بعد مرور شهرين على اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، لا تبدو في الأفق مؤشرات للحل، بل يزداد الشقاق بين الغرب وموسكو، وسط تمسك الطرفين بموقفيهما، ما ينذر بامتداد النزاع إلى ما هو أبعد من الحدود الأوكرانية، الذي قد يعني سيناريو لا يتمنى أحد في العالم حدوثه، وهو اندلاع صراع نووي.
فبعد عقود من خفوت الحديث عن القوى النووية لدى الدول الكبرى، عاد الجدل وبقوة عقب بدء الاجتياح العسكري الروسي لأوكرانيا، حين قرر الرئيس فلاديمير بوتين وضع قوات الردع الاستراتيجية التي تتضمن أسلحة نووية في حال التأهب القصوى.
تصريحات الكرملين تطورت للتأكيد على أن موسكو لن تستخدم قوتها النووية إلا في حال “التهديد الوجودي”، وهو ما لن يكون مستبعداً إذا استمر الضغط الغربي بالعقوبات الاقتصادية والدعم العسكري لكييف، وكل ذلك يؤدي إلى احتمالية انطلاق حرب نووية قد يجدها بوتين خياره الأخير، وتؤثر في العالم بأكمله.
قائم وجاد
خطر اندلاع صراع نووي وصفه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بـ”القائم والجاد”، لذلك زادت التساؤلات بشأن الآثار المحتملة لاستخدام السلاح النووي، بحيث تشير توقعات العلماء إلى أن ذلك السيناريو قد يصل إلى تهديد الوجود البشري، باعتبار أن التكنولوجيا النووية تقدمت كثيراً عن عصر إطلاق أول قنبلتين ذريتين في هيروشيما وناغازاكي باليابان عام 1945، واللتين تسببتا في دمار هائل ومصرع نحو 200 ألف شخص.
وعام 2018، أعدّ مؤرخ الشؤون النووية أليكس ويليرستين، تصوراً لآثار سقوط قنبلة نووية على العاصمة الأميركية واشنطن، وقدّر أنها ستكون بحجم القنبلة التي أجرت عليها كوريا الشمالية تجربة في سبتمبر (أيلول) 2017، والتي بلغت قوتها التدميرية نحو 140 ألف طن.
وبحسب موقع “فوكس” الإخباري، فإن قنبلة واحدة ربما تسفر عن 220 ألف قتيل و450 ألف مصاب، وتوقّع ويليرستين أن تخلف الضربة النووية وراءها ما يُسمّى بـ”سحابة الفطر”، ستمتد من مركز الضربة إلى مساحة قطرها 1.2 ميل مربع وتسجّل معدل وفيات يتراوح بين 50 و90 في المئة من السكان نتيجة للآثار الأولية والحادة للضربة، كما ستحدث حالات الوفاة على مدار ساعات إلى أسابيع من وقوعها.
آثار مدمرة
وأشارت الدراسة إلى أن التسمم بالإشعاع النووي يؤدي إلى أعراض شديدة، من بينها القيء والنزيف المستمران، والإصابة بالإسهال الذي غالباً ما يكون دموياً، إلى جانب احتراق الجلد إلى حد تساقط طبقة جلد المصاب وهو على قيد الحياة، وهو ما يجعل الموت بالإشعاع النووي من بين أكثر الأمور بشاعة، التي يتعرض لها الإنسان.
وخارج تلك الدائرة، ستمتد آثار الانفجار إلى نطاق قطره 17 ميلاً مربعاً، وينتظر أن تحدث انهيارات عدة، تصل إلى تسوية مبانٍ بالأرض، ما سيهدد حياة الموجودين بالطبع، وفي الدائرة الثالثة للتفجير، سيصاب كل من يكون في نطاق قطره 33 ميلاً بحروق من الدرجة الثالثة وتشوهات شديدة وعدم القدرة على استخدام أطرافهم وبترها أحياناً. أما النطاق الأوسع، فيمتد على مساحة 134 ميلاً مربعاً تتأثر فيه النوافذ والمنازل، ما يعرض السكان لخطر الموت أو الإصابة، كما ستنقل الرياح المواد الملوثة بالإشعاع النووي إلى مناطق بعيدة لا يمكن التنبؤ بها، وتصيب المواطنين بأمراض لا حصر لها.
موقع “VOX” نقل عن ألان روبوك، أستاذ العلوم البيئية في جامعة روتجيرز الأميركية، الذي درس لأعوام النتائج المحتملة للحروب النووية، أن أسوأ الانعكاسات بعيدة المدى هي الدخان الأسود والغبار والجزيئات المختلفة، التي سيحملها الهواء.
وأوضح روبوك أن استهداف المدن والمناطق الصناعية سيؤدي إلى انبعاث كم هائل من الأدخنة نتيجة الحرائق، وستحيط تلك الأدخنة بكوكب الأرض عبر تركزها في الغلاف الجوي، وبتمددها حول العالم ستحجب أشعة الشمس عن أجزاء كبيرة من العالم، ما يؤثّر في الإنتاج الزراعي في العالم ويهدد بحدوث مجاعة خلال أعوام.
وبحسب العلماء، فإن انبعاث ما يتراوح بين 5 إلى 50 مليون طن من الأدخنة السوداء يؤدي إلى دخول العالم حالة “الخريف النووي”، أما إذا زادت الانبعاثات بما يصل إلى 150 مليون طن من الأدخنة، التي تُعدّ كافية لدخول العالم مرحلة “الشتاء النووي”، فيقول العالم روبوك إن ذلك يعني مصرع جميع من على الأرض.
“الشتاء النووي”
وظهر مصطلح “الشتاء النووي” خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وأشار تقرير لموقع “ناتشر” المتخصص في التقارير العلمية، إلى أنه حتى الحروب النووية المحدودة ستكون نتائجها مدوية على مستوى العالم من خلال تأثيرات طبيعية، مثل تضرر طبقة الأوزون وبرودة مناخ الأرض لأعوام بصورة غير طبيعية، ستكون نتيجته خسائر في المحاصيل الزراعية وصيد الأسماك، الأمر الذي قد يفضي إلى ما يصفه العلماء بـ”المجاعة النووية”.
أجرى باحثون من المركز القومي لدراسة المناخ في كولورادو بالولايات المتحدة دراسة افترضت أن حرباً نووية إقليمية “صغيرة” نشبت على سبيل المثال بين الجارتين النوويتين: الهند وباكستان، استخدمتا فيها 100 رأس حربي نووي، بحيث يساوي كل رأس قنبلة نووية صغيرة تعادل القنبلة التي ضربت هيروشيما وناغازاكي.
وكشفت نتائج الدراسة أن الآثار قد تضرّ بالمناخ العالمي لمدة 10 أعوام على الأقل مع اختفاء طبقة الأوزون بسبب إطلاق حوالى 5.5 مليون طن من الكربون الأسود عالياً في الغلاف الجوي، ما يعني انخفاض متوسط درجات حرارة سطح الأرض فجأة 1.5 درجة مئوية، وهو أدنى مستوياته منذ أكثر من ألف عام. ويمكن ترجمة ذلك في أن معظم مناطق أميركا الشمالية وآسيا وأوروبا والشرق الأوسط سيكون متوسط درجة الحرارة بها خلال فصل الشتاء ما بين 2.5 إلى 6 درجات مئوية، مع تضرر مواسم نمو المحاصيل بصقيع شديد لأعوام عدة.
توقعت محاكاة لجامعة برينستون الأميركية عام 2019، أنه من المحتمل أن يؤدي أي تبادل للضربات النووية إلى مقتل 91 مليون شخص خلال ساعات فقط، ومع زيادة التوترات الحالية عاد مقطع فيديو لتلك المحاكاة إلى ذاكرة رواد مواقع التواصل الاجتماعي الذين شاركوه بكثرة.
تطور القدرات النووية
بحسب التقديرات العلمية، فإن قوة بعض الأسلحة النووية حالياً تساوي 3 أضعاف مثيلاتها قديماً، ما يعني أنه لا يمكن مقارنة الدمار المحتمل في عصرنا الحالي بما خلفته قنبلة “الولد الصغير”، وهو الاسم المشفر للقنبلة التي ألقيت على مدينة هيروشيما، أو قنبلة “الرجل البدين” الاسم الرمزي للقنبلة التي أصابت مدينة ناغازاكي، وكانتا سبباً في استسلام اليابان وإنهاء الحرب العالمية الثانية.
ووفق تقديرات الحملة الدولية لإلغاء الأسلحة النووية، الحاصلة على جائزة نوبل للسلام عام 2017، فإن معظم الأسلحة النووية الحديثة لدى الولايات المتحدة وروسيا، لديها طاقة تدميرية هائلة تعادل 100 طن من الديناميت، والبعض الآخر يفوق ذلك.
وقدرت منظمة “الحد من السلاح” عام 2020 الرؤوس النووية الحربية حول العالم بما يقارب 13500 رأس نووي، تمتلك روسيا والولايات المتحدة أكثر من 90 في المئة منها.
وعلى الرغم من أن موسكو خفضت بشكل كبير مخازن أسلحتها النووية منذ الحرب الباردة، إلا أنها لا تزال تحتفظ بأكبر مخزون من الرؤوس الحربية النووية في العالم. وبحسب تقارير إعلامية، كانت ترسانتها النووية في بداية العام الحالي تبلغ نحو 4 آلاف و447 رأساً حربياً، تم نشر 1588 منها على صواريخ باليستية وقواعد قاذفات ثقيلة، إضافة إلى ما يقرب من 977 رأساً حربياً استراتيجياً آخر، و1912 رأساً حربياً غير استراتيجي في الاحتياط.
حتى الآن، نشرت روسيا بعض المركبات “ذات القدرة المزدوجة”، التي يمكنها نظرياً إطلاق أسلحة نووية بالقرب من أوكرانيا، لكن لا توجد مؤشرات على الأرض إلى أن موسكو نشرت بالفعل أسلحة نووية أو وحدات نووية. وروسيا نفسها لم تعلن عن أي خطط لاستخدام هذه الأسلحة.
خطر قريب
ومنذ أزمة خليج الخنازير الكوبي مطلع الستينيات من القرن الماضي، لم يكُن التلويح بالخيار النووي أقرب من الآن، إذ ذكرت موسكو قوتها النووية كخيار محتمل للردّ، كان أبرزها تحذير بوتين شديد اللهجة للغرب عند شن الحرب على أوكرانيا، قائلاً: “أيّاً يكن من يحاول الوقوف في طريقنا، أو الأكثر من ذلك خلق تهديدات لبلدنا وشعبنا، فإنهم يجب أن يعلموا أن روسيا سترد على الفور، وستكون العواقب من نوعية لم تروا مثلها أبداً في تاريخكم كله”. وأتبع ذلك بوضع “قوة الردع النووي” في الجيش الروسي في حالة التأهب، رداً على ما وصفه بـ”الخطوات غير الودية من الغرب” تجاه بلاده.
وفي مطلع مارس (آذار) الماضي، نشر نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف، رسالة عبر وسائل التواصل الاجتماعي مفادها بأن بلاده يمكن أن تمزق بعضاً من أهم اتفاقياتها مع الغرب، مشيراً إلى معاهدة “ستارت” الخاصة بخفض الأسلحة النووية الموقعة مع الولايات المتحدة منذ أكثر من عقد.
وفي الشهر ذاته، قال المتحدث الرسمي باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، إن موسكو ستلجأ إلى استخدام الأسلحة النووية للقضاء على “خطر يشكل تهديداً لوجودها”، ولكنها لن تستعملها في أوكرانيا.
كما حذرت روسيا من أنه إذا انضمت السويد وفنلندا إلى “تحالف شمال الأطلسي” (الناتو)، فسيتعيّن عليها تعزيز دفاعاتها، وأنه لن يكون هناك مزيد من الحديث عن بقاء منطقة بحر البلطيق “خالية من الأسلحة النووية”.
تحذير واستبعاد
على الجانب الأميركي، قال مدير “وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية” (سي آي أي) وليام بيرنز في وقت سابق من أبريل (نيسان) الماضي، إنه لا يمكن الاستخفاف بتهديد روسيا بأنها قد تستخدم أسلحة نووية تكتيكية أو منخفضة القوة في أوكرانيا، لكن الوكالة لم ترَ كثيراً من الأدلة العملية التي تعزز هذا القلق.
وحذر المفكر الأميركي البارز نعوم تشومسكي من أن استمرار النهج الأميركي في الأزمة الأوكرانية قد يعني نشوب حرب نووية محتملة “تنهي الحياة على الأرض”، وذلك في حوار لصحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية في وقت سابق من أبريل الماضي.
لكن وزير الخارجية الروسي السابق أندريه كوزيريف، استبعد تفكير بوتين في استخدام الأسلحة النووية، إلا في “مواقف محددة للغاية” حال شعوره “بتهديد وجودي” لبلاده أو نظامه، مضيفاً في تصريحات لشبكة “فوكس نيوز” الأميركية، “إذا جاءت قوات الناتو إلى موسكو، فمن المحتمل أن يلجأوا إلى الأسلحة النووية”، مؤكداً أنه “لا يوجد تهديد وجودي لروسيا في ظل الظروف الحالية”.
الحذر من الصراع النووي
لكن الحذر من انزلاق الوضع لحرب نووية يدفع دولاً أخرى إلى تكثيف جهود التهدئة، إذ ذكر المستشار الألماني أولاف شولتز أن تجنب امتداد الحرب الروسية في أوكرانيا إلى “الناتو” يمثل أولوية قصوى في سياسته تجاه أوكرانيا.
وقال شولتز في مقابلة قبل أيام مع مجلة “دير شبيغل” الألمانية، “يجب ألا تكون هناك حرب نووية. أفعل كل ما في وسعي لمنع تصعيد يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة”. ولم يردّ شولتز على سؤال عما إذا كان لديه انطباع بأن بوتين يمكنه استخدام أسلحة نووية، إلا أنه أشار إلى أن روسيا تواجه صعوبات كبيرة بسبب العقوبات وسلسلة الهزائم العسكرية في أوكرانيا، وقال: “بوتين يتعرض لضغوط هائلة”.
المبادئ الروسية
بعيداً من التخمينات، تحدد وثيقة وقّعها بوتين في يونيو (حزيران) 2020 ومنشورة على موقع الكرملين الرسمي، المبادئ الأساسية للسياسة الروسية بشأن الردع النووي، وذكرت الوثيقة 4 حالات تبرر استخدام السلاح النووي، وهي “إطلاق صواريخ باليستية ضد روسيا أو حليف لها، واستخدام الخصم للسلاح النووي، ومهاجمة موقع أسلحة نووية روسي، أو التعرض لعدوان يهدد وجود الدولة”.
وتذكر الوثيقة المخاطر العسكرية الرئيسة، التي يجب تجنبها عن طريق تنفيذ الردع النووي، ومنها حشد عدو لقوات تمتلك وسائل إيصال أسلحة نووية داخل أراضي الدول المتاخمة لروسيا وحلفائها، وكذلك “نشر الدول التي تعتبر الاتحاد الروسي عدواً محتملاً أنظمة ووسائل دفاع صاروخي، أو صواريخ كروز وباليستية متوسطة وقصيرة المدى، أو أسلحة غير نووية عالية الدقة وتفوق سرعة الصوت، أو طائرات من دون طيار، أو أسلحة للطاقة الموجهة”.
وحددت الوثيقة شروط استخدام الأسلحة النووية من قبل موسكو، وهي وصول معلومات موثوقة عن إطلاق صواريخ باليستية ضد أراضي الاتحاد الروسي أو حلفائه، استخدام الأسلحة النووية أو الأنواع الأخرى من أسلحة الدمار الشامل من قبل أحد الخصوم ضد الاتحاد الروسي أو أحد حلفائه، مهاجمة أحد الخصوم لمواقع الاتحاد الروسي الحكومية أو العسكرية المهمة التي قد يؤدي تعطيلها إلى تقويض أعمال رد القوات النووية، الاعتداء على الاتحاد الروسي باستخدام الأسلحة التقليدية في الوقت الذي يكون وجود الدولة في خطر.
كما أجازت الوثيقة في حالة الضرورة إبلاغ القيادة العسكرية والسياسية للدول الأخرى أو المنظمات الدولية باستعداد موسكو لاستخدام الأسلحة النووية. ووفقاً لوثيقة “المبادئ الأساسية للردع النووي”، يتولى رئيس روسيا التوجيه العام لسياسة الدولة في مجال الردع النووي، وهو المكلف اتخاذ قرار استخدام الأسلحة النووية.
وأوضحت الوثيقة أن السياسة العامة للدولة طبيعتها “دفاعية” تهدف إلى ضمان حماية السيادة الوطنية ووحدة الدولة وردع أي خصم محتمل و”منع تصعيد الأعمال العسكرية وإنهائها بشروط مقبولة لدى الاتحاد الروسي وحلفائه”.