عَبَرْتَ في حَياتِنا || كَحُلم طُفُولِيٍ جَميل

خالد بريش

كانت معرفتي بالمغفور له الأخ محمد خليفة في بداية الأمر، بالسماع من خلال تواتر ذكر اسمه، من قبل بعض الأصدقاء القادمين من مدينة حلب الشهباء، إلى القاهرة المعزية، من أجل إتمام دراساتهم الجامعية. وعندما أنهينا دراستنا وذهبنا كل في اتجاه، أخذ اسمه يتردد مجددًا على الأسماع، بعدما حمل على عاتقه مسؤولية رابطة الطلبة الوحدويين العرب في اليونان، بعد خلاف أعضاء المكتب التنفيذي مع العقيد القذافي، وخروجها من طرابلس الغرب. وقد حاول رحمه الله، كل ما بوسعه للمحافظة عليها ككيان طلابي، ومنارة فكرية عروبية، تؤدي دورًا توعويًا مهمًا، وتربط كل الطلاب والشباب الحالمين بوحدة هذه الأمة ومصيرها ببعضهم.

وشاءت الظروف بعدها بعدة سنوات، أن التقينا في باريس وجهًا لوجه، بعدما تسلم رئاسة تحرير مجلة « البديل »، التي كانت تصدر في العاصمة الفرنسية، ويمولها المغفور له الرئيس أحمد بن بله، وكان اللقاء الأول مليئًا بالمشاعر الفياضة، والأسئلة التي لا تنتهي، لأن كل واحد منا يعرف عن الآخر، كثيرًا من الأمور والحكايا، وعنده تصور مسبق عن شخصه وشخصيته، والتزامه عروبيًا وإنسانيًا وقضايا أمتنا، من قبل أن يلتقيه.

تتالت بعدها اللقاءات في مناسبات كثيرة، وكانت في كل مرة عبارة عن نفثات مصدورين، بسبب ما آلت إليه أوضاع بلادنا، وأمتنا العربية، من محيطها إلى خليجها، وتوحش أنظمتنا العربية، ودوسها على كرامة شعوبها، وأحلامهم بالحرية، والوحدة، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، وبغدٍ آخر أفضل. وبسبب البؤس المدقع، الذي يعاني منه المواطن العربي، المغلوب على أمره، والذي انحصر حلمه في تأمين لقمة عيشه. وأيضًا وهو الأهم بعدما بيعت القضية الفلسطينية في سوق النخاسة، وبالمجان، من أجل بقاء الحكام على كراسيهم.

وكما أن أحاديث العشاق لا تنتهي، لأنها بلا فواصل، وعلامات إعراب، كذلك كانت أحاديثنا، حالة عشق صافية لأمتنا، تاريخًا ووجودًا وكيانًا وتفاصيلًا ومستقبلًا وغدًا مشرقًا. وكم من مرة نسينا أنفسنا، وامتد بنا النقاش إلى أن يطلب منا النادل دفع الحساب، لأنه أزف موعد إقفال المقهى، فتسبقنا الابتسامات، ونخرج من مقهانا، على أمل إكمال الحديث لاحقًا، على أن يكون أول موضوع نتطرق إليه هو محاولة الإجابة عن السؤال الأحجية: كيف يمكن إعادة رأب الصدع، والتوفيق بين كل الإخوة المؤمنين بمبادئ العروبة، والذين أصبح كل فرد منهم يغني على ليلاه..!

شاءت الظروف أن نفترق، ويغادر أبو خالد الأراضي الفرنسية، بعد انتهاء عمله في مجلة « البديل »، التي أقفلت أبوابها، وأيضًا بسبب بعض المضايقات من قبل المسؤولين عن منح الإقامات للأجانب، والتي كان وراءها تقارير وضغوطات النظام السوري، وبعض عملائه (الطيبين الأشاوس). إلى أن جمعنا القدر مرة أخرى، على صفحات التواصل الاجتماعي « الفيس بوك »، كما جمع غيرنا من الأحبة. فكانت فرصة للعودة إلى ساحات النقاش والفضفضة، وفصفصة قضايا العروبة وهمومها، وأوضاع أوطاننا، التي ألهب شوارعها، وأيقظ همم شبابها من جديد، ما عرف بـ « الربيع العربي ». وكان لنا بعدها لقاءات في باريس، شعرت خلالها، أنه بالرغم من تقدمه في السن، ما زال ذلك الشاب اليافع، الممتلئ همة وحماسا وعزيمة. الحالم دائمًا بالتغيير في وطننا العربي، من أقصاه إلى أقصاه. فكنت أشعر بعد اللقاء معه، الذي كنا نختتمه بآخر ما نظمه من شعر، أن التغيير واقع غدًا.. غدًا.. لا محالة… وليس بعد غد.!

اليوم وقد غبت عنا، أيها الأخ الحبيب أبو خالد، جسدًا وليس روحًا، نفتقدك يا طيب معنا وبيننا، مع أننا ما زلنا نحس بنبرات صوتك، وإشاراتك وتنبيهاتك، ونقرأ أحيانًا بعضًا من مقالاتك القديمة، التي حملت بعضًا من إرهاصات كانت تذهب بعيدًا أبعد مما نتصور، وها نحن اليوم نعيشها عيانًا. ونراها تتحقق أمامنا، فيخفق القلب ونتذكرك، ونهديك أزكى وأطيب الرحمات، والدعوات بالمغفرة بجوار رب كريم.

استرح، ونم قرير العين، أخي أبو خالد، أيها العابر في حياتنا كحلم جميل، معطر بأجمل الذكريات الطيبة. وإننا لقادمون إليك في وقت معلوم، يحدده الخالق سبحانه، وكل الأمل أن نحمل إليك معنا إن شاء الله، الخبر الذي طالما حلمت به، وانتظرته، وتمنيت أن تستيقظ يومًا صباحًا، ويكون الخبر الأول على كل الإذاعات، ووسائل الإعلام، ألا وهو سقوط النظام السوري الفاشي الطائفي، ومحاكمة كل المسؤولين فيه، من كبيرهم إلى صغيرهم. وأيضًا وهو الأهم، أن نحمل لك خبرًا عزيزًا عليك، وعلى كل عروبي شريف، بأن أصبحت الوحدة العربية حقيقة، ولم تعد حلمًا. وهو الخبر الذي طالما انتظرناه جميعًا، وما زلنا ننتظره مع صبيحة كل يوم، كما ننتظر أصوات المؤذنين، ولقيمات إفطارنا. ونحمل لك أيضًا خبر جماهيرنا، وقد عادت إلى رشدها، وأصبحت نقاشاتها بعيدة عن السفسطة، مقرونة بالأعمال، وتحقيق الأمنيات. وأن السجون أصبحت في أوطاننا، من أجل المجرمين فقط، وحرم من منتجعاتها الترفيهية، رجال الفكر والكلمة والمناضلين الشرفاء.!

ينشر بالاشتراك بين موقع ملتقى العروبيين وموقع المدار نت

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى