صادفت ذكرى الجلاء واستقلال سورية في 17 إبريل/ نيسان الحالي. وعادة ما كان السوريون يحتفلون بالمناسبة، وكان النظام يعزّز هذه الفكرة من أجل الكذب الوطني، بينما يحتفل بها اليسار لتثمين دور الشعوب في التحرّر الوطني، ولتأكيد أن الجولان ما زال محتلاً؛ فيما كان يغيب لواء اسكندرون كلياً. وعكس ذلك كله، ونظراً إلى ديمومة الاستبداد في سورية زمنا طويلا، برزت نزعاتٌ لدى كتل في المعارضة، وقبل 2011، تفيد بأن أسوأ ما تعرّضت له سورية هو ذلك الجلاء، وأن سورية كانت ستتقدّم كثيراً لو ظلّ الاحتلال. وتفكير كهذا لم يكن للسخرية، أو للمناكفة، أو استياءً من الاستبداد فقط، وإنما الفكرة ساذجة تنطلق من أن الاستعمار أفضل من الاستبداد. ويتجاهل منطق تلك الكتلة ممارسات النظام الصهيوني كونه احتلالاً، ويتجاهلون أسوأ احتلالين قامت بهما أميركا، لأفغانستان والعراق.
يجعل الاستبداد المجتمع “مختلاً عقلياً” ويذهب بالتفكير العقلاني. وعمر الاستبداد في سورية أكثر من خمسة عقودٍ. وبالتالي، من الطبيعي أن تسود تلك النزعات. ما هو غير طبيعي التمسّك بها، أو إخضاعها الجاد للنقد، وقد توضح، وبالملموس أن الاحتلالات، أو التدخلات، لا تقف مع حقوق الشعوب، بل وتعادي الثورات الشعبية. توجد أميركا عسكرياً في سورية منذ 2014، وتدخلت بشكلٍ كثيف في شؤون المعارضة، ودعمت فصائل معيّنة، ولم يكن وجودها دعماً للأكراد وضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فقط. ومع ذلك لم تفعل شيئاً لإنهاء المأساة السورية. وهي أيضاً، لم تتدخل لإجبار روسيا والنظام على الحل السياسي، باعتبارها لا تضع في تصوّراتها إسقاط النظام بالقوة، وقد وصلت إلى خطأ ذلك بعد المشكلات العميقة التي واجهتها في العراق وأفغانستان، والانسحاب الفاشل من الأخيرة، وسيطرة إيران على العراق. بخصوص روسيا، تؤكد تحليلات أن الإدارة الأميركية لعبت دوراً في تسهيل دخولها إلى سورية، وتحليلات أخرى تؤكد أن إيران وحزب الله ذاته دخلا سورية بغطاء أميركي.
لم تعِ المعارضة ذلك حينها، في 2011، وما زالت تفكّر بالعقلية ذاتها. ولنتأمل هذا الفكرة لها: لو وقفت أميركا مع المعارضة أو الشعب السوري لما تجرّأت روسيا على غزو أوكرانيا، وما يحدُث في أوكرانيا حدث في سورية. وضمن ذلك حاولت المعارضة أن تتحرّك، أخيرا، ضد روسيا من أجل عزل الأخيرة، وطرد النظام السوري من المؤسسات الدولية، أي ما زالت تفكّر بالعقلية ذاتها، بدلاً من أن التفكير بإعادة إنتاج نفسها، واعتماداً على الشعب أولاً. وثانياً إقامة علاقات متوازنة مع دول العالم وبعيداً عن عقلية استجلاب الاحتلال. وثالثاً، جلب النظام إيران وروسيا رهن بلادنا إلى عقود طويلة لهما، وكذلك فعلت المعارضة العراقية التي أتت بالاحتلال الأميركي 2003. تؤكّد أفكار المعارضة تلك، من جديد، أن لأميركا دوراً في تغيير الواقع السوري أو الأوكراني. وتتجاهل هذه الرؤية أن مصالح الولايات المتحدة في سورية أو أوكرانيا ليست على مقاييس تفكير المعارضة السورية أو الرئاسة الأوكرانية، بل تنطلق من مصالحها، ومصالحها أن تتفكّك سورية أكثر فأكثر، وألا تتورّط في أوكرانيا في حرب شاملة مع روسيا، ولكن الحصيلة دمار أوكرانيا وإضعاف روسيا. المقصد هنا أن هناك دولا مستعدّة لإنقاذ الأنظمة، وإطالة عمرها، وإضعافها، ولكنها ليست مستعدّة لإنصاف الشعوب، والوقوف مع ثوراتها، والتأسيس للدول الحديثة. هذا ما لم تفهمه قطاعات واسعة في المعارضة السورية بعد.
لم يعد لذكرى الجلاء من معنى. وعكس ذلك أصبحت سورية محتلّة من جديد؛ المسؤول الأول هو النظام، الطغاة يأتون بالغزاة، ولكن رؤية المعارضة القاصرة للعلاقات الدولية ولقدرات الشعوب على التغيير المحلي تجعل الواقع السوري معقّداً للغاية؛ وستطيل أزمنة الاحتلالات. واقعياً، هناك احتلالات عديدة، ولها جميعاً مصالح حقيقية في استمرار سورية مستنقعاً لأهلها، نظاماً ومناطق مستقلة عنه. المشكلة هنا في تضارب المصالح الشديد بينها، حيث ليس من تسويةٍ سياسيةٍ تحافظ على مصالح الاحتلالات، وتُخرِج سورية من المستنقع حتى. لن يتغير هذا التعقيد في الأمد القريب. ولنفترض أن هناك تسويةً قادمة، أي أن التعقيد انحلّ، فهل سيكون للسوريين مصلحة فيه؟
الاحتلالات أو التدخلات لا تأتي عبثاً، بل من أجل مصالحها، وكذلك حينما تخرُج. هنا أيضاً تضع خطة لضمان مصالحها. وبالتالي، ليس هناك من التقاء في المصالح بين حقوق الشعوب ومصالح تلك التدخلات، والقضية لا تُقرأ من خلال عدو عدوي صديقي، هذا تفكيرٌ في غاية السطحية؛ القضية تتعلق بالمصالح أولاً وأخيراً، وهي ما يحدّد السياسات والمواقف.
نقول في ذكرى الاستقلال: مصلحة الشعب السوري في إنتاج معارضة جديدة، وأن تتبنّى مشروعاً وطنياً جامعاً، يمثل مصالح الشعب بكليته، وأن تقيم صلاتٍ مع دول العالم بعيداً عن التبعية. لم يعد النظام السوري مالكاً ذاته، فهو تابع بالكامل لروسيا أو إيران، وبدونهما ستتعثر أوضاعه كثيراً. ووضعت أميركا حدوداً نهائية لقصة التطبيع مع العالم العربي، وبالطبع لن تَقبل تركيا التطبيع معه، وأيضاً لن تضغط روسيا كثيراً من أجل ذلك، فهي الآن مشغولة بإخراج نفسها من الورطة الأوكرانية والحصار الغربي، وهذا يستدعي علاقات جيدة مع تركيا وإيران وإسرائيل، وحتى الدول العربية، وبالتالي تراجعت ضغوطها على الدول الإقليمية من أجل التطبيع.
إذا كان النظام تابعاً، ورهينة للاحتلالات، وللأخيرة مصالح كبرى، فهي من أوقف النظام على قدميه منذ 2011 سنوات عبر التدخل العسكري أو الاقتصادي وسواه، فهل تستطيع المعارضة الحالية التخلّص من تبعيتها وعقليتها الكسول في فهم العالم؟ بشكلٍ قاطع لا يمكن لها أن تفعل ذلك، فهي رهينة التبعية والانتهازية والفساد والشللية، وقد أثبتت قطاعاتٌ واسعةٌ من المعارضة، ولا سيما الائتلاف الوطني، إفلاسه الكامل. وقد أصبح إنتاج معارضة جديدة، وفقاً للتوصيف أعلاه، وهذه خطوة أولى في مسارٍ جديد، في غاية التعقيد؛ فسورية مؤقلمة ومدولّة ومفكّكة داخلياً، ومقسّمة اجتماعاً وهوياتياً، وبالطبع سياسياً؛ هذه هي سورية المحتلة الآن، ولم تكن موحدة تحت ظل الاستبداد الذي أسّس لتلك الاحتلالات والتدخلات.
المصدر: العربي الجديد