هذا النص استمرارٌ في بلورة “مشروع تأميم سورية” الذي بدأ الكاتب نشره في “العربي الجديد”، أولاً في مقال “المسألة السورية وتأسيس النهائي” (21/7/2021). واستند المشروع إلى مجموعةٍ من المفهومات التأصيلية، من أهمها ما سماه مفهوم “السوري العادي” بوصفه “مادة الحل النهائي” (مادة الحل النهائي.. السوري العادي ومقدمات عملية، “العربي الجديد”، 10/9/2021). وطرح الكاتب أنّ “السوري العادي” الذي كان مادة الثورة السورية قبل عشر سنوات لا يزال مادة حلّ المسألة السورية النهائي اليوم. وفي محاولةٍ لضبط دلالي لمفهوم “السوري العادي”، اقتربت النصوص السابقة من المفهوم بوصفه توصيفاً يتطابق مع توصيف “ثائر ينتمي إلى ما بعد 2011”. ومن هذا المنظور، قارب الكاتب الثورة بوصفها مشروع السوريين العاديين التواصلي الكبير الذي انطلق من دون النخب. وعلى ذلك، صار من المُمكن القول، مثلاً، وبصورة أوليِّة، إنَّ السوري العادي إسلامي لأنه جزءٌ من الثقافة السورية الإسلامية مع إمكانية أن يكون غير مسلم أو غير مؤمن، وإنّه “عَلماني” لأنّه مفصولٌ عن المؤسّسة الدينية مع إمكانية أن يكون مؤمناً؛ والسوري العادي متديّنٌ، وملحدٌ، وديني، ولا ديني، وينتمي إلى ثقافة قبلية عشائرية، أو مديني لا عشيرة له، غني أو فقير، عربي وكردي وأرمني وآشوري وشركسي، إلى ما هنالك .. السوري العادي هو جمعٌ سلس لهذا كله من دون تناقض؛ لأنّه فردٌ متحرّرٌ من سطوة الجماعة أيّاً كانت. وأمكننا منظور السوري العادي وفق هذه الطريقة من أن ننحت تعريفاً أدقّ للثورة السورية؛ فنقول: الثورة هي تنسيقيةُ السوريين العاديين الكُبرى، التي أدّت إلى خروجهم بوصفهم أفراداً يتوقون إلى ذواتهم، في تظاهرة واحدة، راكموا فيها رأسَ مالٍ اجتماعياً سورياً؛ فعادوا منها جماعةً وطنية مدينية، وصاروا بموجبها يقتربون من فردانيتهم أكثر، ومن ثم يقتربون من ذواتهم أكثر. وبموجب رأس المال الاجتماعي الوطني هذا، صار السوري العادي، لأول مرةٍ في حياته، مؤهلاً للعمومي، وصارت سورية لأول مرة فكرةً مُمكنةً بالمعنيين، السياسي والاجتماعي، وصارَ هذا الإمكان ذا قيمةٍ تحيل على الكرامة.
تضمّنت أغلبية التفاعلات مع هذه الفكرة تساؤلاتٍ تحيلُ على الدعوة إلى ضبطٍ أدقّ لهذا المفهوم، ومن المتفاعلين من أبدى شكوكاً في دقّته، ووصفه أحد السياسيين في رسالة إلى الكاتب بأنّه “تجريدٌ فيه خطأٌ جسيم”. وسؤالٌ آخر لافتٌ ومهم ورد إلى الكاتب، يقول صاحبه إنّ فكرة السوري العادي مفهومة وجيدة، لكن من هو السوري غير العادي؟ ويأتي هذا النص مدفوعاً بهذه الملاحظات المُهمَّة لكي يَبسُط مفهوم السوري العادي بصورةٍ أعمق.
يحكي جلال الدين الرومي في المثنوي الثاني أنّ النبيَّ موسى سمعَ راعياً يُخاطب ربَّه مُسبِّحاً بلهجةٍ بدويةٍ غير مؤدّبة وغير محببة؛ فانزعج موسى ووبَّخ الراعي وأنبَّه تأنيباً شديداً؛ فاهتز إيمان الراعي ومضى بحزنٍ. ثم جاء عتاب الله لموسى وهبط وحي الله عليه، يقول: “لقد فصلت عبدنا عنّا. فهل تراك جئت من أجل الوصل؟ أم تراك جئت من أجل الفصل؟” ويقول وحي الله أيضاً: “يا موسى، إنّ هنالك فرقاً بين أولئك الذين يعرفون الأدب، وبين أولئك الذين احترقت أرواحهم وأنفسهم”. انتهت القصة. يمكن أن نقول إنَّ الراعي في هذه القصة ينتمي إلى مجموعة البشر العاديين، وهي مجموعةٌ، الأصلُ فيها التُعدد: ففيها الراعي، وفيها المزارع، وفيها البسيط، وفيها المُعقَّد، وفيها كلّ شيء؛ وموسى نبيٌ، ينتمي إلى نُخبةٍ من البشر. ويهتدي الراعي العادي إلى ربِّه بمفرداته، وبما استطاع أن يراه في أُفقِ ذاته؛ فلا يجد حرجاً في أن يقول لربِّه ما يرى في هذا الأفق من مفرداتٍ بدويِّة، وطرائق صياغةٍ بدائية يعبِّر بوساطتها عن حبِّه وطاعته وعبادته. كان الأفق الذاتي للراعي أكثرَ من أفق موسى اتساعاً، مع أنّه لا يعرف الأدب مثل ما يعرف موسى، لكن لأنّه ممَّن “احترقت أرواحهم وأنفسهم”، وهو بذلك يشبه السوريين العاديين كلهم. ويبقى السؤال مفتوحاً وموّجهاً لمن لا يرى نفسه عادياً في سورية: هل تراك جئت من أجل “الفصل”؟ أم تراك جئت من أجل “الوصل”؟ إذا كان الجواب من أجل الفصل؛ فالذهنية الملائمة لذلك هي ذهنية “سورية الأسد” التي تنتمي إلى ما قبل 2011، وهي ذهنية ترى أنّ الأصل في العيش التجانس، من ثم سحق الآخر المختلف. وإذا كان الجواب “من أجل الوصل”؛ فلهذا الوصل أفقٌ ذهني واسع يصنع فضاءً عمومياً تَعددياً يهتدي إلى الحقيقة من تواصل السوريين العاديين فيه. العضوية فيه فردية، والأصل فيه التعدّدية.
ما نريد قوله هو إنّ توصيف “العادي” يعني بصورةٍ أساسية غياب الحمولة الأيديولوجية عن نمط التفكير الفردي، ومن ثم حضور التفكير بوصفه حواراً صامتاً مع الذات وحوار سلمي تواصلي مع الآخر. و”العادي” صفةٌ نافيةٌ للعصبية والإمعيِّة، وهي مرادفة لـ “الطبيعي” في الثورة السورية في بداياتها الأولى؛ ففي قاموس الثورة الإدراكي يتطابق توصيف “السوري العادي” مع توصيف “السوري الطبيعي” بوصفه كائناً مُمكناً ورزيناً: ممكنٌ بما يعني هذا الإمكان من ملكية ذاته وتاريخه (هنا والآن)، وبما يحيل على قدرةٍ دائمةٍ على الابتكار؛ ورزينٌ بالمعنى الذي يعني أنّه قابلٌ لتوقع سلوكه وردود أفعاله إزاء حدثٍ مُعيَّن. ولهذا السبب بالتحديد، هو كائن جديرٌ بمنحه الثقة: فالسوريون العاديون مجموعةٌ يثق بعضها ببعض، ولها المقدرة على تسخير هذه الثقة في بناء رأس مال اجتماعي وطني، ومراكمته وصولاً إلى استثمار قدرته العجيبة في التغيير، ودفع الجميع نحو الأفضل. ويمكن، بموجب هذه المقاربة، أن نفهم التعبير الرمزي المنتشر: “خرجت الثورة من رحم المستحيل” ويمكن أن نوافق على دقّة هذه العبارة الرمزية في مرحلةٍ من المراحل. وعلى ذلك، لا يعني مصطلح السوري العادي وجود سوري غير عادي، لكنَّه يعني ببساطةٍ وجود سوري مقلوب: فكلّ سوري لا يرى نفسه عادياً (الآن وهنا) هو سوريٌّ مقلوب: تتحكّم فيه الأيديولوجيا من دون وعيه، وينتمي إلى ما قبل 2011. ومفهوم السوري العادي متعينٌ في الحياة السورية وليس مجرَّداً لا يمكن تعيينه.
لتوضيح أكثر نستطرد في الفكرة فنقول: المتظاهرون في 2011 سوريون عاديون، لكنَّ جماعة هيئة التنسيق مقلوبون، وجماعة المجلس الوطني مقلوبون، وجماعة الائتلاف الوطني لقوى المعارضة والثورة مقلوبون، وجماعة مؤتمر الرياض وهيئة التفاوض، وسوتشي، واللجنة الدستورية، كلهم مقلوبون. المسلمون سوريون عاديون، لكنَّ جماعة الإخوان المسلمين سوريون مقلوبون، وجماعة جيش الإسلام مقلوبون، وجماعة أحرار الشام مقلوبون، وجماعة جبهة النصرة مقلوبون، وجماعة المجلس الإسلامي السوري مقلوبون. والعمّال والفلاحون سوريون عاديون، لكنَّ الشيوعيين مقلوبون. العرب سوريون عاديون، لكنَّ الناصرين والبعثيين مقلوبون. الكرد سوريون عاديون لكنَّ جماعة الإدارة الذاتية، وجماعة المجلس الوطني الكردي، وجماعة الاتحاد الديمقراطي، كلّهم مقلوبون. ونقول مثلاً إنَّ رزان زيتونة ووائل حمادة وسميرة خليل وناظم حمادي سوريون عاديون، وزهران علوش سوريٌ مقلوب. إنَّ غياث مطر وإسلام دبَّاس ويحيى شربجي سوريون عاديون، وأبو عمشة سوريٌ مقلوب. إنَّ جودت سعيد سوري عادي ومحمد البوطي سوري مقلوب.. ونضيف أنَّ السوريين العاديين معاصرون على مستوى طريقة التفكير، وأنهم يفكّرون باستمرار، وينتجون أدواتٍ معاصرة لتفكيرهم باستمرار، بينما يستعيض السوريون المقلوبون عن التفكير بتفعيلِ ما هو ثاوٍ في أعماق الذاكرة الجماعاتيَّة. ويعيش السوري العادي في مجتمع، فيما يعيش السوري المقلوب في طوائف وفي مساحات أيديولوجية.
مرةً قال لي الشيخ أحمد الصياصنة، إمام المسجد العمري في درعا، إنَّ الثورة أخطأت مرّتين: “عندما تأسلَمت، وعندما تعَسكرت”؛ وكأن حديثه يعني أنَّ السوري العادي المُسلِم يقف ضد أسلمة الثورة وضد عسكرتها. وأنّ السوري العادي يدرك أنَّه ليس مقلوباً. وينعكس هذا الإدراك في حديثه وخطابه وسلوكه. ومهمٌ القول إن مفهوم السوري المقلوب ليس حكم قيمة، ولا ينبغي في أي حالٍ أن يُفهم بصورةٍ قدحية، أو أن يستخدم أداةً لوسم فئة معينة. وأيضاً، إنَّ “المقلوبَ” و”العادي” ليستا صفتين نهائيتين، بل إنَّ إمكانية الانتقال بينهما حاضرة دائماً. وهذا التمييزُ مرحليٌ بطبيعة الحال، وليس تمييزاً مطلقاً، وربما لا يخلو من شيءٍ من الإجرائية.
ونقطةٌ أخرى مهمة تُطرح هنا إلى النقاش العمومي تمهيداً للتفكير فيها، أنَّ “طبيعية” السوري العادي في الثورة السورية يمكن أن تكون مقدّمة لتأصيل معادلٍ موضوعي للعلمانية في سياقٍ تاريخي شرق أوسطي، فهذه “الطبيعية”، بما هي فصل السياسة عن الأيديولوجيات، ربما تكون مدخلاً إلى ابتكار معادل موضوعي لمفهوم العلمانية ينتمي إلينا وتصنعه أيدينا ليناسب ذواتنا ولا يتعدى عليها.
في الختام، يَصحُّ القولُ للسوري العادي ما قاله موسى للراعي مُعتذراً: لا تبحث بعد عن ترتيب الكلام أو أدبٍ فيه، وقل ما شاء أن يقوله صدرُك الضائق. فكفرك دين، ودينك نور الروح، إنك آمن، وفي أمان من الدارين.
المصدر: العربي الجديد