كيف قد تنتهي الحرب في أوكرانيا

جورج فريدمان*     ترجمة: علاء الدين أبو زينة

بينما نفكر في الكيفية التي ستنتهي بها الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا، يجب أن نفهم أولاً كيف بدأت هذه الحرب. لقد نفذت روسيا غزوها لأسباب جيوستراتيجية -لجعل أوكرانيا دولة عازلة تحمي موسكو من الغزو من الغرب- ولأسباب اقتصادية غالبًا ما يتم القفز عنها. لم تكن عملية الانتقال من الاتحاد السوفياتي إلى الاتحاد الروسي شأناً مربحًا تمامًا. ربما يكون الانتقال قد زاد من إجمالي الثروة، لكن روسيا تظل دولة فقيرة. ويأتي تصنيف ناتجها المحلي الإجمالي خلف كوريا الجنوبية مباشرة، وهو وضع محترم بلا شك، لكنه بالكاد المكان الذي ينبغي أن تكون فيه قوة عظمى. ومن حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، تحتل روسيا المرتبة 85، بين بلغاريا وماليزيا.

نادرًا ما تروي الإحصائيات الاقتصادية القصة كاملة بطبيعة الحال، لكنها في حالة روسيا تمثل بدقة معقولة دولة أفقر مما تبدو، مختفية بشكل اصطناعي سطحي خلف قناع طبقة عليا من النخبة فائقة الثراء. والحياة في المدن الكبرى مثل، سان بطرسبرج وموسكو، مترفة للأثرياء ويمكن تحمل كلفتها بالنسبة للبقية. لكن الحياة في الريف شيء مختلف تمامًا.

لا يمكن لوم الأنظمة الفردية وحدها على الفقر في روسيا. إن حجم الدولة، والصعوبات التي تواجهها المجالات المرتبطة بهذا الحجم، مثل النقل، على سبيل المثال، تجعل من الصعب حكم روسيا. ومنذ زمن القياصرة، كانت الدولة هي التي حافظت على تماسك روسيا وليس الازدهار الاقتصادي العام. وغالبًا ما يتم تحقيق هذا التماسك من خلال الأجهزة الأمنية المكلَّفة بالحفاظ على سلطة الدولة، وليس بناء الاقتصاد. ولذلك، لا عجب في أن تكون الدولة التي تفاخرت بالـ”أوخرانا”** قد أنتجت أيضًا رئيسًا تلقى تعليمه المبكر وكسب خبرته في الاستخبارات السوفياتية، “الكيه. جي. بي”. وسواء كان ذلك صواباً أو خطأ، فإن حجم روسيا وعدم كفاءتها يتطلبان حكمها بيد قوية.

خلق هذا الواقع توقعًا بأن الدولة ستكون قوية حتى لو ظل الناس فقراء. وكان هناك افتخار بالقياصرة وبستالين -الذي يدعى “الرجل الفولاذي”. ولكن، لكي يتمكن حاكم من حكم روسيا فإنه يجب أن يظهر قوته. ويتحدث المثقفون في روسيا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويريد الناس فيها الحماية من الغزاة من الخارج ومن الفوضى المتفاقمة والمفقِرة في الداخل.

على مر السنين، صنع الرئيس فلاديمير بوتين إيماءات مختلفة بشأن تحسين روسيا، لكنه تعلم في “الكيه. جي. بي.” أن روسيا لن تكون قابلة للحكم من دون يد قوية. وكان يعلم أن هناك نوعين من القوة: النوع الذي يجعل البلدان الأخرى ترتعد، والنوع الذي يبقي “الأعداء” المحليين تحت السيطرة.

من بيلاروسيا إلى كازاخستان، حاول بوتين، بالطريقة الوحيدة التي يراها مناسبة، إعادة بناء روسيا لبنة تلو الأخرى. وتشكل أوكرانيا أكبر لبنة في هذا البناء. ولذلك يعتقد بأن عليه أن يأخذها. كانت روسيا تصبح مضطربة يجري يتم فيها اعتقال المعارضين، وكان الأجانب يرفضون ذلك وينتقدونه. وقد أجبرته الإستراتيجية والقوة على التصرف. لكن المشكلة كانت أن أداة عمله، الجيش الروسي، لم تكن فعالة -تماماً مثلما هو حال روسيا نفسها. ولم يكن هذا هو واقع الحال على الدوام. بقدر ما يمكن أن تكون الخدمة العسكرية وحشية، كان فيها دائماً نوع من الفخر.

