوتر، هي واحدة من عدد قليل جداً من البلدان التي يمكن أن تتنافس فيها منصات الإنترنت المحلية بنجاح مع المنصات العالمية مثل “غوغل” و”فيسبوك”. قبل الحرب، كان عديد من أولئك الخبراء المهنيين موظفين في شركات أميركية أو شركات غربية أخرى، فيما أدار آخرون شركاتهم الخاصة وعملوا لصالح عملاء أجانب.
لكن بعد 24 فبراير (شباط)، أصبح من الواضح أن هذا النوع من العمل الدولي لم يعد ممكناً، إذ إن العقوبات الشاملة التي فرضها الغرب أعاقت الوصول إلى التقنيات الغربية، ولم يتمكن كثيرون من تلقي المال من العملاء الغربيين أو حتى الاتصال بخوادم شركاتهم. علاوة على ذلك، فإن عدداً كبيراً من أولئك هم شباب في منتصف العقد الثاني أو الثالث من العمر، يخشون أن يتم تجنيدهم في الجيش إذا بقوا.
في المقابل، تضم المجموعة الثانية من المهاجرين الصحافيين والنشطاء وموظفي المنظمات غير الحكومية: ربما لا يتخطى عدد أعضاء هذه المجموعة 1000 شخص، ولكن نظراً إلى أهميتهم في بناء مجتمع مدني مستقل، سيكون لرحيلهم عواقب وخيمة على البلاد. سرعان ما أدركوا في بداية الحرب أن النظام جعل من المستحيل عليهم متابعة عملهم في روسيا، وبالنسبة إلى كثيرين منهم، شكل البقاء في البلاد خطراً حقيقياً يتمثل في تعرضهم للاعتقال وربما السجن.
تتكون المجموعة الثالثة من المثقفين الليبراليين في المدن الكبرى مثل موسكو وسانت بطرسبورغ، على غرار الأساتذة والباحثين والمؤرخين. حتى الآن، كان أعضاء هذه المجموعة يعملون في الجامعات أو المتاحف أو المنظمات البحثية الأخرى. كذلك، عمل كثيرون في مشاريع تدعمها مؤسسات غربية بدلاً من الحكومة الروسية، وكانوا قد تابعوا عملهم سابقاً بشكل يخلو إلى حد كبير من بروباغندا الكرملين. وأنشأ عدد منهم صلات بالجامعات الغربية، لكن في روسيا اليوم، ينظر إلى هذا النوع من العمل المستقل على أنه غير وطني. وفي سياق متصل، لا يعتقد المثقفون الفارون أن حياتهم في خطر، بل مهنتهم هي المهددة، علماً بأن كثيرين من بينهم سبق أن فقدوا وظائفهم بسبب آرائهم الليبرالية. وهم في الغالب مترددون في العمل والعيش في عزلة متزايدة عن الغرب.
أما الفئة الأخيرة من المنفيين، فهي تتكون من رجال الأعمال ومديري الشركات الكبرى، بما في ذلك الشركات المملوكة للدولة مثل غازبروم (Gazprom)، وكذلك البنوك الروسية. لم يعد هؤلاء الروس يشعرون بالراحة في بلد يغلق حدوده ويعزل نفسه عن العالم الخارجي، وكثيرون منهم كانوا يعملون لدى شركات تخضع الآن لعقوبات غربية أو قد تتعرض للعقوبات قريباً. عندما بدأت الحرب، ترك عديد من هؤلاء الأشخاص وظائفهم فجأة وهربوا إلى أوروبا، لكن فرصهم في العثور على عمل أو مشروع أو شركة للاستثمار فيها تظل ضئيلة، بسبب جنسيتهم والوصمة المرافقة لعالم الشركات الروسية.
بالفعل، بعد شهرين من الحرب، عاد بعض المهاجرين الجدد، على رأسهم متخصصو تكنولوجيا المعلومات، إلى روسيا لأنهم يفتقرون إلى الموارد التي تخولهم البقاء في الخارج. وبعد أن أنفقوا كل الأموال التي جلبوها معهم ووجدوا أنفسهم غير قادرين على الوصول إلى حساباتهم المصرفية الروسية، أجبروا على العودة إلى ديارهم، لكن الآن، مع انتشار الإشاعات حول احتمالية التعبئة العامة، يحاول كثيرون إيجاد طريقة للمغادرة مرة أخرى، وهذه المرة، إلى الأبد.
التخلص المفيد
جزئياً، حدثت الهجرة الجماعية الحالية بتشجيع من بوتين نفسه. خلال الشهرين الأولين من الحرب، أوضح الكرملين أنه يفضل دفع خصومه إلى مغادرة البلاد بدلاً من جعلهم يتسببون في مشكلات في الداخل. حتى الآن، على سبيل المثال، لم تضع الحكومة الروسية أي قيود على المغادرة. كما قال بوتين في 16 مارس (آذار)، “سيكون الشعب الروسي دائماً قادراً على التمييز بين الوطنيين الحقيقيين من جهة والحثالة والخونة من جهة أخرى، وبصقهم ببساطة مثل ذبابة سقطت عن طريق الخطأ في فمهم”.
باتباعه هذا النهج، يعتمد بوتين على تقليد روسي طويل الأمد. في الاضطرابات السابقة، مثل المذابح المعادية للسامية في ظل القيصر، والحرب الأهلية الروسية، والحرب العالمية الثانية، والحملات المعادية للسامية خلال الحقبة السوفياتية، سمح لملايين الأشخاص بالهجرة لا بل تم تشجيعهم على ذلك. حتى عندما كافح المواطنون الروس والسوفيات العاديون للحصول على إذن بالمغادرة، تم طرد مثيري الشغب بشكل فاعل. في عام 1922، على سبيل المثال، حضر فلاديمير لينين بنفسه قائمة تضم 220 “مثقفاً غير مرغوب فيهم”، وضع أكثر من 160 منهم على متن ما يسمى سفن الفلاسفة وأرسلهم إلى ألمانيا. في السبعينيات من القرن الماضي، وسع ليونيد بريجنيف سياسة تجريد المعارضين من الجنسية السوفياتية وطردهم من البلاد.
بيد أن الروس غير المرغوب فيهم قد يثيرون مشكلات في الخارج أيضاً. كما وصفنا في كتابنا “المواطنون”، طوال السنوات السوفياتية، لم يتوقف المنفيون السياسيون الروس عن محاولة تغيير النظام الذي تركوه وراءهم. في عشرينيات القرن الماضي، شنوا حملة إرهاب، فأرسلوا عملاء سريين لتفجير تجمع بلشفي في روسيا وهاجموا المسؤولين السوفيات عندما سافروا إلى الخارج. في الثلاثينيات، عندما أرسل الجيش الأحمر قوات لدعم الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية، ذهب المحاربون القدامى في الجيش الأبيض المنفيين، الذين يعتبرون خصوم البلاشفة في الثورة الروسية، للقتال من أجل فرانسيسكو فرانكو. وعندما غزا الألمان الاتحاد السوفياتي في عام 1941، رأى بعض الروس الموجودين في الخارج فرصة لمحاربة الشيوعيين وانضموا إلى النازيين. في وقت لاحق، خلال الحرب الباردة، أثبت المنفيون الروس دورهم في تشكيل الحرب الدعائية المناهضة للشيوعية التي شنتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة: لقد كان الروس هم من أرسلوا بالونات محملة بالمنشورات عبر حدود أوروبا الشرقية، وكانت أصواتهم هي التي تم بثها من راديو ليبرتي والمحطات الأخرى المدعومة من الغرب والتي كانت تنقل المعلومات عبر الستار الحديدي. وعلى نحو مماثل، عندما غزا الجيش السوفياتي أفغانستان في عام 1979، أطلق المهاجرون السياسيون الروس في لندن وباريس جهوداً دعائية لمحاولة إقناع الجنود السوفيات بالانضمام إلى المجاهدين.
