على متن طائرة استطلاع تابعة للبحرية الأميركية، ظهر رئيس القيادة الأميركية في المحيطين الهندي والهادي الأميرال الأميركي “جون أكويلينو” في 20 مارس/آذار الماضي مُحلِّقا بالقرب من المواقع الأمامية التي تسيطر عليها الصين في أرخبيل “سبراتلي” في بحر الصين الجنوبي. وتحدَّث أكويلينو أمام صحافيين اصطحبهم في رحلة فوق بحر الصين لتسليط الضوء على عسكرة بكين للجزر، إذ قامت الأخيرة بتسليح ما لا يقل عن ثلاث جزر تسليحا كاملا، وقال إن بكين نشرت في تلك الجزر منظومات صواريخ مضادة للسفن وللطائرات، ومعدات ليزر وتشويش، وطائرات مقاتلة. وردا على هذه الرحلة التي انتقدت فيها واشنطن بؤرة النشاط العسكري الصيني على مدى السنوات القليلة الماضية، هاجمت صحيفة “جلوبال تايمز” الصينية أكويلينو، واتهمته بمحاولة نسخ أزمة أوكرانيا في منطقة آسيا والمحيط الهادي، وبحشد الحلفاء والشركاء في المنطقة ضد الصين.
كانت تلك الحادثة إشارة إلى الخلافات الدولية حول واحدة من أشد المناطق المتنازع عليها في العالم، حيث تطالب كل من إندونيسيا والصين بالسيطرة على الأراضي الواقعة في بحر الصين الجنوبي التي تقع على حدود جزر “ناتونا” الإندونيسية، إذ تعتبر الصين أن حوالي 90% من البحر الذي تبلغ مساحته 3,5 ملايين كيلومتر مربع بحرا خاصا بها، مستشهدة بسجلات الاستخدام التاريخي سندا لمطالبها تلك، فيما تعتبر إندونيسيا التي تقع على الأطراف الجنوبية لبحر الصين الجنوبي أن تلك المنطقة التي تمتلك ما يُقدَّر بـ1,9 تريليون قدم مكعب من احتياطيات الغاز الطبيعي هي منطقتها الاقتصادية الخالصة بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.
بكين وجاكرتا.. حاضر مُعقَّد وماضٍ مشرق
في أواخر عام 2019، كاد العالم أن يشهد صراعا عسكريا بين إندونيسيا والصين نتيجة ممارسات الأخيرة في المنطقة الاقتصادية بالمحيط الهادي التي تسميها إندونيسيا باسم “بحر ناتونا” الشمالي بينما تعتبرها بكين منطقة صيد صينية تقليدية. في هذا الوقت بالتحديد، أخذت قوة خفر السواحل الصينية بالتوغل في المنطقة، فلم تجد جاكرتا سبيلا إلا إرسال سفن حربية وطائرات مقاتلة من طراز “إف-16″، كما دعت سفن الصيد الإندونيسية للانتقال إلى المنطقة، ولكن التوتُّر انحسر سريعا بعد أن تراجعت الصين عن توغُّلها.
سرعان ما عمل البلدان على إذابة الجليد في علاقتهما، لا سيَّما أن التاريخ القريب يشهد على متانة تلك العلاقة، إذ كانت إندونيسيا من أوائل الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية عام 1950، وبلغت تلك العلاقة ذروتها مع نهاية الحرب الباردة وصعود الاقتصاد الصيني، إذ عجَّلت جاكرتا بتعزيز العلاقات مع بكين عام 1990، وتطوَّرت الأمور بعد توقيع اتفاقية شراكة إستراتيجية بين البلدين عام 2005. وقد ارتكزت تلك العلاقة على رغبة الصين القوية في الإبقاء على إندونيسيا حليفا داعما لها في النزاعات الإقليمية وحصنا إستراتيجيا ضد أستراليا الموالية للغرب، أما جاكرتا فسعت للاستفادة القصوى من الشراكة الاقتصادية مع بكين، إذ إن الأخيرة شريكها التجاري الأول، كما يوجد عُمَّال صينيون في مشاريع البنية التحتية المهمة في إندونيسيا.
انضمت إندونيسيا إلى ركب الدول المشاركة في مبادرة الحزام والطريق الصينية وبنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية بقيادة الصين (AIIB). وفي عهد الرئيس الإندونيسي “جوكو ويدودو”، أنفقت الصين مليارات الدولارات على الطرق السريعة الجديدة ومحطات الطاقة وخط السكك الحديدية العالي السرعة في إندونيسيا، كما زوَّدت البلاد بحوالي 80% من لقاحات كوفيد. ولكن، رغم تمتُّع الصين وإندونيسيا بعلاقة ثنائية جيدة منذ فترة طويلة، فإن تعزيز الجانب الدفاعي بينهما تحرَّك ببطء على مدار السنوات القليلة الماضية، حيث صادق المجلس التشريعي الإندونيسي على اتفاقية التعاون الدفاعي بين البلدين عام 2016، في حين خيَّمت خلافات حدودية متزايدة بين البلدين على علاقتهما، لا سيَّما مع تزايد الحضور العسكري الصيني في المحيط الهادي، علاوة على ما ناله النفوذ الصيني من انتقادات في إندونيسيا مؤخرا بسبب تدفُّق العمال الصينيين إلى البلاد التي يفوق تعدادها 200 مليون، وانتشار بعض المشاعر المعادية للصينيين مع نمو الأنشطة الاقتصادية للصين بوتيرة متسارعة.
جاكرتا بين واشنطن وبكين.. وإرث عدم الانحياز
بخلاف الصين، تمتلك إندونيسيا أيضا علاقات راسخة مع الولايات المتحدة، تمتد إلى التعاون العسكري. على سبيل المثال، في أبريل/نيسان الحالي، أعلن الجيشان الإندونيسي والأميركي عن توسيع تدريباتهما الثنائية السنوية المُعتادة منذ عام 2009، والمُقرر عقدها في الفترة بين 1 إلى 14 أغسطس/آب من العام الحالي، لتشمل 14 دولة في هذه النسخة، وتُعقد تحت اسم “سوبر جارودا شيلد”. بالنسبة إلى الصين على الأقل، فإن هذه التدريبات إشارة إلى أن جاكرتا تخطو خطوات قوية نحو خصمها اللدود الأميركي، حيث تنظر الصين بعين الريبة للتواجد الأميركي في المنطقة، تحت ذريعة “دعم منطقة المحيطين الهندي والهادي الحرة والمفتوحة” كما جاء في بيان الجيش الأميركي.
في وقت تسعى القوتان العُظمَيَان إلى تعزيز وجودهما في جنوب شرق آسيا، لا يخفى أن الولايات المتحدة تكثف وجودها في إندونيسيا بغية مواجهة نفوذ الصين المتزايد في المنطقة، وهناك الكثير من العلامات على ذلك، ففي أواخر يونيو/حزيران الماضي، بدأت جاكرتا وواشنطن ببناء مركز تدريب بحري بقيمة 3.5 ملايين دولار في “باتام”، بالقرب من سنغافورة والمدخل الجنوبي لمضيق “ملقا”، وهو أمر خطير لبكين نظرا لقرب المركز المخطط له من طرق التجارة الممتدة بين بحر الصين الجنوبي والمضيق.
بالعودة إلى الوراء، يمكن القول إن العلاقات الإندونيسية-الأميركية تأرجحت على مدى عقود، فقد كان لواشنطن دور في دعم الإطاحة بالرئيس المؤسس لإندونيسيا “سوكارنو” والدفع نحو صعود “سوهارتو”، الجنرال الذي حكم حكما استبداديا حتى عام 1998، وكذلك توتَّرت العلاقة الإندونيسية بواشنطن إبان فترة حكم الرئيس “بيل كلينتون” الذي ضغط على جاكرتا لقبول شروط عقابية لخطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي عام 1998، وسمح بإجراء استفتاء لاستقلال مقاطعة “تيمور الشرقية” في إندونيسيا.
قبل ذلك، عُدَّت إندونيسيا منطقة نفوذ أميركية منذ عقود، لكن العلاقة ظلت منسية بالنسبة إلى الأميركيين حتى وقت قريب. فبينما انشغلت الولايات المتحدة بشكل أساسي بدعم الحليفين التقليديين للولايات المتحدة في شمال شرق آسيا، وهما اليابان وكوريا الجنوبية، حقَّقت الصين نجاحا لافتا في إندونيسيا بفضل استثماراتها الضخمة، خصوصا في عهد الرئيس الحالي “جوكو ويدودو” الذي يسعى للاستفادة من الطرفين لتحقيق تنمية اقتصادية.
في السنوات الأخيرة، وبينما زاد التصعيد بين واشنطن وبكين، أخذت واشنطن تعيد الاهتمام بإندونيسيا باعتبارها شريكا اقتصاديا وأمنيا مُهمّا سيؤدي التقارب معه إلى تقليص حضور بكين، ومن أجل ذلك ركَّزت واشنطن على التعاون مع إندونيسيا في مجالات التجارة والاستثمار، وتمويل خطط جاكرتا للحد من الطاقة التي تعمل بالفحم، وغير ذلك. وعلى صعيد التعاون العسكري بين البلدين، تلقَّت إندونيسيا 39 مليون دولار مساعدة عسكرية وأمنية من واشنطن العام الماضي، كما تلقت 5 ملايين دولار مساعدة لبناء قدرات مواردها الدفاعية، بما في ذلك تعزيز الأمن البحري، بين عامي 2016 و2020.
ولكن رغم الجهود الأميركية التي تعتقد أن الوقت الآن مثالي لجذب إندونيسيا وإبعادها عن الصين، تصطدم واشنطن بعدة عوامل قد تعيق تطلعاتها في ترسيخ دورها وتحجيم الصين، أولها النفوذ الصيني في البلاد وصعوبة أن تتحوَّل جاكرتا بالكامل إلى المعسكر الأميركي كي لا تثير حفيظة الصين، ولكن لعل العامل الأهم هو الإصرار الرسمي الإندونيسي القائم منذ زمن طويل على تجنُّب الانحياز التام إلى صف قوة عظمى بعينها، وهو إرث من حركة “عدم الانحياز” التي شاركت في تأسيسها منذ الخمسينيات، علاوة على التاريخ السيئ للانضمام إلى معسكر على حساب آخر في منطقة جنوب شرق آسيا، وأشهر صفحات ذلك التاريخ بالطبع حرب فيتنام.
صعود التوتر بين واشنطن والصين
في أوائل ديسمبر/كانون الأول الماضي، استفزت مطالبة الصين لإندونيسيا بوقف التنقيب عن النفط والغاز في المنطقة الاقتصادية شمال شرق جزر ناتونا صُنّاع القرار في جاكرتا، إذ ادَّعت بكين أن عمليات الحفر تجري في المنطقة الخاضعة لسيادتها، فيما أذنت بكين لسفينة الأبحاث الصينية “هايانغ ديزي” للعبور إلى المياه الإندونيسية والبقاء حتى أواخر أكتوبر. وبلا شك، أرادت بكين عبر تأكيد مطالبتها بجزء من مياه إندونيسيا تلقين جاكرتا درسا مفاده أنها تستطيع تغيير “الوضع الراهن” إن رغبت في ذلك، وقد كانت تلك أحدث محاولة ضغط من الصين تؤكد فيها مطالبها الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، تلك المطالب التي تُزيد احتمالية وقوع اشتباكات مع إندونيسيا.
أمام زيادة الضغط الصيني على المياه المتنازَع عليها، كان على إندونيسيا إعادة ضبط دبلوماسيتها الدفاعية والنظر في الآثار المترتبة على السعي الصيني للسيطرة على المنطقة. ومن أجل ذلك، يبدو أن جاكرتا تجتهد الآن أكثر لتجنُّب الاعتماد المُفرِط على دولة واحدة في المجال الاقتصادي حتى تتفادى التعرُّض للضغوط الخارجية، فقد وقَّعت البلاد مؤخَّرا عدة شراكات إستراتيجية مع قوى مهمة مثل اليابان والهند وأستراليا والولايات المتحدة، وكذلك أبقت باب التعاون مفتوحا مع الصين نفسها.
كذلك دفع الدور المتزايد الذي يلعبه خفر السواحل الصيني في بحر الصين الجنوبي جاكرتا كي تصبح أكثر ميلا نحو القوى الكبرى الأخرى من أجل تطوير أمنها البحري والجوي، فقد انكبت على التخطيط لتوسيع أسطولها البحري من الغواصات والطرادات في الفترة الأخيرة، وأنشأت قاعدة عسكرية جديدة في “ناتونا بيسار” التي تعد أكبر جزيرة في المنطقة، وعزَّزت الدوريات البحرية للتصدي للأنشطة غير القانونية للصين في المياه الإندونيسية.
دفع الدور المتزايد الذي يلعبه خفر السواحل الصيني في بحر الصين الجنوبي جاكرتا كي تصبح أكثر ميلا نحو القوى الكبرى الأخرى من أجل تطوير أمنها البحري والجوي.
في ذات السياق، تعمل جاكرتا اليوم من أجل ضمان عدم وجود المزيد من التخفيضات في الإنفاق الدفاعي في المستقبل القريب؛ ما قد يؤثر على تعزيز العلاقات الدفاعية والعسكرية بينها وبين دول المنطقة، أو يعيق موازنة تحديثها العسكري ودفاعها الإقليمي ضد بكين، فالبلاد منذ رئاسة “يودويونو” (حكم حتى عام 2014) تزيد باستمرار من ميزانيتها الدفاعية لتحديث نظم أسلحتها، وتعمل على تقوية وكالتها للأمن البحري التي لا تزال في طور التحوُّل إلى قوة خفر سواحل كاملة الأهلية.
في سعيها لتنويع تحالفاتها ومصادر إمداداتها بالمعدات العسكرية، تحضر الولايات المتحدة كدولة يمكن أن يحقق التعاون العسكري معها أهداف الحكومة الإندونيسية، إذ لم يقتصر الأمر على تطوير كل من الجيش الإندونيسي ووكالته للأمن البحري لعلاقات وثيقة بواشنطن، ولكنه تخطى ذلك إلى تنفيذ مناورات عسكرية مشتركة في جزر سومطرة وكاليمانتان وسولاويزي. وفي يونيو/ حزيران 2021 بدأت الولايات المتحدة ببناء مركز تدريب بحري في جزيرة باتام الإندونيسية، في موقع إستراتيجي عند المدخل الجنوبي لمضيق ملقا، وفي الشهر نفسه وقَّعت جاكرتا أيضا صفقة لشراء 14 طائرة مقاتلة أميركية من طراز “F-15EX” مقابل 14 مليار دولار.
ومن أجل تنويع محفظة داعميها أكثر وأكثر، اتجهت جاكرتا أيضا نحو الدول الأوروبية، ففي فبراير/شباط الماضي قامت أكبر دول جنوب شرق آسيا بشراء 42 طائرة مقاتلة فرنسية الصنع من طراز رافال مقابل 8 مليارات دولار، مع محادثات موازية لشراء غواصات فرنسية.
في ضوء هذه التطورات المتسارعة على الساحة الإندونيسية، يطرح المراقبون احتمالية أن تستخدم بكين مواردها الاقتصادية الهائلة لممارسة ضغوط سياسية على جاكرتا من أجل حماية مصالحها والتصدي للتطور العسكري الإندونيسي، وهو ما قد ينذر بتصعيد التوترات في المياه المتنازع عليها شمال جزر ناتونا، غير ن تقريرا أعده مركز “ستراتفور” الأميركي للدراسات الجيوسياسية يستبعد أن يؤدي التطور العسكري في إندونيسيا إلى تصعيد التوترات مع الصين؛ ما يجبر جاكرتا على قبول التكلفة الاقتصادية المحتملة للانتقام الصيني. ويرجح التقرير أن يشمل رد الصين على الحشد العسكري الإندونيسي زيادة الجمركية وتشديد ضوابط الاستيراد على السلع الإندونيسية الرئيسية، ويضيف: “كدولة موجهة نحو التصدير، فإن إندونيسيا مُعرَّضة جدا للزيادة المفاجئة في التعريفات، وقد استخدمت الصين التعريفات كإجراء انتقامي في الماضي ضد الدول المنافسة. ورغم تزايد التجارة مع الصين في السنوات الأخيرة، توصلت إندونيسيا أيضا إلى اتفاقيات تجارية مع دول أخرى من شأنها أن تخفف من تأثير الانتقام الاقتصادي الصيني”.
يستبعد التقرير أن تُضحّي إندونيسيا بأمنها القومي وسلامة أراضيها من أجل الاستمرارية الاقتصادية، فإذا سيطرت الصين على هذه الجزر أو المنطقة المحيطة بها، فإنها ستقوِّض الموقف الأمني لإندونيسيا من خلال منح القوات الصينية أرضية انطلاق قريبة لشن هجمات ضد البلاد، وكما جاء في التقرير: “قد لا يؤدي دفع إندونيسيا لتقوية قدراتها الدفاعية بالضرورة إلى زيادة التعاون مع الولايات المتحدة، حيث من المرجح أن تُفضِّل جاكرتا العمل مع الجهات الإقليمية الفاعلة في مجال الدفاع والأمن بدلا من العمل مباشرة مع المنافس الرئيسي للصين”.
في النهاية، يمكن القول إن إندونيسيا صاحبة الموقع الإستراتيجي في عصر المنافسة بين واشنطن وبكين؛ يمكن أن تلعب دورا رئيسيا في الحفاظ على وحدة الآسيان كي تتمكن المنطقة من إدارة المنافسة الصينية-الأميركية، وهي من أجل حماية ازدهارها وسيادتها على المدى الطويل بحاجة إلى تعظيم الإمكانات الحالية لعلاقاتها مع كلتا القوتين، وذلك من خلال خلق توازن أكبر في علاقاتها معهما دون المساس بإستراتيجيتها الحيادية في السياسة الخارجية.
المصدر: الجزيرة