في كوميديا ارتجالية، يقول أحد أهم الساخرين الروس أن “روسيا بلد لا يمكن التنبؤ بماضيه”! تعكس هذه الطرفة العبقة بعبقرية النكتة الروسية، سخرية المثقف من المحاولات الدؤوبة للعقائديين والسياسيين الروس، لإعادة صوغ التاريخ بما يخدم أجنداتهم المتبدلة وتوظيفاتها الأيديولوجية.
أكثر هذه المحاولات بؤساً وسخرية كانت محاولات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف اتهام الزعامة الأوكرانية المتمثلة بالرئيس الأوكراني اليهودي فولوديمير زيلينسكي بالنازية، وتبرير ذلك بأن هتلر ذاته كان يهودياً.
لو كانت الحرب قصيرة، لما احتاج لافروف لهذه البدعة. لكن استمرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حربه المتدحرجة من فشل الى فشل، جعلته يحتاج أن يمسخ عدواً لتهيئة شعبه للموت والتضحيات الاقتصادية والاجتماعية الطويلة. وفي غياب العصبية الشيوعية كمبرر لحرب “ضد الإمبريالية”، لم يعد لافروف يملك الا الأمجاد الروسية التليدة للقتال ضد النازية مبرراً معنوياً لخيار الحرب.
وإذ يناط بالبروباغندا الروسية كتابة التاريخ، تغيب حقائق وتختلق أخرى بحيث يستحيل أن تستقر نسخة لتاريخ روسيا قابلة للتنبؤ بحسب مرجعيات تاريخية. لكن معضلة البروباغندا الروسية أن ضباب هذه الحملات لا يلبث أن يتلاشى، إذ تخلف هذه المذابح والجرائم، ما يكفي من الآثار كي يعيد المؤرخون تحقيقها.
وإذ تحتاج الأنظمة الشمولية لعدو كي تتماسك، تحفل البروباغندا الشمولية المتعاقبة في روسيا، بمحاولات ليّ ذراع التاريخ. فحين تحالف حزب” البوند” اليهودي الاشتراكي الروسي مع البلاشفة عشية الثورة البلشفية، سارعت “الأوخرانا” – استخبارات روسيا القيصرية، الى تلفيق “بروتوكولات حكماء صهيون”. لكن حين أوشك الاتحاد السوفياتي على السقوط سارعت البروباغندا لاتهام الماسونية واليهودية. وفي الكتب المدرسية الروسية يصبح اتفاق مولوتوف – فينتروب الذي نجم عنه الاحتلال النازي الروسي المشترك لبولونيا ضرورة لستالين، واحتلال لتوانيا لضمها الى الاتحاد السوفياتي بعد ثورة قتل فيها الآلاف، عملية ديموقراطية وهكذا… ومثل سترة تلبس على الوجهين، يعيد الإعلام الروسي التسمية السوفياتية للمدن الروسية. فلا مرجع ولا حقيقة.
وفي محاولة لتبرير عدوانه أمام جمهوره المدهوش لورطة “العملية العسكرية الخاصة”، يأتي لافروف بنسخته الجديدة عن التاريخ، في فانتازيا تلفيقية، حيث زيلينسكي نازي وهتلر يهودي.
فكل من يعادي الجموح والطغيان الروسي، هو فاشي أو نازي أو إرهابي بالتعريف. ولقد سبق أن خبرنا في سوريا استخدام روسيا المزري لصفة الإرهاب، تبريراً لأفدح الجرائم ضد السوريين. لتصبح لافتة الإرهاب بطاقة متحولة يبدلها الروس يومياً بحسب سير المعارك، ومسارات مهزلة سوتشي.
لذلك فلنبحث عن الأفعال والأقوال من هو أقرب للفاشية؟
يعتبر دوغين، عالم الاجتماع الذي يملأ اسمه وسائل الإعلام الروسية، المنظر الرئيسي لبوتين. انه الداعي الأكبر الى نظرية تمجيد النزعة القومية الروسية وتبجيل هيبة الدولة والعصبية العسكرية، وعبادة الفرد المستبد، وترى في العنف السياسي والحرب طُرُقاً مشروعة للوصول الى بعث النهضة الوطنية، ولإزاحة الأمم الأضعف. بل يكره دوغين العولمة ويحلم بإغلاق الإنترنت.
