التقيا في الطريق، استراحت عيناه في وجهها الجميل. أما هي فقد توقفت عند شاربيه اللذين خالطهما الشيب. من مكان قريب صدح صوت إذاعة: طائرات (1ف 16 ) إسرائيلية تقذف المدن الفلسطينية. طائرات مروحية تهاجم سيارةً يقودها أحد نشطاء الانتفاضة. اقترب منها ، ابتسمت، رقصت عيناها فرحاً ، مدَّ يده نحوها، انتظر، مدتْ يدها، لسعته حرارتها، فتمنى لو تذيب كفُها أصابعَه وتذهب بها. خاطبها: _ لمْ تغيّركِ السنون يا سميرة، مازلتِ ساحرةً، عشرة أعوام مرت على آخر لقاء لنا. جندي إسرائيلي يقتل طفلةً في الشهر الرابع من عمرها، وهي في حضن أمها. تنهدت، سبحت عيناها في بحر عينيه. _ نعم .. كان ذلك قبيل زواجي بأيامٍ قليلة. شاب فلسطيني يفجر نفسه في محطةٍ للركاب في ضواحي ” حيفا . تفجرت الدماء في عروقه، هدرت شلالات قلبه كما كانت تفعل عندما كانا يلتقيان. – لمَ تزوجت ذاك النغل؟ .. كبتَ غيظاً داهمه فجأةً. – لم استطع الرفض … الطريق أمامكَ كانتْ طويلةً. منذ اغتصاب فلسطين والعرب المقيمون فيها يعيشون غرباء في وطنهم. علق على هذا الخبر: هل تعود فلسطين إلى حضن أمها؟ . – ماذا فعلتَ في دنياكَ يا رامي؟. – صرعتني الدنيا يا سميرة. كلما أنهض من كبوةٍ تترصدني حفرةٌ. – هل تخرجتَ من الجامعة؟. – علقتُ شهادةَ الطب فوق سرير أمي. لمْ يكنْ لها همٌ في الدنيا سوى أن تراني طبيباً. الله أكبر الله أكبر.. نادى مؤذن العشاء بصوتٍ حنون. – كمْ أحببتكِ يا سميرة .. أنا بشوقٍ إليك .. حياتي صحراءٌ بلا نخيل. – تُوفي زوجي منذ عامين .. كان يكبرني بثلاثين عاماً.. الرئيس الأمريكي بوش ” الابن ” يعقد مؤتمراً صحفياً أمام البيت الأبيض. يقول فيه : لن نستطيع أن نمارس مسؤولياتنا في ” الشرق الأوسط “، إلا إذا توقفت موجة العنف والإرهاب التي يمارسها الفلسطينيون. نحن بصدد إقناع حلفائنا في المنطقة بجدوى العقوبات الذكية على العراق. أضاف الرئيس بوش. سارا معاً، دخلا حديقةً تودع آخر زوارها، جلسا على مقعد تحت مصباحٍ عجوز. – لمْ أتزوجْ .. لمْ أستطعْ الحصول على شهادة الاختصاص. الفرصة أمامي تضيق يوماً بعد يوم. – أتختص في الطب النفسي كما كنتَ ترغب؟ ..ضحك.. – نحن في وطنٍ لا يعترف أحدٌ فيه أنه مريضٌ نفسي.. ومَنْ حوله يتسترون على مرضه. – أما زلتَ تكتب الشعر.. قصائدُك كانت تثير عواطفي. – ماتَتْ أمي قبل أن أمارس الطب، فحطمتُ أقلامي وحرقتُ أوراقي. مرَّ أمامهما بائع فولٍ، خبأ في ركنٍ من عربته مذياعاً يصدح بأغنيةٍ لأم كلثوم. أكاد أشكُ في نفسي لأني أشك فيكَ وأنتَ مني اقترب منها ، التصق بها، انحنى إلى الأمام ليلامس ذراعه نهدها المتمرد، همس في أذنها: – منذ أشهر وأنت تقيمين معي في غرفةٍ واحدةٍ، تشاركينني السرير.. نظرت في وجهه مندهشةً. تكذِّبُ فيك كلَّ الناس أذني وتعشق فيك كلَّ الناس عيني – أين غرفتك لأذهب معك إليها؟ . – هناك في تلك البقعة من الأرض، في كل ليلةٍ أحلم أن هناك غابةً، فروع أشجارها متعانقة، في وسطها بيتٌ من الآجر الأحمر، له سقفٌ من القرميد، تعشش في شقوقه العصافير والبلابل، في داخل البيت سريرٌ خشبيٌّ ومدفأة حطب.. انظري حيث أشير بإصبعي.. نعم هناك أراكِ على السرير عاريةً. أعادت أم كلثوم مقطعاً من أغنيتها عدة مرات: يقول الناس أنك خنتَ عهدي ولم تحفظ هواي ولم تصنِّي أطرقت سميرة برأسها ، هربت بعيداً بعينيها ، حدثته : – منذ طفولتي كانت نظراتك تحرقني، عيناك تعريني. كنتُ أشعر بالتقزز عندما ما يطلب زوجي مني أن أتعرى له على أضواء خافتة وهو يلتهم المائدة، كان يسعد برؤيتي كما ولدتني أمي.. تألمت بين يديه، بكيت، داهمتني حالات تقيؤٍ.. لا زلت أخشى عينيك يا رامي، إنهما تخترقان ثيابي، تغوصان داخل أعماقي.. وما أنا بالمصدق فيك قولاً ولكني شقيتُ بحسن ظني. – أ كنتِ تُسعدين أيتها الماكرة عندما كانت عيناي تعريك؟. صمتتْ . ابتسمتْ . سألتْ: – ماذا حدثَ بعد ذلك؟. _ أين. – في تلك البقعة، في الغابة، على السرير الخشبي، قرب المدفأة. أجابها ببرودٍ: – لا شيء. أنهى الملوك والرؤساء والأمراء العرب مؤتمرهم في قمة عمان. ثم أخذ المذياع يبث أغنيةً صاخبةً. – كيف لا شيء ؟ . – ألم تقل أننا معاً في غرفةٍ واحدة، على سرير خشبي، أمام المدفأة ونحن عراة. – لا شيء ..” خالدٌ ” كان يداهمنا في تلك اللحظة. – خالد بن الوليد. – ابن الوليد المخزومي. – أ رأيته بأمِّ عينيك؟ . – رأيته يرفع الحجارة عن قبره. يخرج من بطن الأرض. يحطم الغرفة الخضراء التي سجنوه فيها. يحمل سيفه ورمحه. إنه يرتدي درعه وخوذته الفولاذية. له شاربان سوداوان. الشرر يقدح من عينيه. كان يصرخ يا سميرة، طوله يصل إلى مستوى مئذنتي مسجده، رأيته يصول ويجول كأنه في” القادسية ” أو ” اليرموك “. – ماذا كان يقول؟ . ” ليس في جسمي موضع شبرٍ إلا وفيه ضربة سيفٍ أو طعنة رمح “. التفتَ رامي إليها. سألها : – أ أصبحت أماً ؟ . تنهدت استنشقت الهواء بعمق: – كان زوجي عقيماً. خدعني .. أخفى عني ذلك.. مالت برأسها نحوه، وضع يده خلف ظهرها، شدها إليه بقوهٍ، فاحترّقت قطع الثياب التي تفصل بين جسديهما. عاد المذيع يعلن : هددت القمة العربية إسرائيل إذا استمرت في عدوانها على شعب فلسطين، ثم أوصت بوقف التطبيع معها حتى تعود إلى طاولة المفاوضات. – منذ أيامٍ تأبى عيناي النوم. يكاد القلق يقتلني يا سميرة. أحسُّ أن حمى ستأخذني معها إلى جهنم. أمسكت بيده. نهضت. قادته. أسرعت. حثتْ خطاه. اخترقت حياً شُيد على رابيةٍ مطلةٍ على المدينة. دخلت بناءً منعزلاً. صعدت به عدة درجات. أخرجت حزمة مفاتيح. فتحت الباب، تمنع، تردد، دفعته، جرَّته إلى غرفة النوم، تعرّت من ثيابها، ساعدته في خلع ثيابه. انفجرت شرايينه، انقضَّ عليها، احتضنها، عصرها بين ذراعيه، تلوت، تأوهت، أشعلته أنفاسها، ضغط بجسده على نهديها، طوقته بذراعيها. في هذه اللحظة خرج خالد بن الوليد من الجدار الذي أمامه، رماه بنظرة، تجمد، نهض، ارتدى ثيابه، خرج وصراخ خالد يطارده: ” فلا نامت أعين الجبناء “.