تعاني هذه الشريحة اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً وتعتبر صمام أمان اجتماعي وتقلصها يعني تبخر أحلام كثيرين.
إنها الطبقة التي حيرت الجميع. تجاذب أطرافها الكل، وتنازع الجميع على استرضائها. ظلت مصدر فخر للأوطان، وصمام أمان للمجتمعات، وحائط صد أمام الجهل تارة، والتجريف تارة أخرى، وترجيح كفة التوازن لصالح قاعدة الهرم أو قمته، وكلتاهما لا تصلح لضبط الإيقاع.
إيقاع المجتمعات وتقدمها أو تأخرها أو بقاؤها محلك سر مسؤولية كلاسيكية ترثها الطبقة الوسطى. هكذا قالوا قديماً، وهكذا يتحدثون حالياً. ميراث يصفونه بالثقيل دائماً. عقود طويلة والطبقة الوسطى تتحمل مسؤولية الأخت الصغرى المتمددة القابعة تحتها في قاعدة الهرم، التي تعاني الأمرَّين من شظف العيش وضيق ذات اليد، وكذلك مسؤولية الأخت الكبرى المغلقة على نفسها والرابضة في قمة الهرم لتحجيم شططها وتقليص اندفاعها.
لكنَّ للصبر حدوداً وللقدرة سعة استيعابية قصوى، لا سيما حين يرتفع سقف الطموحات لكن تتقلص القدرات وتتمكن الإحباطات.
في كل مرة يتطرق أحدهم إلى الطبقة الوسطى في العالم العربي، تتردد وتتكرر مفردات مثل “انقراض” و”اندثار” و”إحباط” و”انهيار”، لكن يتردد كذلك سؤال استفساري حول ماهية هذه الطبقة ومعاييرها ومكوناتها وحجمها، وهنا تبدأ المعضلة الكبرى.
الياقات البيضاء
حتى أعتى المؤسسات الأممية احتارت في تعريفها. وبحسب ورقة عنوانها “ديناميكية الطبقة الوسطى والربيع العربي” (2016) والمنشورة على “مدونات البنك الدولي”، فإن معرفة مواصفات الفئة التي تنتمي إلى الطبقة الوسطى في العالم العربي ليست بالمهمة الواضحة تماماً. فبسبب نقص بيانات المسح اللازمة لتحليل أنماط الاستهلاك، يلجأ الباحثون لاعتماد تعريفات تركز على الانتماءات السياسية والمهنية والرؤى الاجتماعية ومدى الشعور بالسعادة وغيرها من عوامل القياس التي تعوض نقص الأرقام.
لكن لا غنى عن الأرقام. “اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا” (الإسكوا) تقر بأنه لا إجماع على تعريف هذه الطبقة في المنطقة العربية، وأن المفهوم السائد هو معرفة مقدار ما يملكه الأفراد من خيارات في طريقة الإنفاق. وبشكل مبسط وربما لا يفي بمعايير القياس العلمية، فإن البعدين الاقتصادي والاجتماعي حاكمان في تعريف الطبقة الوسطى في العالم العربي. فينتمي إلى الطبقة الوسطى كل من يستطيع تلبية كل حاجاته الأساسية وأكثر قليلاً، وكل من يعمل في فئة من الوظائف يطلق عليها “الياقات البيضاء”، إضافة إلى فئة جديدة بازغة منخرطة في مشروعات متوسطة الحجم، شرط أن يكون حاصلاً في الأقل على شهادة إتمام الدراسة الثانوية.
أبناء هذه الطبقة لا يبحثون فقط عن خدمات عامة في مقابل الضرائب التي تخصم من دخولهم، لكنهم يبحثون عن جودة هذه الخدمات مثل التعليم والصحة والبنى التحتية. ويشار إلى أن الرغبة غير المنفذة بالقدر الكافي في جودة الخدمات في مقابل الخصومات عادة ما تتسبب في تنامي الإحباط وتزايد الشعور بعدم الرضا بين أبناء هذه الطبقة.
هذه الطبقة في الدول العربية تلعب دوراً محورياً من دون أن تدري في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومن دونها أو في حال انقراضها تتعثر الدول، وتستمر عمليات التحول السياسي والاقتصادي والسياسي ماضية قدماً، ولكن للخلف در.
البعض ربط بين ما يسمى بـ”رياح التغيير” التي هبت على عدد من الدول العربية في عام 2011 والطبقة الوسطى في هذه الدول، على اعتبار أنها الطبقة التي قادت عملية الإشعال رغبة في إحداث التغيير. لكن الأحداث أشارت كذلك إلى أن الطبقة ذاتها هي التي أسهمت في إخماد الرياح، بعد ما أطلت الفوضى العارمة برأسها من كل فج عميق.
واليوم، تقف الطبقة الوسطى في العالم العربي، وهي في حيرة من أمرها، تبحث عن الذات حيناً، وتلملم جراحها وآلامها حيناً، وتجاهد من أجل البقاء دائماً. تتعدد الدول العربية، وتختلف مكونات ومعايير الطبقات الوسطى فيها، لكن تبقى الحيرة والخوف من الانقراض أرضاً مشتركة.
طبقة بين البينين
في مصر، احتارت طبقة بين البينين وحيرت كل من حولها. كانت مصدر فخر واعتزاز في مصر منذ بزوغها في عهد محمد علي في القرن الـ19 حين أرسل بعثات من المصريين للدراسة في الخارج والعودة لبدء بناء الدولة الحديثة مروراً بالعصر الملكي ثم سنوات ما بعد ثورة يوليو (تموز) عام 1952. لكن عوار سياسة وقيم ومعايير الانفتاح الاقتصادي المادية والاستهلاكية أصابها بشدة لتبدأ رحلة الصراع من أجل البقاء.
وعلى الرغم من ذلك، استمر الجميع في تحميلها مسؤولية ضبط إيقاع المجتمع، واعتبروها صمام أمان ضامن لبقاء النظام، ومنطقة وسط بين شطحات “الناس اللي فوق” وكبوات “الناس اللي تحت”.
لكن ما جرى هو أن الطبقة الوسطى وجدت نفسها كمن رقص على السلالم، فلا هي حافظت على الميزان، ولا ضبطت الإيقاع، ووجدت نفسها منضغطة منصهرة منكسرة بين طبقة مخملية أعلاها وأخرى مدقعة أدناها.
أدنى دخل سنوي للأسرة المصرية الوسطى -حسب تقديرات “وكالة فيتش للتصنيف الائتماني” العام الماضي- كان 78 ألف جنيه مصري (نحو 4269 دولاراً أميركياً) وبلغ الحد الأقصى 156 ألف جنيه (نحو 8533 دولاراً أميركياً). الوكالة توقعت أن تشهد الأسر المصرية المنتمية للطبقة الوسطى انتعاشاً بحلول عام 2025، وذلك في ضوء وتيرة النمو الاقتصادي في عام 2021.
لكن التوقعات تحيد أحياناً عما يجري في الواقع، فمتوسطات الدخل المذكورة لا تحقق على أرض الواقع مستوى المعيشة المبتغى من قبل أسرة الطبقة الوسطى. كما أن وتيرة النمو الاقتصادي تتعرض للتعثر حالياً، بسبب آثار حرب روسيا في أوكرانيا.
بحسبة بسيطة، أسرة مصرية من الطبقة الوسطى لديها طفلان تحتاج إلى شقة سكنية في منطقة معقولة لن يقل سعرها عن مليون ونصف المليون أو مليوني جنيه مصري (بين 55 ألفاً و82 ألف دولار أميركي)، وسيارة واحدة في الأقل لن تقل عن 300 ألف جنيه (نحو 16 ألف دولار أميركي)، وفاتورة غذاء وكساء وعلاج لا تقل عن خمسة آلاف جنيه شهرياً (نحو 273 دولاراً أميركياً)، وسداد مصروفات مدرسة خاصة تليق بالطبقة الوسطى لن تقل عن 50 ألف جنيه سنوياً للطفل الواحد (نحو 2700 دولار أميركي)، إضافة إلى فواتير الكهرباء والماء والغاز والوقود والمواصلات والترفيه والرياضة التي لن تقل عن خمسة آلاف جنيه (نحو 273 دولاراً أميركياً)، ما يعني أن دخل الأسرة الوسطى على الورق لا يصنع أسرة متوسطة في الواقع.
معاناة اقتصادية واجتماعية ونفسية رهيبة تعيشها الطبقة الوسطى في مصر. وهي معاناة آخذة في التصاعد على مدى نصف قرن. ففي سبعينيات القرن الماضي وجدت الأسرة المصرية الوسطى نفسها تبدأ رحلة الهبوط.
أعزها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي اتبع عهده سياسات عززت من شأنها كأسرة أفرادها متعلمون على قدر كبير من الثقافة والتنشئة يحظون بوظائف جيدة في هيكل الدولة ويصعدون السلم الاجتماعي والاقتصادي بالتعليم والعمل والكد والجهد. ثم أتت رياح الانفتاح الاقتصادي في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات لتطيحها من مكانتها الضامنة لاستقرار المجتمع والشاهدة على رفعته واتساع رقعة منتصف الهرم الطبقي، إلى الضامنة لارتفاع طبقة جديدة تملك المال ولا تملك العلم أو الثقافة أو التربية على أكتافها، والشاهدة على انقلاب الهرم الطبقي رأساً على عقب حيث المال أساس صعود السلم الاجتماعي.
الطبقة الوسطى، كما تشير دراسة عنوانها “الطبقة الوسطى المصرية بين الازدهار والانحسار” (2019) منشورة في “مجلة البحث العلمي في الآداب”، هي “دينامو الحياة السياسية والمنوط بها دعم حركة المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية”، لكن الدينامو يعاني على جبهتين بحثيتين: البحث عن الذات والبحث عن لقمة العيش.
صراع الطبقتين
الطبقات القابعة عند قاعدة الهرم الطبقي الاقتصادي في مصر، التي تتميز بالكثرة العددية والصوت العالي والوجود الطاغي في الشارع، تنظر إلى جارتها أعلاها باعتبارها قد ملكت الدنيا وما عليها. عاملة المنزل و”سايس” الجراج وفرد الأمن وعامل المخبز وشاب الـ”دليفري” يتعاملون معها باعتبارها فولاذاً قادراً على امتصاص الصدمات الاقتصادية أياً كانت، وإسفنجة رخوة عليها مد يد العون لمن هم أقل حظاً من دون مساءلة أو مراجعة.
رمانة الميزان وصمام الأمان وضحية كل زمان وأوان، طبقة مصر الوسطى المضغوطة، الصابرة، المنتظرة، المقدرة لظروف الوطن، الممتنة للحكومة، المتغاضية عن العشوائية، المتفهمة لظروف الخارجين عن القوانين والأعراف، الملتزمة القواعد الأخلاقية، تجد نفسها اليوم غير قادرة على محاولات البقاء في موقعها.
يوضح مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، محمد فايز فرحات، في مقال عنوانه “هل تراجع حجم الطبقة الوسطى في مصر؟” (2021) أن قياس حجم وحالة الطبقة الوسطى لا يمكن اختزاله في متغير الدخل، سواء الاسمي أو الحقيقي، إذ لا بد من الأخذ في الاعتبار مجموعة مركبة من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للوقوف على تقدير حقيقي لحجم هذه الطبقة، وهو ما يجعل الوصول إلى هذا التقدير مسألة شديدة الصعوبة والتعقيد.
ويشير فرحات إلى أهمية وضع حجم طموحات شرائح هذه الطبقة في الحسبان، وهو ما يزيد من احتمالات شعورها بالإحباط وعدم الرضا على الرغم من تحسن أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية. فالكلفة المادية للطموحات والتوقعات مثل تعليم الأبناء والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي والترفيه تكون عادة أعلى من حجم دخل الأسرة، وهو ما يزيد شعورها بتدهور أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية.
وعلى الرغم من أنين الطبقة الوسطى المستمر منذ عقود، فإن أنينها تفاقم منذ عام 2016. فهي الطبقة التي تجرعت القدر الأكبر من مرارة فاتورة الإصلاح الاقتصادي، ولم تتمكن ظروفها الاقتصادية من مجاراته، ولم تؤهلها مكانتها من الاستحقاق في برامج التخفيف عن الفقراء.
انفجار الطبقة الوسطى يأخذ وقتاً ويستغرق فكراً ويمر بدهاليز التفكير والتنظير. وهو لا يخلو من قدر وفير من حسابات المصلحة العامة والمنفعة الشعبية وإيثار الوطن، لكن المعاناة شديدة.
أنين الطبقة الوسطى هذه الأيام منبعه آثار حرب روسيا في أوكرانيا وغلاء الأسعار ومزيد من التعويم للجنيه المصري وهو ما أصابها فيما يشبه المقتل.
لكن “عمر الشقي بقي” كما يقال في المثل الشعبي، وكذلك عمر الطبقة الوسطى باقٍ، لأن من دونها تتوتر المجتمعات وتتهاوى الأوطان. التضخم الآخذ في التهام مدخولاتها، وثبات رواتبها مع جنون فواتيرها تركاها في حالة هزال. لم يعد في بنود إنفاقها ما يمكن التخلي عنه. كما لم يعد في حساباتها المصرفية ما يكفي لضمان دخل إضافي يبقيها في منتصف الهرم.
أولئك الرابضون في منتصف الهرم قابضون على جمر السلم الاجتماعي. روح الطبقة الوسطى في مصر لم تصعد إلى بارئها بعد، لكنها تصارع من أجل البقاء مع الحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من مكتسبات تعليمية وصحية واجتماعية وترفيهية. أما الصراع من أجل ارتقاء السلم الاجتماعي، فمتوقف لحين إشعار آخر.
متضررون في الجزائر
إشعار مشابه يفيد الألم وينبئ بخطر قادم من الجزائر. فبقدر ما كانت الطبقة الوسطى مفخرة البلاد على مدى سنوات، بقدر ما تحولت إلى علامة فشل الحكومات المتعاقبة، بعدما أخفقت في حمايتها وضمان استمراريتها، ما يفتح المجال أمام اختزال المجتمع في طبقتين: غنية وفقيرة.
بات الشارع الجزائري يشكو تدني القدرة الشرائية وارتفاع الأسعار بشكل جنوني، ولم يستثنِ الوضع أحداً، من الطبيب إلى الأستاذ إلى الصحافي إلى المسؤولين في وظائف عليا. ولعل استمرار الأجور من دون زيادات منذ أعوام من أهم أسباب اتساع دائرة المتضررين، لترتفع نسب الفقر مقارنة بثروات الأغنياء وتتآكل الطبقة الوسطى التي كانت إلى وقت قريب عامل تحقيق التوازن اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً.
يعود ظهور الطبقة الوسطى في الجزائر إلى عهد الاشتراكية، بخاصة خلال مرحلة الرهان على التصنيع السريع، إذ كانت الحاجة ماسة إلى موظفين ومهندسين لترجمة المشروع قبل أكثر من 40 عاماً. وعلى الرغم من غياب ضوابط محددة لتعريف هذه الطبقة، فإنه يمكن تصنيفها بحسب الدخل الشهري الذي يتراوح بين 600 و1800 دولار في الشهر.
عاشت الطبقة الوسطى أزهى مراحلها في الفترة بين 2010 و2014، حين تم رفع أجور عمال القطاع العمومي وإقرار زيادة في الحد الأدنى للرواتب، لكن مع توالي الصدمات الاقتصادية المترتبة على تهاوي أسعار النفط، تراجعت القدرة الشرائية وارتفعت الأسعار وانخفضت قيمة العملة المحلية (الدينار). وبدأت هذه الطبقة بالتضرر والتقلص والتآكل، وهو ما أكده البنك الأفريقي للتنمية، حين أشار إلى أن 34 في المئة من الطبقة الوسطى الجزائرية باتت مهددة بالفقر.
يقول أستاذ الاقتصاد عبد الرحمن مبتول، إن الطبقة الوسطى في الجزائر تتجه نحو التآكل بشكل متسارع، لتهبط صوب الطبقة القريبة من الفقر والحاجة، مشيراً إلى أن الوضع الاقتصادي ينذر بتكريس طبقة مقيتة وجديدة في المجتمع.
وأضاف أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها البلاد، وما صاحبها من غلاء المعيشة والارتفاع المستمر للأسعار جعلا الطبقة الوسطى، التي تتشكل من الموظفين في قطاعات الصحة والتربية والتعليم والإدارة، تنحدر إلى الطبقة الفقيرة، ما يهدد الاقتصاد الوطني.
معركة ضمان لقمة العيش
من جانبها، تعتبر المتخصصة في علم الاجتماع، ثريا التيجاني، أن التآكل المستمر للطبقة الوسطى يجعل الفرد فيها يشعر بانعدام العدل والأمن. وشددت على أن فئات واسعة من الجزائريين باتوا قلقين وخائفين من المستقبل، إذ إن كثيراً من الموظفين في القطاعين العمومي والخاص، ومنهم أصحاب كفاءة وخبرة، دخلوا معركة ضمان لقمة العيش، ما جعل الهوة بين الطبقتين الغنية والفقيرة تتسع.
التيجاني أوضحت أن نخبة المجتمع التي تحدث التغيير والرقي عادة ما تكون من الطبقة الوسطى، التي تتكون من الأساتذة والأطباء والجامعيين والصحافيين والمثقفين، لأن الفقير يكون دائماً غارقاً في البحث عما يسد رمقه، كما أن الغني يهتم بجمع المال وخدمة مصالحه.
الطبقة الوسطى في الجزائر ترتكز على أفراد يعيشون من الريع، ولا يسهمون في خلق الثروة. وتقدر نسبتها بنحو 52 في المئة من السكان البالغ عددهم نحو 44 مليون نسمة. وهي بذلك، عكس البلدان المتقدمة المعتمدة في نموها على هذه الشريحة باعتبارها خلاقة للثروة الدائمة، تنتج وتستهلك في الوقت ذاته، إضافة إلى أنها أكثر الطبقات دفعاً للضرائب.
وتحظى هذه الطبقة بالاهتمام السياسي، وتلعب أدواراً مهمة في المعارك الانتخابية، حيث كل التشكيلات السياسية تبحث عن إطارات وكفاءات متميزة تخوض بها الرئاسيات أو البرلمان أو البلديات، ما يجعلها تحاول جاهدة الحفاظ على مستواها في المجتمع أو ترتقي إلى الطبقة العليا، وهو ما بات أمراً بالغ الصعوبة.
دفع هذا الوضع الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان إلى دق ناقوس الخطر، إذ أكدت في دراسة أن مظاهر الفقر عرفت تحولاً كبيراً في البلاد، ولم يعد الفقر يمس الفئات المحرومة فقط، بل باتت الوسطى مهددة بالانزلاق في هوته. وشددت على أنه إذا كان الفقر يميز سكان المناطق الريفية فيما قبل، فإنه أصبح اليوم منتشراً بشكل كبير حتى في المدن والمناطق الحضرية، وعادت إلى الواجهة أمراض كان يعتقد أنه تم القضاء عليها. كما تم تسجيل نقص في معدل التغذية وارتفاع في البطالة. واعتبرت أن ربع الجزائريين يعيشون الفقر الذي تتجلى مظاهره من خلال تدهور المستوى المعيشي وسوء الخدمات الصحية والبطالة وتزايد الراغبين بالهجرة بأي ثمن وانتشار الأحياء الفوضوية.
وبحسب الرابطة، فإن مؤشرات مقلقة عن الفقر وخريطة الفقراء في البلاد ظهرت أخيراً، وكشفت عن أن 19 مليون جزائري يعيشون تحت خط الفقر، بعدما كانوا 14 مليوناً في 2015.
شجون في تونس
شجون مماثلة تعتري الطبقة الوسطى في تونس، وهي الطبقة التي طالما كانت رهاناً سياسياً ومشروعاً مجتمعياً، طيلة عقود ما قبل عام 2011. لكن في تونس، لم تكن الطبقة الوسطى نتاج منوال اقتصادي تنموي عادل، بل كانت قراراً سياسياً من أجل الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي لاستدامة نظام الحكم، إذ تمتص هذه الطبقة أشكال الاحتقان الاجتماعي، وشكلت لعقود مساحة عازلة بين الطبقتين الفقيرة والثرية.
وطيلة عقود ما قبل عام 2011، اتسعت رقعة الطبقة الوسطى في المجتمع التونسي لتبلغ أكثر من 70 في المئة من مجموع عدد السكان. فقد قايض نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي عبر هذه الطبقة مقدماً الرفاه الاجتماعي مقابل تحييد النقاش السياسي حول الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية، وذلك عبر استمالة القيادة المركزية للاتحاد العام التونسي للشغل، وإجراء مفاوضات اجتماعية دورية لزيادة رواتب القطاع العام، والوظيفة العمومية، مع ضمانات أخرى كعدم المساس بميزانية الدعم والمحافظة على المؤسسات العمومية.
واعتبرت الطبقة الوسطى حينها صمام أمان اجتماعي، إلا أن سنوات ما بعد عام 2011 شهدت تآكل هذه الطبقة، فتراجعت نسبتها إلى نحو 55 في المئة من التونسيين في عام 2015، بحسب دراسة أعدها المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية.
ويخشى المتابعون للشأن السياسي والاجتماعي الحالي في تونس أن يؤدي ضمور الطبقة الوسطى إلى زعزعة الاستقرار في بلد يعاني أزمات متواترة اقتصادية واجتماعية وسياسية وانقسامات سياسية حادة، إضافة إلى خطر الإرهاب واحتمال تفجر الاحتجاجات الاجتماعية في أي لحظة، بسبب غلاء المعيشة وتدني القدرة الشرائية لعموم التونسيين.
واعتبر المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية أن “سياسات تقليص الدعم، وإثقال متوسطي الدخل بالضرائب زاد من تآكل الطبقة الوسطى التي بدأت تفقد خصوصياتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية مقابل اتساع رقعة الطبقة الفقيرة. كما زادت المخاطر التي تهدد القدرة الشرائية للطبقة الوسطى وقدرتها على الاقتراض وضعف فرص حصولها على مسكن مريح”.
قريبة من خط الفقر
يؤكد الباحث في مجالات التنمية عضو الهيئة المديرة للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، منير حسين، أن “السياسة الجبائية المجحفة أنهكت الطبقة الوسطى في تونس، إذ تسهم بنحو 70 في المئة في الضريبة المباشرة”. ويضيف أن “سياسات الإصلاح الهيكلي، وتقلص دور الدولة التدريجي في الصحة والتعليم أديا إلى تحمل هذه الطبقة أعباءً مضاعفة”.
ويشير حسين إلى أن “فئة واسعة من الطبقة الوسطى باتت قريبة جداً من خط الفقر، والمقدر في تونس بنحو خمسة دنانير في اليوم للفرد الواحد أي أقل من دولارين”، لافتاً إلى أن “نصف الطبقة الوسطى تقريباً باتت مدينة للبنوك التي تفرض ضغطاً متزايداً عليها”.
ويشدد منير حسين على أن قاعدة الفقر باتت تتسع على حساب الطبقة الوسطى، مشيراً إلى وجود نحو خمسة ملايين أسرة فقيرة في تونس. وأضاف أن الشروط الجديدة التي يفرضها صندوق النقد الدولي على تونس من شأنها أن تمزق أوصال ما تبقى من هذه الطبقة، وذلك من خلال ارتفاع الأسعار والرفع التدريجي للدعم وتجميد الأجور. يشار إلى أن المعدل العام للأجور في تونس هو 640 ديناراً (213 دولاراً) وهو معدل قريب من مستوى الفقر.
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فقد عمقت جائحة كورونا من جراح هذه الطبقة، إذ فقد نحو نصف مليون مواطن مصدر رزقهم، أغلبهم في القطاع الخاص لا سيما المؤسسات الصغرى التي تشكل عماد الاقتصاد التونسي. وتؤكد إحصاءات رسمية صادرة من معهد الإحصاء في تونس (مؤسسة عمومية) أن نسبة الفقر ارتفعت من 15 إلى 19 في المئة بعد جائحة كورونا.
الضغوط التي تتعرض لها الطبقة الوسطى لا تلحق الضرر بها وحدها، لكنها تمثل خطراً داهماً على المجتمع بأسره. فاضمحلال هذه الطبقة يهدد استقرار المجتمع الذي يواجه أصلاً تحديات عدة. وبالفعل، بدأت هذه الطبقة تفقد دورها في ضمان التوازن الاجتماعي، الذي كان يمكنها من امتصاص الاستقطاب الحاد والصراع الطبقي بين الفقراء والأثرياء. كما كانت محركاً اقتصادياً بفضل مساهمتها في تدشين المشروعات وتشجيع الاستهلاك والادخار الداخلي.
الانتهازيون الجدد
وأسهم تنامي نشاط القطاع الموازي، الذي بات مربحاً أكثر من القطاع المنظم، في نشوء شريحة انتهازية من الأثرياء الجدد. كما ظهرت بوادر ثقافة جديدة من التوحش الاجتماعي، لا تسمح بالتأسيس لازدهار اقتصادي مستدام تنتفع منه الطبقة الوسطى وسائر مكونات المجتمع، كما تحرم الدولة من مداخيل جبائية كبيرة.
تقلص الطبقة الوسطى يعني أيضاً تبخر أحلام كثيرين من الموظفين والمهنيين الشباب في امتلاك مساكنهم وضمان تعليم جيد لأبنائهم وعيش لائق لأسرهم. وقد دفعت تلك المخاوف ما يزيد على 40 ألف مهندس إلى مغادرة البلاد في أقل من ست سنوات، كما غادر ما يزيد على عشرة آلاف طبيب إلى الخارج بحثاً عن آفاق مهنية ومادية أرحب.
من جهة أخرى، فإن الطبقة الوسطى تلعب دوراً مهماً في نحت هوية المجتمع المتجانس، الذي يؤمن بالتسامح والاعتدال والانفتاح على الآخر ثقافياً وحضارياً. وغياب مثل هذه القيم قد يشجع على تفشي الفكر المتطرف والانغلاق.
حكومات وبرامج الدولة ما بعد عام 2011 لم تنجح في صياغة عقد بديل للمقايضة التي اتبعتها الدولة طيلة عقود خلت مع هذه الطبقة. ولم تنجح في المحافظة عليها في مناخ جديد من الحرية والديمقراطية. إنقاذ الطبقة الوسطى لم يشكل أولوية سياسية أو اجتماعية في تونس الغارقة حالياً في أوحال أزمة سياسية لها تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، التي تدفع ثمنها هذه الطبقة.
مخاوف في المغرب
وبقدر ما تشكل الطبقة الوسطى عنصر أمان واستقرار في المجتمعات العربية، بقدر ما تعلو أوجاعها جراء الضغوط الاقتصادية الآخذة في التوغل وإجراءات الحماية المستمرة في التقلص. في المغرب، تسود مخاوف مألوفة من تعرض الطبقة الوسطى للانقراض. وشأنه شأن غيره من بلدان العالم العربي لا يوجد تعريف محدد لهذه الطبقة. لكن الجميع يتفق على أنها الطبقة الأهم، كونها المحرك الأساس للاقتصاد.
يقول المتخصص الاقتصادي، عمر التيجاني، إن الطبقة الوسطى في المغرب هي عماد المجتمع، وتشكل النسبة الكبرى بين طبقاته الثلاث، كونها الفئة الأكثر عمالة والأعلى سداداً للضرائب في القطاعين العام والخاص. كما تسهم في تمويل الصناديق الاجتماعية والتقاعد.
ويشير إلى أنه على الرغم من معدلات الاستهلاك المرتفعة بين طبقة الأغنياء، فإن عدد أفرادها قليل. وعلى الرغم من اتساع رقعة الطبقات الفقيرة، فإن قدرتها الشرائية محدودة، بالتالي يفوق حجم إسهام الطبقة الوسطى في الاستهلاك العام مثيله لدى طبقتي الأغنياء والفقراء.
وعلى الرغم من ذلك، تعاني الطبقة الوسطى في المغرب الأمرَّين. يقول الباحث الاقتصادي عبد الإله الخضري، إنه يصعب الحديث عن طبقة متوسطة حقيقية في المغرب، فالنظام الإنتاجي ونمط الاستهلاك وسياسة الانفتاح العشوائية كلها مظاهر لا تحفز على نمو الطبقة الوسطى، وإن كانت تسهم في رفع دخول بعض الفئات المحظوظة.
ويضيف أن تداعيات الأزمة الاقتصادية التي أعقبت جائحة كورونا كانت كارثية على العناصر الحقيقية للطبقة الوسطى. في حين لم تتأثر الفئات التي تستفيد من الريع ومن المداخيل غير المشروعة، بل منها من استفاد بشكل كبير خلال الجائحة.
واعتبر الخضري أن الطبقة الوسطى هي طبقة سداد فواتير الآخرين، “فهي تسدد عن الفئات الريعية والفاسدة العالقة بها، وعلى الرغم من ذلك فمديونية الدولة تمثل الجزء الأكبر، إذ تتفاقم أزماتها الاقتصادية والاجتماعية فيسقط الكثير منها في خانة الفقر والعوز. ويرتهن مستقبل الأجيال القادمة بيد المؤسسات البنكية الدولية الدائنة، والحبل على الجرار”.
خلاف حول التصنيف
وكما هو متوقع، فإنه لا يوجد تعريف محدد للطبقة الوسطى في المغرب. يقول الخضري إن “المندوبية السامية للتخطيط (الحكومية) تعتبر نحو 67 في المئة من ساكني المناطق الحضرية ضمن الطبقة الوسطى، لكن بعملية حسابية بسيطة فإن تكلفة السكن والتعليم والسيارة والعلاج مع بعض الكماليات تحتم ألا يقل دخل الأسرة من أربعة أفراد عن عشرة آلاف درهم (نحو 1000 دولار) في الشهر، أو 20 ألف درهم لأسرة من ستة أفراد”. ويضيف أن نسبة من يحظون بمثل هذا الدخل في المغرب لا تتعدى عشرة في المئة من السكان.
ويحذر الخضري من الاكتفاء بمعيار متوسط الدخل، لأنه غير كافٍ، “وهناك الكثيرون من أبناء الطبقة الوسطى يعيشون على الريع وإنتاجيتهم معدومة إن لم نقل سلبية على الاقتصاد الوطني وعلى التنمية المستدامة. وقال إن من يحظى بدخل مرتفع من دون أن يسهم في الدورة الاقتصادية الطبيعية، بل ربما يمارس أنشطة ضارة بالاقتصاد لا يمكن إدراجها في الطبقة الوسطى، وهؤلاء كثر في المغرب.
وتتواتر أزمات الطبقة الوسطى في المغرب، ويحذر مراقبون من تهميش هذه الطبقة في السياسات العامة للدولة، بخلاف الطبقة الفقيرة التي تستفيد من الدعم عبر البرامج الاجتماعية، أو الطبقة الغنية التي لا تؤثر فيها الأزمات وتجد مخرجاً لها من الأزمات.
منحنى الأزمات في لبنان
حديث الأزمات ممتد في أرجاء العالم العربي. وفي لبنان يتخذ منحنى الأزمات أشكالاً حادة ووتيرة متسارعة. ظلت الطبقة الوسطى في لبنان تكافح من أجل الحفاظ على مستوى معقول من المعيشة. ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 ثم انفجار المرفأ في 4 أغسطس (آب) 2020، ومعهما تداعيات وباء “كوفيد-19” أسهمت في إنهاء آمال هذه الطبقة بتحسن الأوضاع.
زاد تآكل الطبقة الوسطى وسقط منها كثيرون في فخ الفقر. أما الطبقات الفقيرة فقد أصبحت معتمدة بشكل شبه كامل على صناديق “الإعاشة” من الجمعيات الأهلية والدولية، وذلك جراء تفاقم أزمة البطالة ومعدلات الفقر. وقد انعكس ذلك في ارتفاع معدلات الإقبال على الهجرة.
وبحسب إحصاء لـ”الدولية للمعلومات” (شركة بحوث واستشارات مقرها بيروت) وصل عدد اللبنانيين المهاجرين والمسافرين منذ بداية عام 2021 وحتى منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 نحو 78 ألف شخص، مقارنة بنحو 18 ألفاً في عام 2021. كما بلغ عدد اللبنانيين الذين هاجروا وسافروا من لبنان بين عامي 2018-2021 ما يزيد على 195 ألف لبناني.
تفاقم الفقر هو السبب الرئيس الذي يدفع اللبنانيين إلى المغادرة. وبحسب أحدث إحصائية صادرة عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “الإسكوا” طال الفقر 74 في المئة تقريباً من مجموع السكان. وبالنسبة إلى الجوانب الأخرى، كالصحة والتعليم والخدمات العامة، فتصل نسبة الذين يعيشون في فقر متعدد الأبعاد إلى 82 في المئة، فيما بلغت نسبة الفقراء في عام 2020 نحو 55 في المئة من السكان. وكل ما سبق يعني تضاؤلاً وانكماشاً غير مسبوقين للطبقة الوسطى في لبنان بعد عقود قامت فيها بدور محرك الاقتصاد وضمان لاستقرار ولو نسبي.
طبقتان في السودان
وعلى الرغم من بعد المسافات، فإن أوضاع الطبقة الوسطى في السودان لا تختلف كثيراً. فبعد عقود أيضاً من العطاء الكبير في السياسة والاقتصاد واستقرار المجتمع، اختفت أو كادت بعد ما هيمنت طبقتان فقط على المجتمع السوداني. الأولى ثرية متضخمة منعزلة عن المجتمع ولا تتفاعل مع قضاياه. والثانية مطحونة تعيش على الحافة منشغلة بتوفير أساسيات العيش والبقاء على قيد الحياة، وتمثل الغالبية العظمى من المجتمع.
وزير الدولة السابق في وزارة المالية عز الدين إبراهيم يشير إلى أن “حدوث التنمية في أي بلد يخلق قطاعاً معتبراً من الطبقة الوسطى التي تتمثل في أصحاب المهن العليا مثل الأطباء والمهندسين والمحامين والسفراء والقضاة وغيرهم، فضلاً عن أصحاب الحرف التي عليها طلب عند المجتمع وتحظى بوضع مادي مريح”.
ويضيف أن هذه الطبقة ظهرت في السودان في عشرينيات القرن الماضي مع بداية العمل بمشروع الجزيرة الزراعي وتشغيل سد الروصيرص، وذلك تزامناً مع التوسع في البنية التحتية من كهرباء وطرق ومستشفيات ومدارس.
التضخم عدو لدود
الطبقة الوسطى في السودان، كغيرها من الدول العربية، تضمن الاستقرار وتنمي الثقافة، وبينها من دخل معترك السياسة وقاد دفة حكم البلاد مثل الرئيس إسماعيل الأزهري أول رئيس للسودان بعد الاستقلال 1956 الذي كان معلماً، وكذلك رئيس الوزراء بعد الاستقلال محمد أحمد المحجوب الذي كان محامياً، لكن سرعان ما حدثت انتكاسة لهذه الطبقة في سبعينيات القرن الـماضي.
ويسرد عز الدين إبراهيم ما جرى للطبقة الوسطى من تدهور كبير، فيقول إن التحولات والتطورات الدولية والإقليمية في السبعينيات، وحرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 وما صاحبها من ارتفاع سعر النفط وانخفاض إيرادات مشروع الجزيرة عوامل أدت إلى خفض قيمة الجنيه السوداني للمرة الأولى في 1978، وارتفاع معدلات التضخم الذي يعتبر العدو اللدود للطبقة الوسطى لأن معظم دخولها ثابتة.
التردي الاقتصادي دفع كثيرين من أبناء الطبقة الوسطى في السودان إلى الهجرة. لذلك شهدت نهاية السبعينيات هجرة عدد كبير من الكفاءات إلى دول الخليج. لكن استمرار معدلات التضخم أصاب الطبقة الوسطى في مقتل. ولم تأتِ الثمانينيات بما هو أفضل، بل حدث العكس. يقول إبراهيم إن الطبقة الوسطى أصبحت من الطبقات المسحوقة.
الباحث الاقتصادي، هيثم محمد فتحي، يؤكد اختفاء معالم الطبقة الوسطى المميزة بانفتاحها على العالم والعلم، ولم تعد منشغلة بالتنوير، إذ أضنتها التكلفة الفلكية لمتطلبات الحياة وأبرزها التعليم.
ويتفق السودان مع غيره من الدول العربية في صعوبة وضع معايير للطبقة الوسطى غير مستوى الدخل أو معدلات الإنفاق على بنود مثل التعليم والصحة والترفيه.
ويوضح فتحي أن الطبقة الوسطى تتحمل حالياً أعباء تعليم الأبناء والعلاج بعد تراجع دور الدولة، إضافة إلى تكبدها عناء الغلاء والتضخم، وهو ما يجعل معاناتها من أجل البقاء مضاعفة. وهذه مخاطر لا تواجهها الطبقة الوسطى وحدها، بل يدفع ثمنها المجتمع كله الذي كان يعتمد عليها عنصراً للاستقرار وقوة محركة للإنتاج والاستهلاك وعاملاً مقوياً للثقافة والسياسة والإصلاح وإنتاج النخب، ما يصنع فراغاً مقيتاً.
صمود في الأردن
وفي الأردن سمة الطبقة الوسطى الصمود. هذه الطبقة الصغيرة التي لا تتعدى نسبتها 20 في المئة من مجموع الأردنيين، أي نحو 1.4 مليون شخص آخذة في الاضمحلال كقريناتها العربية. وعلى الرغم من ذلك، فهي لا تزال صامدة في وجه السياسات الاقتصادية التي حولت أغلب الأردنيين إلى طبقتين هما الفقراء والأغنياء.
ويظل تعريف الطبقة الوسطى في الأردن كغيرها قيد الاختلاف. مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية موسى شتيوي يقول إن الطبقة الوسطى تعرف من خلال علاقتها بغيرها، فهي ليست البورغوازية المالكة، أو العاملة التي تتقاضى أجوراً، لافتاً إلى أنها تتمتع بدرجة معينة من الاستقلالية في عملها. والطبقة الوسطى هي الأكثر إنفاقاً في المجتمعات، وتؤثر مباشرة في حجم الاقتصاد ونموه، كما أنها الأكثر تعاملاً مع البنوك، والأكثر حصولاً على قروض، والأكثر استهلاكاً.
كما أن هذه الطبقة قوة ضاربة للعمل النقابي والحزبي والسياسي، فهي الأكثر مشاركة في الانتخابات البرلمانية والبلدية، وهي عماد الحياة السياسية.
وعلى مدى سنوات طويلة والضرائب والرسوم تتكالب على جيوب أبناء الطبقة الوسطى، ثم جاءت الجائحة لتسهم في تسرب المزيد منها نحو الطبقات الفقيرة وهي الطبقات الآخذة في النمو والاتساع. وتقدرها الإحصاءات الرسمية بنحو 40 في المئة من السكان، ثم أتت الجائحة لتمثل قوة ضغط مضاعفة.
خبراء الاقتصاد يلقون باللائمة على سياسات حكومية عدة تسببت في تلاشي الطبقة الوسطى، بينها التنمية غير المتوازنة التي لم تنعكس آثارها الإيجابية على الجميع بشكل متساوٍ أو متوازن، بالإضافة إلى النظام الضريبي الذي يرى مراقبون أنه كان أكثر استهدافاً للطبقة الوسطى عن غيرها.
وتشمل هذه الطبقة في الأردن معظم الموظفين الحكوميين الذين يشكلون نحو 40 في المئة من القوى العاملة. وعلى الرغم من ذلك، فكثيرون منهم اليوم يتوجهون صوب الطبقات الفقيرة لأسباب اقتصادية واضحة.
الغريب أن الحكومة الأردنية تعرف الطبقة الوسطى بأنها تلك التي يتراوح إنفاقها ما بين (ألف-1600) دولار شهرياً، ما يعني أن الفئة المعنية بتحقيق التوازن المجتمعي وتشكيل المزاج الاجتماعي العام وحماية القيم الاجتماعية والثقافية من الانهيار مهددة بالانهيار.
تراجع مذهل في العراق
انهيار آخر يجري الحديث عنه في العراق، لكن للعراق خصوصية فرضتها الأحداث السياسية والأمنية والاقتصادية الجسام على مدى ما يزيد على ثلاثة عقود. فالطبقة الوسطى العراقية أسهمت كغيرها في نمو الاقتصاد والاستقرار الاجتماعي والتنمية منذ تأسيس الدولة الحديثة في عشرينيات القرن الماضي.
لكن هذه الطبقة تعرضت لتراجع مستوى معيشي مذهل، وشهدت انتكاسة كبرى خلال فترة العقوبات على العراق، بعد غزوه الكويت، وهو ما جعلها تتقلص بشكل كبير بين عامي 1991 و2003، قبل أن تعود إليها الحياة بعد رفع العقوبات وزيادة أجور موظفي الدولة الذين يشكلون النسبة الكبرى من هذه الطبقة.
وعلى الرغم من عودة الطبقة الوسطى إلى الواجهة خلال السنوات التي تلت عام 2003، بفعل ارتفاع الإيرادات النفطية، فإنها تواجه منذ عام 2014 مشكلات بسبب الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد خلال الحرب ضد تنظيم “داعش”، ومن ثم الأضرار التي تسببت بها جائحة كورونا.
هذه الطبقة -عبر نخبها المثقفة- لعبت دوراً مهماً في كل التغيرات السياسية التي حدثت في العراق، إذ أسهمت في نشوء بعض الحركات السياسية في ظل الصراع المحموم على السلطة، لا سيما بعد إسقاط الحكم الملكي في العراق عام 1958، وما تبعه من صراعات وانقلابات مرت على البلاد. وقد نمت الطبقة الوسطى في العراق واتسعت وانتعش دورها في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، لا سيما بعد تأميم النفط عام 1972.
تقول المتخصصة في الشأن الاقتصادي، سلام سميسم، إلى أن بدء انحسار الطبقة الوسطى حدث بعد الحصار الاقتصادي عام 1991، مشيرة إلى أن أبناء هذه الطبقة هم من يحصلون على دخول ثابتة، وهم من تأثروا كثيراً بانخفاض قيمة الدينار، ما أدى إلى انتقال جزء كبير منهم إلى الطبقة الفقيرة.
وتحذر سميسم من “استمرار انحسار الطبقة الوسطى وتحولها كلها إلى فقيرة، إذا ما استمرت السياسات الاقتصادية المغلوطة التي تكون بعيدة من إجراءات الرفاهية الاقتصادية”، لافتة إلى أن “فئات واسعة من الطبقة الوسطى هي من المتعلمين والمثقفين، وهي التي تصوغ قيماً اجتماعية وتشارك في التغيير، وانحسارها يؤثر سلباً في قيم المجتمع”.
وتقول سميسم إن ما جري في العراق بعد عام 2003 أدى إلى تشوه هيكلي في المجتمع العراقي، إذ صعدت طبقات أخرى، وارتفعت المداخيل وزادت القوة الشرائية، لكن ذلك لم يترافق مع تطور ثقافي وعلمي يسهم في تطوير قدرات الشعب.
من جهة أخرى، يقول المستشار المالي لرئيس مجلس الوزراء، مظهر محمد صالح، أن الطبقة الوسطى تشكل 60 في المئة من العراقيين، والفقيرة 30 في المئة والأغنياء عشرة في المئة.
طبقة انتقالية
أما رئيس “مركز العراق للدراسات الاستراتيجية”، غازي فيصل، فيرى أن “الطبقة الوسطى هي طبقة انتقالية ينتقل إليها البشر من حالة الفقر أو البطالة عبر التعليم والعمل”، لافتاً إلى أن “مدينة الثورة” (الصدر حالياً) الفقيرة، هي مثال على ذلك، لكونها قدمت أساتذة جامعيين وأكاديميين وتجاراً وأصحاب مصالح، انتقلوا من الطبقة الفقيرة إلى الطبقة الوسطى”.
ويلفت فيصل إلى غياب المعلومات عن نسبة الطبقة الوسطى في العراق، مشيراً إلى أنه “من الممكن إطلاق تسمية الطبقة الوسطى على الموظفين، على الرغم من أن وضعهم مرتبط بالرواتب الحكومية”.
لكنه في الوقت نفسه يقول إن “الطبقة الوسطى دمرت من خلال تدمير الصناعة”. ويضيف أن أبناء هذه الطبقة مدوا جسوراً إلى الحياة السياسية عن طريق الأحزاب بعد عام 2003، مشيراً إلى وجود أعداد ليست قليلة من الموظفين مرتبطين بأحزاب سياسية”، معللاً ذلك بوجود “مصلحة”، منها مثلاً “الحصول على وظيفة حكومية أو على امتيازات”. ويرجح أن يكون للطبقة الوسطى “دور في المستقبل في التغيير، لكونها تضم كفاءات، وإن كانت المشكلة الأساسية في العراق هي عدم وجود دولة مؤسسات، وعدم إنصاف الكفاءات”.
خصوصية اليمن
خصوصية أخرى تفرض نفسها في اليمن المنكوب بحربه وسنوات الاقتتال الدامي. هذه السنوات أثرت كثيراً في الطبقات الفقيرة، ثم ألحقت بها الوسطى التي كانت محل توازن موضوعي كفئة منتجة ظلت بمثابة الدرع للفئات الأشد فقراً.
ويقول الباحث الاقتصادي عبد الواحد العوبلي إن وصف هذه الطبقة بالوسطى خلال العقود الماضية وصف غير دقيق في اليمن، ولكن يمكن القول إنها طبقة حافظت لفترة ليست بالقصيرة على التركيب الاقتصادي المرتبط بدخل الفرد اليمني المنخفض أساساً.
ويرى العوبلي أن الطبقة الوسطى في المجتمع اليمني مثلت الركيزة الأساسية للنظام الاقتصادي في البلاد كمصدر استقرار، كونها القوة المنتجة التي يستقر بها حال الاقتصاد، ويستقيم بها عمود منظومته في بلد أضحت خياراته الاقتصادية محدودة، إن لم تكن معدومة، بسبب الظروف القاسية التي فرضها الصراع. ويضيف “وإن وجدت موارد، فسوء الإدارة أضاف إليها عبئاً دفع إلى اختفائها وإلحاقها بالفئات المطحونة”.
وتشير تقارير صادرة عن الأمم المتحدة، “يجلس على رصيف البطالة في اليمن 80 في المئة من السكان، أي نحو 13 مليون عامل، بعد أن فقدوا وظائفهم وأعمالهم بسبب الحرب، 30 في المئة منهم من الموظفين الحكوميين الذين لم يتسلموا رواتبهم منذ نحو ثلاث سنوات”.
ويسرد العويلي جملة من العوامل التي دفعت بهبوط الفئة المجتمعية الوسطى نحو الفقيرة، يقول “أبرز العوامل الحرب جراء الانقلاب الحوثي، وما نجم عن ذلك من نتائج تمثلت في نهب موارد البلاد وسرقة مليارات الدولارات من الاحتياطي النقدي ورواتب الموظفين، فضلاً عن نهب موارد الدولة المقدرة بمليارات الريالات من الضرائب والجمارك والإتاوات والزكاة بشكل يومي، وهو ما أنتج مجاعة حقيقية أنهكت أكثر من ثلثي السكان المقدر عددهم بنحو 32 مليون نسمة. ولهذا انزوت هذه الفئة عن مشهد التركيبة الاقتصادية لتهوي إلى قاع الفئة المعدمة والأشد فقراً”.
أما العوامل التي وصفها بـ”الثانوية” فمنها توالي الأزمات السياسية والاقتصادية التي عاشتها البلاد قبل الانقلاب الحوثي، نتيجة السياسات والمعالجات الخاطئة التي تنتهجها الحكومات المتعاقبة، وتسببت في الارتفاع المتصاعد لأسعار الغذاء والإعاشة، والارتفاع المتنامي لتكلفة الخدمات الأساسية والوقود ومياه الشرب والغاز المنزلي، يقابله الانقطاع التام للمرتبات والأجور.
كما أسهم انهيار القيمة الشرائية للعملة الوطنية في تدهور معدل الدخل، يقابله الارتفاع الجنوني لأسعار الغذاء والخدمات الأساسية، الأمر الذي أدى إلى عدم تماسك الطبقة الوسطى التي كانت غير متماسكة أصلاً.
جائزة نوبل في التماسك
قدرة الطبقة العربية الوسطى على البقاء على قيد الحياة على الرغم من كل ما تكابده من ضغوط جديرة بجائزة نوبل في التماسك. ربما يخفف عنها قليلاً أن الطبقة الوسطى في العالم كلها في الهم سواء. رحلة مضنية تخوضها طبقات العالم الوسطى القابعة في منتصف الهرم بين بحث عن هوية مفقودة، وتعريف يجمعها، ومعايير تحددها، وعقبات تعترضها وتهددها بالانقراض وربما الفناء، ومصير بين يدي الساسة وصناع القرار.
المؤكد أن الطبقة الوسطى لم تحسم أمرها بعد إن كانت تفضل أن يحكمها معيار اقتصادي من يحيد عنه ينزلق إلى أسفل أو يتم تصعيده إلى أعلى، أم مقياس علمي وبالتالي مهني لا يسمح فيه بالتهاون أو الاستثناء، أم أن الطبقة الوسطى ما هي إلا حالة شعورية أو مزاجية تحكمها تطلعات معينة ويحددها نمط ثقافي وسلوكيات متفردة؟
لكن المحسوم عربياً هو أنها تعاني فقداناً حاداً في الدور الأصلي المكتوب لها باعتبارها صانعة تنوير ومحفزة تطوير وقائدة تنمية، مع هزال ناجم عن ضغوط اقتصادية واجتماعية مضنية مع استنزاف مستمر للجيوب ونقص حاد في اهتمام الأنظمة بها والنظر لها بعين الاهتمام، على الرغم مما قدمته لها من ضمانات استمرار ودعامات استقرار.
مال وتعليم وأفكار
يشير تقرير أنجزه “معهد بروكينغز” الأميركي عنوانه “تعريف الطبقة الوسطى” (2018) إلى أن تعريفات الطبقات، بما فيها الوسطى، لا يخرج عن ثلاثة معايير: الموارد الاقتصادية، والتعليم، والثقافة والسلوك. وقبل الحصول على أوراق الاعتماد من أجل التصنيف الطبقي، يتحتم الاطلاع على الرصيد المصرفي، والسيرة الذاتية، بالإضافة إلى الاطلاع على ما يدور في رأس المتقدم من أفكار.
لكن الواقع في الدول العربية يشير إلى أن أوراق الاعتماد المطلوبة في حالة فوضى عارمة. فمن كان يصنف طبقة متوسطة بالأمس القريب انزلق إلى الطبقات الدنيا اليوم. ومن كان في الدنيا، تسلق السلم وتبوأ الصدارة على الرغم من أن ما يدور في رأسه من أفكار وما تحمله سيرته الذاتية لا تؤهله لما وصل إليه. هذا الحراك العشوائي ألقى بظلال وخيمة على هذه الطبقة المنكوبة، فمنها من يحاول أن ينفذ بجلده عبر الهجرة، ومنها من ضربه الإحباط، ومنها من يجاهد من أجل البقاء.
وعلى الرغم من ذلك، تبقى هذه الطبقة العظيمة المجاهدة من أجل البقاء رمانة ميزان المجتمعات وضمان استقرار الأوطان والمسؤول الأول عن سداد فواتير الجميع.
المصدر: اندبندنت عربية