تضع نظرية دوغين نفسها نقيضاً جذرياً للديموقراطية والليبرالية الغربية ومناهضاً مبدئياً لأشكال التضامن الأفقي بين شرائح المجتمع تجاه الدولة، مثل منظمات المجتمع المدني ومنظومة حقوق الإنسان، والنزعة الفردية والديموقراطية البرلمانية والتعددية لكونها تضعف الدولة. بل يرى فيها مجرد بدعة مدمرة اخترعتها الطبقات المتوسطة والليبراليون الأوربيون والشاذون واليهود والغجر إلخ، ضد الهيمنة المقدسة للدولة، ليبني تصوره المسيحاني لمهمة روسيا المقدسة، بأن يصور الغرب “المسيح الدجال” وروسيا التجسيد الراهن للإمبراطورية الرومانية المقدسة. هذه بالذات الأسس الأسطورية لذرائع موسوليني وهتلر.
فكيف يمكن ان يكون زيلينسكي نازياً أو فاشياً؟ بل كيف يمكن نفي الفاشية عن الأستاذ النظري لبوتين. بل يدعم بوتين نفسه الفاشية واليمين المتطرف، في أوروبا والأميركتين الشمالية والجنوبية. يدعم ماري لوبن التي تنفي محرقة اليهود، ويستقبل ممثلي اليمين في بريطانيا وهنغاريا والسويد إلخ. وحتى في الولايات المتحدة دعم بوتين النازي الجديد الأميركي الشهير ريتشارد سبنسر بعد أن ترجمت زوجته نينا كوبريانوفا كتب دوغين، وهي الصديقة الحميمة للمستشارة الإعلامية لبشار الأسد. نعم إنها خلطة عجيبة غريبة تلك التي تجمع هؤلاء الفاشيين. فمن ترى الفاشي، يا رعاك الله؟
من الواضح أن هذه البدع غير قابلة للحياة لدى النخب والرأي العام العالمي، لكن اضطرار لافروف لسردها، يظهر مدى تهافت الحجج والذرائع في السجال الداخلي الروسي.
ويأتي العجب العجاب من تعاسة موقف بعض النخب الإسرائيلية. إذ وصل ارتباكها من العدوان على أوكرانيا الى حد البؤس، حتى نالت إسرائيل تحذيراً صريحاً من وكيلة وزارة الخارجية الأميركية “أنتم لا تريدون أن تصبحوا الملاذ الأخير للأموال القذرة التي تغذي حروب بوتين”. وبينما عثر حلفاء إسرائيل الاستراتيجيون، الولايات المتحدة وأوروبا والأطلسي، على وحدتهم المفقودة من جديد بفضل بوتين، فلقد تشقق التحالف الحكومي في إسرائيل بين أنصار الصمت الانتهازي تجاه بوتين، وانصار الموقف الواضح ودعم أوكرانيا في حربها العادلة.
لا أحد يشتري ما تروج له الدبلوماسية الإسرائيلية عن حاجتها للتنسيق مع روسيا في قص العشب الإيراني الذي ترعرع في ظلال التواجد الروسي في سوريا ليصير غابة باسقة. وحقيقة الأمر أن سبب التردد يعود الى مستوى تغلغل الاوليغارشية الروسية في منظومة رجال الأعمال الإسرائيلية. ورغم ذلك، وتحت ضغط حقائق الصراع، كان لا بد للمجتمع السياسي الإسرائيلي من أن يتحول الى القطيعة مع هذا الاختراق في أوساط المال والتقنيات العالية. إذ لا تملك إسرائيل إلا الالتحاق بحلفائها الوجوديين.
وجاءت صفعة لافروف لتسرع ما كان يؤجله بينيت، ولتقطع الحبال التي تأرجح عليها موقفه. ولن يعيد وصل هذه الحبال ما قاله عن اعتذار بوتين.
وفيما يخلع إمام المسلمين الأوكرانيين العمامة ليرتدي الخوذة دفاعاً عن أوكرانيا، وفيما يفر من روسيا كبير الحاخامين، هرباً من الضغوط، تجد إسرائيل نفسها مضطرة للالتحاق بالتحالف الغربي، ليس من تحت الطاولة، بل من فوقها. لقد بدأنا في رؤية ذلك، ولا شك انه سيستمر.
بالنسبة الى روسيا، كانت الحرب خياراً أيديولوجياً عدوانياً، أما بالنسبة الى أوكرانيا، فكانت حرباً مفروضة. إذ لم يقتل الجنود الأوكرانيون إلا من حاولوا سلبهم حريتهم وتقطيع بلادهم.
نعم يا سيد لافروف، الفاشية ليست لها علاقة بالجينات، بل بالأفعال. ومن غروزني إلى حلب إلى ماريوبول إلى استشهاد شيرين أبو عقالة، يتحد الفاشيون. وفي المقابل يتحد، أنصار الحرية والمساواة بين الناس بغض النظر عن العرق والدين واللون. فالصراع ضد الفاشية ليس صراعاً جغرافياً بل هو في كل مجتمع ودولة.
المصدر: المصدر: النهار العربي