في الوقت نفسه، وطوال السنوات الشيوعية، حاول أولئك الذين فروا أن يؤثروا في الرأي العام في أوروبا والولايات المتحدة. لذلك، نظموا مسيرات احتجاجية في عدد من العواصم الغربية، وفي عام 1971، حاولوا حتى تفجير مكتب شركة التجارة السوفياتية “آمتورغ” في نيويورك من أجل زيادة التوعية بشأن معاناة اليهود السوفيات.
في الواقع، كان تأثير معظم تلك الجهود ضئيلاً. وما زاد الأمور تعقيداً هو أن المهاجرين الروس كانوا معروفين بفشلهم في بناء المنظمات السياسية، غالباً بسبب آرائهم المتضاربة للغاية حول مستقبل روسيا بمجرد تحريرها من الشيوعيين، إذ تصادم الديمقراطيون مع الإمبرياليين والقوميين.
ولكن كان هناك مجال واحد حقق فيه الروس بعض النجاحات المذهلة في الخارج: لقد كتبوا عدداً من الكتب المهمة التي، بمجرد تهريبها إلى خارج البلاد، أثبتت فعاليتها في تغيير الرأي الغربي حول الاتحاد السوفياتي. (أرخبيل الغولاغ The Gulag Archipelago، بقلم ألكسندر سولجنتسين، ومذكرات سفيتلانا أليلوييفا، ابنة ستالين، هما مثالان على ذلك). وعندما تمت قراءة تلك الكتب بصوت عال ومناقشتها باللغة الروسية في المحطات الإذاعية التي استهدفت الستار الحديدي، ساعدت في إعادة تشكيل رأي الجمهور داخل الاتحاد السوفياتي نفسه. في المقابل، كانت الجهود الأخرى أقل كفاءة، لكن تلك الكتب والبرامج الإذاعية نجحت. في النهاية، لكي يحدث المنفيون فرقاً في روسيا نفسها، كان عليهم أن يجدوا طريقة ما للوصول إلى أولئك الذين بقوا في روسيا.
بودفا، وليس برلين
من نواحٍ متعددة، تختلف الهجرة الروسية الجديدة عن الموجات السابقة. بعد ثورة 1917، ذهب بعض المهاجرين الروس إلى براغ وإسطنبول وشنغهاي، لكن قبل كل شيء، ذهبوا إلى باريس وبرلين. في تلك المدن، تطورت المجتمعات الروسية النابضة بالحياة، ونشرت المجلات والصحف والكتب الخاصة بها وشكلت روابط روسية مهمة في الغرب. الآن، على النقيض من ذلك، تعني قيود التأشيرات وارتفاع تكلفة المعيشة أن عدداً قليلاً فحسب من الروس يتجهون إلى برلين. حتى إن أعداداً أقل تذهب إلى لندن، فيما تعد باريس خارج الصورة بشكل كامل تقريباً.
في المقابل، يتوجه المنفيون اليوم إلى مكان آخر. في ذلك الإطار، قام بعض عمالقة البرمجيات في الولايات المتحدة بنقل موظفيهم الروس إلى إيرلندا، لكن عمال تكنولوجيا المعلومات الذين هاجروا بمفردهم إلى أوروبا القارية عانوا للحصول على تأشيرات دخول وحسابات مصرفية، لذلك السبب لجأ عديد من المتخصصين في تكنولوجيا المعلومات إلى جورجيا وأرمينيا وكازاخستان وتركيا بدلاً من أوروبا، إذ إن تكلفة المعيشة في تبليسي أو إسطنبول، وهما وجهتان شائعتان، أرخص بكثير مما هي عليه في دول البلطيق. (إضافة إلى المنفيين الروس، أصبحت إسطنبول أيضاً موطناً لعدد من المراسلين الأجانب الذين يغطون روسيا واتخذوا من موسكو مقراً لهم إلى أن جعلت الرقابة الجديدة عملهم مستحيلاً).
بالنسبة إلى متخصصي تكنولوجيا المعلومات، استمر المشهد في التغير مع استمرار الحرب. بذلت أرمينيا جهداً لمساعدتهم في تسجيل الشركات وفتح حسابات مصرفية في البلاد، وذلك يدعم الاقتصاد المحلي أيضاً، نظراً إلى وجود شرط لاستخدام موظفين محليين. في 3 مايو (أيار)، أعلنت الولايات المتحدة أيضاً أنها تخطط لتسهيل انتقال عمال تكنولوجيا المعلومات الروس إليها. بطريقة موازية، ظهرت أيضاً مستعمرة صغيرة من المثقفين الروس في الجبل الأسود، حيث يلقى حاملو جوازات السفر الروسية ترحيباً وتوجد عقارات ميسورة التكلفة.
على نحو مماثل، استقبل الاتحاد الأوروبي موجته الخاصة من الروس، على الرغم من ذهابهم إلى بلدان مختلفة عن الأجيال السابقة. برزت فيلنيوس، عاصمة ليتوانيا الصغيرة والمريحة، كأهم مركز للمنفيين السياسيين الروس، وهناك أنشأت منظمة زعيم المعارضة الروسية أليكسي نافالني عملاً، جنباً إلى جنب مع عدد من الصحافيين والمدونين الروس المستقلين. كان ذلك ممكناً بفضل موقف الحكومة الليتوانية التي رحبت باللاجئين من بيلاروس وروسيا. في المقابل، وافقت ريغا، عاصمة لاتفيا المجاورة، على استضافة عدد صغير من المنظمات غير الحكومية والصحافيين، وانتقل عدد أقل حتى إلى تالين، عاصمة إستونيا، وبراغ، عاصمة جمهورية التشيك.
بشكل عام، على عكس الموجات السابقة من المنفيين الروس، التي ذهبت إلى أوروبا الغربية في أوائل القرن العشرين والولايات المتحدة خلال العقود الأخيرة من الحرب الباردة، كانت الموجة الحالية موجهة بشكل كبير إلى وسط وشرق أوروبا.ا
ثورة المعلومات
على الرغم من أن الأمر انتهى بالموجة الحالية من المنفيين في بلدان مختلفة عن أسلافهم السوفيات، فقد واجهوا عدداً من الصعوبات نفسها في إحداث تغيير في الداخل. على مدى العقد الماضي، على سبيل المثال، أطلق المهاجرون الروس عديداً من المنظمات السياسية في الغرب، مثل منتدى روسيا الحرة، الذي أطلقه بطل العالم في الشطرنج والناشط السياسي غاري كاسباروف، الموجود الآن في المنفى في نيويورك. وكما كان متوقعاً، فقد وقعوا في الفخ نفسه الذي وقع فيه أسلافهم في الحرب الباردة، غير قادرين على تشكيل جبهة متماسكة أو موحدة.
لكن المنفيين الروس كانوا أكثر نجاحاً في إعطاء العالم، والروس أنفسهم، صورة دقيقة لما يحدث في عهد بوتين. فلنأخذ في الاعتبار بداية الحرب، عندما غادر البلاد نحو 100 من كبار الصحافيين المستقلين الروس، وانضموا إلى زملائهم الذين غادروا في وقت سابق. واصل عديد من هؤلاء الصحافيين القيام بعملهم من الخارج، وإنتاج تقارير مستقلة عن الشؤون الروسية وإنشاء محتوى أصلي على “يوتيوب” وقنوات “تلغرام” ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.
حتى قبل الحرب، أدركت بعض المنظمات السياسية التابعة للمنفيين الروس قوة الأخبار والمعلومات الأجنبية الموجهة إلى الجمهور الروسي. منذ بداية الحرب، انتقل مؤيدو زعيم المعارضة المسجون أليكسي نافالني، والأوليغارشي الذي أصبح منفياً ميخائيل خودوركوفسكي بالكامل إلى الصحافة عبر الإنترنت، فأنتجوا تدفقات مستمرة من المحتوى على “يوتيوب” والقنوات الأخرى ووصلوا إلى ملايين الروس.
يعود ذلك جزئياً إلى فشل الرقابة الحكومية الروسية في بناء احتكار كامل للمعلومات داخل روسيا. على الرغم من الجهود الأخيرة لحظر المواقع الإخبارية المستقلة أو إغلاقها، ومنع الوصول إلى المنصات العالمية مثل “تويتر” و”فيسبوك” و”إنستغرام”، لا يزال عديد من الروس على اتصال بالعالم عبر الإنترنت من خلال شبكات افتراضية خاصة، إضافة إلى ذلك، ولأسباب غير معروفة، لم تمنع الرقابة الروسية الوصول إلى “يوتيوب” و”تلغرام”. وهكذا، فإن الجزء المثقف جداً في المجتمع الروسي والمستقل فكرياً، الذي يشكل ربما 15 في المئة أو أكثر من السكان، استمر في الحصول على معلومات موثوقة حول الحرب من الخارج، غالباً من نفس الصحافيين الروس المستقلين الذين كانوا يتابعونهم قبل الغزو.
هناك طلب كبير على هذا المحتوى الآن، والجدير بالذكر أن مقاطع فيديو “يوتيوب” حول المسار الفعلي للحرب في أوكرانيا تجمع بشكل روتيني عدة ملايين من المشاهدات، وحتى بعض قنوات “تلغرام” الفردية الخاصة بالصحافيين الروس المنفيين لديها عشرات الآلاف من المشتركين.
إعادة التفكير في روسيا
مع استمرار الحرب في أوكرانيا، وجد الليبراليون الذين بقوا في روسيا أن وضعهم أصبح لا يطاق على نحو متزايد. وصار واقع الحاضر الروسي مروعاً، بيد أن المستقبل الروسي يبدو أكثر كآبة: في ذلك السياق، تقول نكتة انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي إن صفوف اللغة الإنجليزية في المدارس الروسية توقفت عن تدريس زمن “المستقبل البسيط” (simple tense)، لأن روسيا لم يعد لديها مستقبل بسيط. كما أن الماضي الروسي لم يعد يقدم كثيراً من الأمل. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، كانت رواية الرئيس بوريس يلتسين واضحة وجذابة: شكلت الفترة السوفياتية انحرافاً مريعاً عن ماضٍ أكثر مجداً، وكان على الروس ببساطة استعادة ما كانوا يملكونه قبل عام 1917، أي روسيا ليو تولستوي، وفيودور دوستويفسكي، وأنطون تشيخوف، لكن عندما غزا بوتين أوكرانيا، فقدت الإمبراطورية الروسية فجأة مظهرها الجذاب. بدأ الليبراليون الروس، الذين يشعرون بالاشمئزاز من هذه الحرب الجديدة للعدوان الروسي، ينظرون برعب إلى المآثر الإمبريالية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وفي الواقع، من أجل العمل على سردية وطنية جديدة، لا يحتاج الروس كثيراً إلى الصحافيين فحسب، بل أيضاً إلى دعم مؤسسي أكبر، ولم يعد من الممكن أن يكون هذا الدعم قائماً في روسيا. على الرغم من التاريخ الطويل للهجرة الروسية، فإنه لا يوجد سوى مثال واحد ناجح لمثل تلك المؤسسة الخارجية: الجامعة الروسية الحرة (Russian Free University)، التي تأسست في براغ في عشرينيات القرن الماضي، عندما كانت براغ مركزاً للمثقفين الروس المنفيين بعد الثورة البلشفية. تلك الجامعة التي أطلق عليها اسم “أكسفورد الروسية”، مولتها الحكومة التشيكية، وذلك بفضل رعاية أول رئيس للبلاد، توماس ماساريك. وقد تمكنت من الحفاظ على التقليد الفكري الروسي حياً ومزدهراً إلى أن أغلقها الألمان في عام 1939.
الآن، هناك حديث متزايد عن الحاجة إلى إنشاء نوع مماثل من الجامعات في المنفى. ومن المؤكد أنه لا يوجد نقص في الأساتذة لقيادة مثل تلك المؤسسة، بالنظر إلى عدد الذين فروا من البلاد، بيد أن مؤسسة من هذا النوع ستحتاج إلى دعم غربي كبير، وستحتاج الدول الأوروبية على وجه الخصوص إلى أخذ زمام المبادرة.
خلال الحرب الباردة الطويلة، كانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي تملك استراتيجية تستهدف المنفيين الروس. وفي جهد قاده الدبلوماسي جورج كينان، أنشأت الولايات المتحدة في أوائل خمسينيات القرن الماضي اللجنة الأميركية لتحرير شعوب روسيا (American Committee for the Liberation of the Peoples of Russia) ولجنة أوروبا الحرة (Free Europe Committee)، اللتين استخدمتا اللاجئين السياسيين لتأجيج المقاومة وراء الستار الحديدي، ثم أنشأت اللجنتان بدورهما إذاعة أوروبا الحرة وراديو ليبرتي، التي قدمت معلومات حيوية للجمهور عبر الكتلة الشرقية. على الرغم من ذلك، بقيت الدول الأوروبية على الهامش إلى حد كبير. على سبيل المثال، على الرغم وجود عدد من المنشقين الروس في ألمانيا الغربية وتمركز معهد دراسة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية المدعوم من الولايات المتحدة وراديو ليبرتي وراديو أوروبا الحرة في ميونيخ، لم يكن للحكومة الألمانية أي دور في إدارة تلك المؤسسات.
في الواقع، يجب أن يتغير هذا التراخي فوراً. مع وجود مئات الآلاف من الروس في القارة الأوروبية، حان الوقت لأن تبدأ الحكومات الأوروبية بالتفكير في أولئك السكان المنفيين بشكل أكثر استراتيجية بكثير. عوضاً عن البقاء في موقف دفاعي، ومحاولة تجنب حملات التضليل والحرب الإلكترونية التي تستهدف موسكو الغرب فيها، يجب أن تعتمد على ذلك المورد الأساسي لشن نوع جديد من حرب المعلومات على الكرملين. وعلى الرغم من أن جزءاً كبيراً من التركيز على اللاجئين الأوكرانيين في وسائل الإعلام الغربية كان محقاً، فإن الحكومات الأوروبية يجب أن تكون حذرة من الوقوع في فخ اعتبار المنفيين الروس أنفسهم أعداء، وليس حلفاء أساسيين، في الجهود المبذولة لمواجهة نظام بوتين.
من خلال تمويل ودعم وسائل الإعلام الروسية والمشاريع التعليمية والبحثية الموجودة في أوروبا، يمكن للحكومات الأوروبية المساعدة في جلب الأفكار الليبرالية والتقارير المستقلة حول روسيا إلى الروس أنفسهم والمساعدة في مواجهة بروباغندا نظام بوتين. بمرور الوقت، يمكنها أيضاً المساعدة في خلق رواية جديدة عن روسيا وما قد يكون عليه مستقبل البلاد. ولكن، إذا فشلت الحكومات الغربية في دعم تلك الموجة المفاجئة من المنفيين، فسوف تبدد ما يمكن أن يكون أحد أكثر أشكال قوتها الناعمة فاعليةً ضد الاستبداد الروسي.
* أندريه سولداتوف هو صحافي استقصائي وشريك مؤسس ورئيس التحرير في موقع Agentura.ru، يتولى مراقبة أنشطة الاستخبارات الروسية.
* إيرينا بوروغان هي صحافية استقصائية وشريكة مؤسسة ونائب رئيس تحرير موقع Agentura.ru.
- هما المؤلفان المشاركان لكتاب “المواطنون: التاريخ الفوضوي والوحشي للمغتربين والعملاء الروس في الخارج”
فورين أفيرز مايو 2022
المصدر: اندبندنت عربية