يبدو الجيش الروسي اليوم غير منظم وعديم الخيال وغير ملهم. ببساطة، لم تكن طريقة نشر القوة، وإعداد اللوجيستيات وقيادة ساحات القتال على جميع المستويات موجودة في غزو أوكرانيا. كان هذا نوعًا مختلفًا من الجيش الروسي، بيروقراطيًا وخائفًا من القيصر أكثر من خوفه من الخسارة أمام العدو. وقد طالب بوتين بتحقيق هزيمة سريعة للعدو. لكن عليك، إذا أردت أن تحكم بالقوة، أن ترى بوضوح أيضاً وأن تضرب بحزم في مركز الجاذبية.

لم يكن لأوكرانيا مركز ثقل، وإنما قوة مشاة خفيفة مشتتة على نطاق واسع فقط، والتي لم تعرض نقطة واحدة ليتم تدميرها. وعلى الرغم من أن هذا قد يبدو مثل حرب عصابات، إلا أنه ليس كذلك. لقد فاجأت أوكرانيا عدوها بالمرونة وعدم القدرة على التنبؤ بتحركات قواتها. ويمكن للمهاجم أن يرد بشن هجمات وحشية على السكان، لكن ذلك يترك الأوكرانيين بلا أي خيار آخر سوى القتال. لم يكن الجيش الروسي مصممًا لهذه الحرب، ولم يخطِّط لهذه الحرب، وليس لديه سوى عمل وحشي مضاد للمدنيين فحسب. وسوف يستخدم بوتين ذلك.

المشكلة إذن هي أن بوتين لا يستطيع أن يتوقف، ولا هو يستطيع التوصل إلى اتفاق مع أوكرانيا ويحافظ عليه. سوف تكشف كل صفقة -ما عدا استسلام العدو الكامل- عن دولة ضعيفة وحاكم ضعيف. والبدائل الوحيدة المتاحة هي العمل غير الفعال لأن القوة التي أرسلها بوتين إلى الحرب كانت القوة الخاطئة من بلد لم تكن لديه القوة المناسبة.

ربما يستطيع بوتين أن يتوصل إلى وقف حقيقي لإطلاق النار، لكنه إذا فعل، فإنه يكون قد انتهى. سوف يشكل عجزه على هزيمة الأوكرانيين، وازدراء الآخرين له، تدميراً لأسطورة قوته. وسيكشف استمرار الحرب إلى ما لا نهاية عن الشيء نفسه. وبينما تستمر الأمور كما هي الآن، فإن مهمة بوتين الأساسية ستكون التظاهر بأن الهزيمة لا تحدث لأن أي شيء أقل من النصر هو هزيمة. وكل اتفاقية يجب أن تنتهي بالخيانة. وكما يحدث دائماً مع رجال حرب العصابات، فإنهم يزدادون قوة كلما طال أمد الحرب.

السؤال الحاسم الآن هو ما إذا كانت لدى روسيا احتياطيات استراتيجية. كان الجيش في الميدان منذ أكثر من شهر، في طقس ما يزال باردًا، عند نهاية خط لوجستي إشكالي. وكانت هذه القوات تقاتل قوة مشاة خفيفة متحركة ذات حافز كبير للغاية وعلى دراية بالتضاريس. ولا يمكن أن يستمر هذا إلى أجل غير مسمى. يجب على روسيا أن تجري تناوباً في قواتها. ومن الناحية الاستراتيجية، يجب أن ترسل المزيد. لكنها بدلا من ذلك تنفذ انسحابا دمويا. إنك لا تقاتل من أجل نفس الأرض مرتين إلا إذا كان عليك أن تفعل.

ويعني هذا أن خطة بوتين الحربية قد تحطمت. كانت المقاومة فعالة وقواته في حاجة إلى مساعدة لا يستطيع توفيرها. وقد يشن بوتين هجمات مخادعة في اتجاهات أخرى -ربما في دول البلطيق أو مولدوفا- لكنه يفتقر إلى القوة للقتال على جبهة أخرى. لا يمكنه تحمل مثل هذه الحرب بسهولة، خاصة في مواجهة جنود الناتو الذين ظلوا حتى الآن بعيدين عن المعركة.

ومع ذلك، لا يمكنني التنبؤ بما سيفعله قائد في نهاية المطاف. ولكن في الوقت الحالي، من الواضح بالنسبة لي أن بوتين سيتشبث بالسلطة ويلوم كل من حوله. ومع ذلك، سوف يضعف كل يوم تستمر فيه الحرب موقف بوتين. ما كان ينبغي أن تكون أوكرانيا قادرة على المقاومة، وما كان ينبغي أن يتحد الناتو بهذه الطريقة، وما كان ينبغي أن تكون الحرب الاقتصادية الأميركية بهذه القوة. والآن يصبح بوتين أكثر يأساً. وقد تمتم بشيء بشأن الأسلحة النووية، وهي علامة على اليأس المطلق. لكنه يعلم أنه هو وأي شخص ربما يحبه سيموتون في تبادل نووي. وحتى لو كان مستعدًا للانتحار بدلاً من الاستسلام، فإنه يعلم أن الأمر بالبدء يجب أن يمر عبر العديد من الأيدي، وكل من تلك الأيدي تعلم أن الضربة المضادة ستقتل أحباءها. وهنا يكمن ضعف الحرب النووية: الرد عليها شيء والشروع فيها شيء آخر. ويثق بوتين في قلة من الناس، ولا يعرف كم يمكن الوثوق بأي شخص في مثل هذا الموقف -ولا ما قد يفعله الأميركيون إذا رأوا استعدادًا لإطلاق روسي.

إذا تخلى بوتين عن منصبه، فإنه سيكون معرضاً للخطر، وربما ينتهي. الصقور تدور في السماء. ولذلك يجب عليه أن يواصل القتال حتى يُجبر على المغادرة ويتولى شخص آخر غير مسؤول عن الكارثة المسؤولية، ويلقي باللوم على بوتين في كل شيء. أعتقد أن ما يجري لا يمكن أن ينتهي إلى أن يتم إخراج بوتين من اللعبة.

من الواضح أنني أتحرك هنا بعيدًا عن التحليل الجيوسياسي ونحو السياسي. الأول يحاول تقليل التأثير الفردي بينما يؤكده الأخير. وهذا يعطي توقعاتي عدم دقة حتمي. ولكن بالنظر إلى الوضع على الأرض، وبالنظر إلى الديناميات الداخلية الروسية، يبدو أن جميع القوى القادمة للتأثير على بوتين تملي اتجاهًا معينًا. سوف تنتهي الحرب، لكنها تتطور الآن بطريقة تضع ضغوطًا فريدة على النظام السياسي الروسي، وبسبب طبيعة النظام، فإن هذا الضغط ينصب كله على بوتين.

لكن هذه ليست النتيجة الوحيدة الممكنة. قد تنهار أوكرانيا. وقد تنهار روسيا. قد يجترح الجيش الروسي استراتيجية جديدة لكسب الحرب. وقد يتم التوصل إلى تسوية يتم احترامها. كل هذا ممكن، لكني لا أرى الكثير من الحركة في أي من هذه الاتجاهات. إن ما أراهن عليه هو النهاية السياسية، حيث يأخذ الروس الطرف القصير من العصا. لم أكن لأفكر في ذلك في اليوم الأول من الحرب، لكنني أعتقد أن هذا هو الشكل الذي سيكون عليه اليوم الأخير، على الأرجح.

*جورج فريدمان George Friedman: خبير استشاري جيوسياسي معروف دوليًا في الشؤون الدولية، ومؤسس ورئيس مجلس إدارة “جيوبوليتيكال فيوتشرز” Geopolitical Futures. ومؤلف ذائع الصيت في “نيويورك تايمز”. أحدث كتاب له بعنوان “العاصفة قبل الهدوء: الخلاف الأميركي والأزمة المقبلة في عشرينيات القرن الحادي والعشرين والانتصار بعد ذلك”، الذي نشر في 25 شباط (فبراير) 2020، ويصف كيف “تصل الولايات المتحدة بشكل دوري إلى نقطة أزمة يبدو أنها تخوض فيها الحرب مع نفسها، لكنها بعد فترة طويلة تعيد اختراع نفسها، بشكل مخلص لمثل تأسيسها لكنه مختلف جذريًا عما كان عليه”. ويرى فريدمان أن العقد 2020-2030 هو فترة ستجلب اضطرابات دراماتيكية وتعيد تشكيل الحكومة الأميركية والسياسة الخارجية والاقتصاد والثقافة.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: How the Ukraine War Will Likely End

هامش:

** أوخرانا: هي وزارة حماية الأمن العام والنظام، وتسمى عادةً “دائرة” الحراسة، وتختصر بشكل عام في المصادر الحديثة باسم “أوخرانا”. كانت في الأساس قوة الشرطة السرية للإمبراطورية الروسية وجزءًا من قسم الشرطة في وزارة الشؤون الداخلية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بمساعدة فيلق الدرك الخاص. وهناك اسم شائع آخر لهذه المنظمة هو “أوخرانكا”.

المصدر: (جيوبوليتيكال فيوتشرز)/ الغد الأردنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى