شهدت ألمانيا الخميس الماضي حدثًا فريدًا، لا سابقة له. محاكمة اثنين من عناصر الاستخبارات السورية ضالعين في جرائم هذه الأجهزة المتوحشة بحق الشعب السوري، لا سيما بعد الثورة، هما:
– العقيد السابق أنور رسلان، رئيس قسم التحقيق في فرع 251 من جهاز (أمن الدولة) المعروف باسم (فرع الخطيب) لسنوات طويلة استمرت حتى بداية الثورة الشعبية 2011. وأعلن انشقاقه وفر الى تركيا في نهاية 2012 وقدم نفسه للمعارضة، وعمل معها ثم قصد المانيا وطلب اللجوء فيها معتقدا أن انشقاقه يعفيه من المحاسبة عما ارتكبه قبل ذلك والذي يشمل اعتقال وتعذيب 4000 معتقل، وقتل منهم 58 سوريا تحت التعذيب، واغتصاب نساء (ظهرت خمس منهن في المانيا).
– المساعد الأول إياد غريب، خدم في نفس الفرع مع رسلان، وشارك في اعتقال متظاهرين خلال الثورة، وشارك في تعذيب 30 معتقلا على الأقل، ثم انشق وفر الى المانيا.
مثل المتهمان أمام هيئة محكمة مدينة كولينز، وتألفت من خمس قضاة ومدعي عام هو جاسبر كلينغ، وعدد من المحامين لتمثيل الضحايا الذين تعرضوا للاعتقال والتعذيب على أيدي المتهمين باتريك كروكر، وهو محام مقتدر ومشهور دوليا.
المحاكمة علنية، ومستقلة تماما لا علاقة لها بالسلطة والسياسة، وكان يرغب حضورها عدد كبير من السوريين والالمان ومراسلي الصحافة الدولية ولكن الاجراءات الاحترازية من فايروس كورونا حالت، وسمح لعدد محدود بالدخول، يتقدمهم المحاميان الناشطان أنور البني ومازن درويش اللذان يعود لهما الفضل الاكبر في وضع الاساس القانوني والعملي لهذا المسار القضائي في اوروبا خلال سنوات لجوئهما الى أوروبا منذ 2015. وقد قام الأول الذي يرأس (المركز السوري للدراسات والابحاث القانونية) والثاني الذي يرأس (المركز السوري للإعلام وحرية التعبير) بجهود كبيرة ومستمرة استهدفت تحقيق أمرين كانا ضربا من المستحيل:
أولهما اقناع السلطات القضائية في اوروبا بتطبيق (مبدأ الولاية القضائية العالمية) على جرائم ضد الانسانية التي اقترفتها أجهزة نظام الأسد. وتوصلت لإقناع خمس دول حتى الآن. وقامت فرنسا والمانيا في 2018 بإصدار مذكرتي توقيف للجنرالين علي مملوك وجميل الحسن في سابقة هي الاولى من نوعها بملاحقة مسؤولين كبيرين وهما على رأس عملهما ومحميان بسيادة الدولة.
والثاني: البحث عن عناصر أمن متورطين في جرائم ضد الانسانية، وايجاد ضحايا يقبلون الادعاء ضد المجرمين وتقديم شهادتهم ضدهم، وهي مسائل غاية في التعقيد والصعوبة عمليا، وتبين مدى جهود المحاميين التي بذلاها مع ورفاقهما، في إعداد الملفات القضائية لتقديمها الى النائب العام في كل دولة. وهذا ما استغرق جهودا مستمرة أثمرت أخيرا بتقديم دعاوى جاهزة للنظر فيها في محاكم المانيا وفرنسا والسويد والنمسا والنرويج، سينظر بها تباعا في هذه الدول.
أهمية المحاكمة التي بدأت في المانيا يوم 23 أبريل الجاري أنها الأولى في التاريخ والعالم لمحاكمة مجرمين من مجرمي النظام المتوحش توفرت واكتملت عناصر الدعوى ، وقامت السلطات القضائية بتوقيف المتهمين منذ فبراير 2019 ، والتحقيق معهما على مهل بشكل سمح للمدعي العام اعداد ملف اتهام قوي ومحكم ، أثنى عليه المحامي انور البني وقال لنا عنه أن المدعي العام بناه على أن ما جرى في سورية عام 2011 ثورة شعبية سلمية قمعها النظام بعنف مفرط واستعمل أجهزة استخباراته لملاحقة المشاركين فيها، قتلا واعتقالا وتعذيبا ، وبناء على هذه الرؤية وجه الاتهام للمتهمين .
وكشف المحامي البني أن المتهم انور رسلان لم يكن متعاونا مع المحققين واستمر على هذا السلوك خلال جلسة المحكمة. وكان ينظر للجميع باستخفاف وازدراء. متعاليا ولا مباليا، لم يعتذر للضحايا، ولم يأسف عما اقترفه من جرائم، ولم يخجل منها، ولم يهاجم النظام، مما يثير الشك بمصداقية انشقاقه. أما المتهم الآخر فكان على العكس متعاونا مع المحققين، وقدم لهم معلومات ثمينة عما حصل دون أن يطلب المحققون منه، تعبيرا عن رغبته في ادانة النظام. وفي المحكمة أخفى وجهه طوال الوقت ( 1,30 ساعة ) خجلا من الناس مع ان ارتكاباته قليلة جدا مقارنة بالآخر .
أما المحامي مازن درويش فوصف المحاكمة باللحظة التاريخية رغم أنها لا تلبي العدالة المطلقة. هي خطوة اولى محدودة على المستوى العملي ولكنها حدث تاريخي بالمعنى الرمزي، وترسل رسائل مهمة للعالم كله، تعني أنه لا ملجأ ولا منجى لأي مجرم ضد الانسانية بعد الآن في سورية أو العالم. وقال إن ميزة المحكمة أنها محض قضائية، وتوفر للطرفين شروط العدالة التامة، وأنها مستقلة عن السياسة ولا علاقة لها بالتطورات الأخيرة بين روسيا والنظام ولا بقانون سيزر الاميركي. واتفق المحاميان أن المحاكمة قطعت الطريق على أي خطوة لإعادة التعاون والتطبيع مع الاسد فعليا. كما اتفقا على أن مسار العدالة في سورية انطلق بهذه المحاكمة في وقت تشهد المسارات الاخرى السياسية والعسكرية والدولية فشلا تاما، وبات المسار الدولي عاجزا بالذات عن تقديم أي بديل أو تصورللمستقبل.