جريمة “حي التضامن” واستعادة الرؤية الصحيحة للمسألة السورية

د. مخلص الصيادي

هذه الجريمة التي ضجت على أصدائها كل وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي في كل مكان من هذا العالم، توثق طريقة تصفية 42 مدنيا في حي التضامن جنوب دمشق، وإذ تؤكد مصادر الأخبار الموثقة والمؤكدة والمعتمدة من المؤسسات الدولية أن عدد القتلى من المدنيين فقط الذين تم تصفيتهم بمثل هذه الطريقة، وفي السجون كما كشفت “صور قيصر” من قبل يتجاوز الربع مليون سوري، فإن توثيق جريمة حي التضامن بهذا الشكل الاحترافي الذي ينحي كل ادعاء ب”التلاعب أو التمثيل أو الايهام” في عرض هذا الدليل، يصبح فرصة لإعادة النظر في كيفية تعاطي المجتمع الدولي ومؤسساته مع النظام السوري ومؤسساته.

السوريون الذين عايشوا أفعال نظام الأسد منذ فترة طويلة ليسوا بحاجة إلى هذا الدليل الموثق لاختبار يقينهم بأن نظام الأسد نظام عصابات مجرمة استولت على مؤسسات وإمكانات دولة، وأنها تقوم بما تقوم به في إطار مخطط واضح ومنتظم يتحرك إلى غايته تماما، ويساعده في مسيرته هذه دولا إقليمية وأجنبية لم تلتفت يوما لمثل هذه الجرائم، ولم تهتم لها، ما دام هذا النظام يقوم بوظيفته.

لكن كشف هذه الجريمة بهذا الشكل والتوثيق والمصداقية، يقدم إضافة مهمة جدا ومركزية لكل الذين يتعاطون مع “الملف السوري”، سواء كان هؤلاء من المعارضة السورية، أم من الجهات الأجنبية دولا ومنظمات، أم من المنظمات والمؤسسات الدولية، وتقدم للجميع فرصة لمراجعة مواقفهم، وأدوارهم، بما يوفر لها القيمة الأخلاقية الضرورية ولو بأدنى درجة.

في نقاط محددة يمكن ذكر بعض ما يجب أن يتغير، وما يجب أن يعمل عليه استنادا إلى الارتدادات الطبيعية الذي لابد أن تحدثه جريمة “حي التضامن”:

1ـ نحن أمام جريمة موصوفة، كاملة الأركان، جريمة حرب، وجريمة ضد الإنسانية، إنها إعدام أسرى مدنيين بطريقة بشعة، ودون أي تردد أو وازع أو إحساس بفظاعة ما يتم، والعمل على إخفاء جثث الضحايا، وإخفاء معالم هذه الجريمة، لأجل ذلك فإنها من الجرائم التي لا يطالها عفو ولا تنقضي بمرور الزمن، ولا يعالجها إلا القصاص العادل.

2ـ وهذه جريمة قامت بها مجموعة عسكرية” المخابرات العسكرية”، جهارا نهارا، وبالتالي فإنها ليست جريمة ارتكبت تحت جنح الليل، وفي أماكن مغلقة، ومن قبل تشكيل عصابي، وارتكاب هذه الجريمة على هذا النحو لا يكون أبدا إلا إذا كان ارتكاب مثل هذه الجرائم مما انتشر وتعارفت على القيام به مثل هذه الأجهزة، أي أنها من وجهة نظر منفذيها ليست عملا شاذا، وليست تجاوزا على المتعارف عليه، وليست من خارج طبيعة العمل المكلفين به. وأول دلالة لهذا الأمر أنها تجري في إطار ونسق عام متبع.

3ـ لذلك فإن المسؤولية الجنائية عن هذه الجريمة وأمثالها لا تقتصر على من قام بها، وإنما المسؤولية يتحملها النسق العام للأجهزة والمؤسسات التي نفذت من خلالها هذه الجريمة وأمثالها.

ليست جريمة فردية، وليست شاذة، وليست سرية، ولم ترتكب في إطار معركة عسكرية، ولم تستهدف مقاتلين يحملون السلاح، ولم يعرف الضحايا أنهم يساقون إلى حتفهم.

4ـ إن ما سبق كله يوصلنا إلى نتيجة واحدة مفادها أن هذه الأجهزة والمؤسسات باتت بعقيدتها وبنيتها مؤسسات إجرامية، وليست مؤسسات دولة، تخضع لقوانين الدولة، وبالتالي فإن أي تصور لسوريا المستقبل يجب أن يستند الى ضرورة إعادة بناء هذه المؤسسات والأجهزة بشكل جذري، وهنا نتحدث عن مؤسسات الجيش وأجهزة الاستخبارات على تعدد تسمياتها. لقد لوث النظام كل مكونات  الجيش العربي السوري، وأخذه الى غير المواقع التي وجد من أجلها، وإلى غير الأهداف التي وضع الشعب السوري من أجل بناء هذا الجيش دمه وماله.

وبالتالي يجب أن تتضمن إعادة البناء لسوريا المستقبل: عقيدة هذه المؤسسات، وبنيتها التنظيمية والوطنية، ووظيفتها، ومسؤوليتها، وقواعد التزامها، وطرق الرقابة والمحاسبة فيها.

5ـ يجب أن يقتنع العالم كله أن أي تصور لسوريا المستقبل لا بد أن يوفر آلية للعدالة توفر الطمأنينة للمواطن السوري بأن المجرم بات محددا بالاسم والمكانة والدور، وبأن المجرم لن يتمكن من الإفلات بجريمته، وبأن القانون قادر على معالجة هذا الوضع الشاذ بجوانبه المادية والمعنوية.

إن هذا مهم جدا لأي تصور يستهدف إعادة بناء الوحدة الوطنية في سوريا التي دمرها النظام الطائفي القائم.

6ـ وتعيد بشاعة جريمة حي التضامن تسليط الضوء على “وهم” الحديث عن البيئة الآمنة التي يمكن أن تتوفر للاجئين السوريين للعودة الى مواطنهم مع وجود هذا النظام.

إن الكثير من الدول الإقليمية والغربية التي كانت تمضي مسرعة لإعادة تأهيل نظام الأسد، والاستهانة بقرارات الأمم المتحدة بشأن سوريا، ومحاولة القفز عنها، والتضييق على اللاجئين بدعوى أن الوضع في سوريا يسير باتجاه التطبيع الداخلي والبيئة الآمنة، يجب أن تراجع مواقفها إزاء هذا الملف وإزاء هذا النظام، فإنها فيما تقوم به تصبح شريكة في الجريمة الشاملة التي تتعرض لها سوريا ويتعرض لها الشعب السوري.

وفي هذا المقام لا بد أن يبرز تساؤل مؤلم إذ كيف يمكن أن نفهم اتفاق دول العالم المؤثرة على اطلاق حملة عالمية لمحاربة “الإرهاب”، وفي الوقت نفسه أظهر عجزا مخجلا عن الاتفاق على مواجهة “إرهاب” النظام السوري، ولعل افتقاد بنية النظام الدولي للمفهوم الأخلاقي يقف وراء هذا التناقض في المواقف، ولعله لهذا السبب أيضا حرص النظام الدولي على إطلاق حربه على “الإرهاب”، دون أن يعتمد تعريف واضحا للإرهاب، إذ أن اعتماد مثل هذا المفهوم سيصيب مباشرة النظام السوري، والكيان الصهيوني، وأنظمة عدة لها مكانتها في النظام الدولي، وأن من شأن ذلك أن يعيق إطلاق مثل تلك الحرب غير المحددة وغير المبررة، وغير الإنسانية.

7ـ وقد يرى البعض أن الوقت والظرف لا يسمح بتوسيع دائرة الاتهام لتشمل دولا وجهات خارج النظام السوري، لكن لا بد أن نتأكد أن مثل هذه الجرائم قام بها ومسؤول عنها، النظام الإيراني، والنظام الروسي، وحزب الله اللبناني، والقوى الطائفية العراقية والأفغانية وتلك التي جاءت من كل حدب وصوب بدعوى الدفاع عن مراقد “آل البيت”.

هؤلاء جميعا ارتكبوا مذابح من هذا النوع، في أماكن عديدة في سوريا، وهم شركاء بكل جرائم النظام ومؤسساته وأجهزته، يجب التأكيد على هذه الحقيقة وكشف كل جوانبها.

8ـ وأخيرا فإن الأجواء العامة التي تولدت عن الكشف عن جريمة حي التضامن يجب أن تدفع المعارضة السورية إلى التشديد على إعادة ترتيب أولويات عملية التفاوض التي تقودها الأمم المتحدة، لتكون الأولوية في هذه المفاوضات لموضوع ” سلطة الحكم الانتقالي” و”الكشف عن المعتقلين والمختفين قسرا”، ولتثبيت أن لا دور للأسد وزمرته في مستقبل سوريا، وأن سيف العدالة الانتقالية لا بد أن يطال كل المجرمين، أيا كانت مستوياتهم، وأيا كان توضعهم، ولا بد لهذه العدالة أن تصل إليهم جميعا في كل مكان انتقلوا إليه، وفي كل ملجأ هرعوا إليه.

مهم إعادة التذكير أن جريمة حي التضامن هي غيض من فيض، وواحدة من جرائم ومذابح لا حصر لها، وأنها على بشاعتها قد تكون أقلها وحشية.

ونحن ننظر في فيديو جريمة حي التضامن من المهم أن نذكر أن مثل هذه الجريمة وبهذا الشكل تقريبا، ارتكبت مرارا في سوريا منذ وقت طويل، ومن أمثلتها المذابح ضد المدنيين في حماة في فبراير / شباط 1982، ومذبحة حي المشارقة في حلب صباح عيد الفطر في أغسطس / آب 1980، ومذبحة جسر الشغور في مارس 1980، ونظائر لهذه المذابح عديدة ارتكبت منذ ذلك الوقت في مدن سورية أخرى وقبلها في لبنان.

هذا نظام لم يعد صالحا للبقاء، وكل يوم يبقى فيه، فيه دليل جديد على افتقاد البشرية لمنظومة القيم التي يحتاجها استمرار الحياة الإنسانية نفسها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى