في الأيام العشرة الأخيرة ترقَّبَ العالم إعلان بوتين انتصاره في الحرب على جارته أوكرانيا واستعادة حقوق روسيا التي ادّعاها.. فقد أوحت أجهزته الإعلامية بأن الانتصار الروسي سيعلن يوم 9 أيار ذكرى الانتصار على النازية، لكن بوتين لم يفعل ذلك بل ذهب نحو أمريكا وأوروبا زاعماً بأنه يردُّ الحرب التي كانتا تنويان القيام بها ضد روسيا.. هكذا بكل بساطة يتناسى بوتين ما كان ردده عن حقوق روسيا في أوكرانيا، وخصوصاً في إقليم “الدونباس”. لكنَّ الخطط الحربية الروسية انصبت منذ البدء على كييف بهدف إسقاط الرئاسة الأوكرانية، وجلب رئيس موالٍ لروسيا وتحقيق مصالحها ونواياها ويشاء القدر أن يكون الفشل الذريع والخسائر الباهظة من نصيب تلك الخطة وأن يطول الزمن الذي حددته القيادة الروسية بأربعة أيام أو ست وتسعين ساعة.. وعلى الرغم من أن الجيش الروسي استخدم أساليبه التدميرية التي مارسها في سورية، متجاوزاً خلالها شرائع الحروب وقوانينها وأخلاقياتها، فقتل مدنيين، ودمَّر أبنية، وبنىً تحتية، ومراكز إسعاف طبية، وروضات أطفال، وملاجئ إنسانية.. وربما احتجز أطفالًا كما فعل في سورية إذ أخذ الذين يَتَّمَهم الجيش الروسي ليعدّهم مقاتلين في ميليشيا “فاغنر”.. ورغم ذلك فروسيا لم تستقر بعد في سورية، ولم تستطع إيجاد حلول ترضي الشعب السوري بمفردها، ومن هنا، كانت دعوة بوتين للأمريكان والأوربيين مع بداية الحرب الأوكرانية أو قبل بدئها بقليل:
“تعالوا نتفق على كل شيء..” ما يعني تعالوا نتقاسم مناطق النفوذ في أنحاء العالم.. وهنا تكمن عقدة بوتين..!
لا شك في أن بوتين يدرك جيداً أن سبب سقوط الاتحاد السوفييتي هو فقدان الحرية التي ابتلعتها بيروقراطية الحزب وأمينه العام على مدى سبعين عاماً.. تلك البيروقراطية التي تمتد جذورها إلى نظام القنانة الذي عاشته روسيا قروناً طويلة، ولم تتخلص منه إلا في العام 1864، كما لا بد لبوتين أن يدرك أن الشعب الروسي ونخبه على نحو خاص يتطلعون إلى الحرية التي يتمتع بها الغرب الأوروبي وقد فوتتها عليه الثورة الشيوعية! وقد ألمح إلى ذلك الأدب الروسي، حين أشار “ليو تولستوي” إلى أن نخب المجتمع الروسي تميل إلى استخدام مفردات فرنسية أو إنكليزية في نوع من إظهار الرقي والتحضر..
إن مشكلة بوتين تكمن في نزعته نحو العظمة دون سلوك دروبها الفعلية في عصرنا، وعلى نحو خاص الدرب الروسي الذي يمكن اختزاله بمفردة واحدة هي “الحرية” التي تسبب غيابها في عدم قدرة الاتحاد السوفييتي على اللحاق بالإنتاج الأوروبي وبتطوره التكنولوجي، وبالتالي انهياره أمام أعين ملايين الشيوعيين الذين لم يدافعوا عنه.. وكان الاتحاد السوفييتي قوة عظمى وندّاً عسكرياً لأوروبا وأمريكا، بوجوده على جغرافية واسعة، وكم بشري كبير، وفكر جديد يَعِدُ العالم بعدالة اجتماعية مستقرة، وتدعمه أحزاب شيوعية في مختلف بلدان العالم، إضافة إلى بناء قوة عسكرية ضخمة حققت نجاحاً في الحرب العالمية الثانية، فجعلت (ستالين) يجلس إلى طاولة مستديرة مع (روزفلت) الأمريكي، وتشرشل البريطاني، لينال حصته من النفوذ في العالم الجديد.. لكن الاتحاد السوفييتي انهار، وتفلتت تلك الدول التي كانت تدور في فلكه، فالحرية كانت هاجسها.. وما تمرُّد هنغاريا عام 1956 وتشيكوسلوفاكيا عام 1968 إلا دليلاً على ذلك.. حينذاك دخلت الدبابات السوفييتية أراضي البلدين، فأزاحت حكومات، ووضعت أخرى.. لكن انفراط عقد الاتحاد السوفييتي، جعل تلك الدول تشعر باستقلالها، وتعيد بناء اقتصادها، وتختار أصدقاءها الدوليين، وتؤسس لأفق وأمن جديدين، وهكذا فعلت أوكرانيا الدولة الغنية الواسعة.. أما روسيا فقد وجدت نفسها وحيدة، وكان المفترض أن تذهب إلى إعادة بنائها وفق النتائج التي خلص إليها علماء السياسة والمجتمع لدى تحليلهم لأسباب انهيار الدولة السوفييتية.
لكنَّ ما حدث أن بوتين وجد حلفاء له بين فئات “الأوليغارشيا” التي قامت بنهب أصول الدولة السوفييتية، فعقد معها صفقة منذ توليه الحكم في سبتمبر عام 1999 تقاسما بموجبها السلطة والمال.. فكانت الدولة وجزء من المال له مقابل حمايته لهؤلاء.. وهكذا اعتلى رجل المخابرات المهووس بالعظمة، والمسكون باستعادة قوة روسيا “القيصرية” و”الاتحاد السوفييتي العظيم”، ومثالهما يتجسد في شخصيتين رئيسيتين هما “بطرس الأكبر” و”جوزيف ستالين” إذ توسعت روسيا خلال حكمهما، لكنَّ بوتين أهمل القيصر بطرس الأكثر وعياً وحكمة واختار أسلوب ستالين المفرط بالعنف.. بينما كان بطرس الأكبر معجباً بالتطور الأوروبي منذ نحو ثلاثمئة وخمسين عاماً، فالتفت إلى أوروبا وأرسل إليها البعثات لتنقل علومها وتقدمها..
وعودة إلى الحرب الروسية الأوكرانية وتقييمها يتضح أن الحروب عموماً ليست جيوشاً ورصاصاً وصواريخ عابرة للقارات.. كما إنها ليست تدمير مدن، وبنى تحتية.. إنها في عصرنا اقتصاد نام، وتكنولوجيا رفيعة التطور، وعلوم سيبرانية، وتأييد سياسي واسع، داخل البلاد وخارجها، واستنزاف قدرات شاملة بعيدة المدى، وعض أصابع مستمر.. وإجراء حسابات دقيقة لتحالفات المتحاربَيْن وقوتهما، وهي هنا إعادة لتحديد قيادة العالم الجديد في ظلِّ قوى جديدة تتأهل وتتربص (الصين مثلًا)، فهل تسمح أمريكا وأوروبا بعودة روسيا إلى الصدارة، ومحاصصتهما، وهل ينضوي هؤلاء المتربصون تحت قيادتها أصلًا..
وعلى ذلك يمكن التوقف عند الاقتصاد الذي “يقرر في النهاية كل شيء”، حتى في زمن الحروب، فالاقتصاد الروسي لا يزال يراوح خلف عشر دول كبرى منها أمريكا والاتحاد الأوروبي وسواهما.. وتدرك تلك الدول حقيقة واقع روسيا، وتحاول تعميقها أكثر فأكثر من خلال توريطها في هذه المنطقة أو تلك.. ومعلوم أن أحد أهم أسباب الحروب الخارجية هو صرف أنظار الشعب الذي يعاني مشكلات تمسُّ حياته، سواء تعلقت بأمور مادية ترتبط بمتطلبات حياته اليومية، أم بحاجات معنوية (روحية) كالحرية الفعلية التي حلم بها الروس لدى انهيار الاتحاد السوفييتي، لكنها لم تتحقق!
لا شك أن الحرب لم تنته بعد، لكن الأوكرانيين لن يتوقفوا عن تحرير أراضيهم، ومعهم ثقل الناتو والحرب الاقتصادية التي تقصم الظهر مستمرة، ويهدِّد بعض القادة الروس باستخدام النووي.. وهذا أيضاً متاح للطرفين، ولذلك يمكن استبعاد ذلك، لكن اللافت أن بوتين أعاد رصَّ صفوف الناتو بعد أن كان في حال هو إلى التفكك أقرب.. لا بل إن بلداناً أخرى على حدود روسيا تتقدم اليوم بطلبات انتساب إلى حلف الناتو خوفاً من أن يجري لها ما جرى لأوكرانيا! ومن هنا ربما يسير العالم على صراط رهيف خشية أن يودي به الجنون إلى هاوية لا قاع لها.
المصدر: أورينت