مزاج الروس لا يوافق بوتين في سياسة شفير الهاوية

راغدة درغام

المخاطر جسيمة في لعبة شفير الهاوية بين قيادات حلف شمال الأطلسي “الناتو” والقيادة الروسية المتمثّلة بالرئيس فلاديمير بوتين الذي يواجه العزل بسبب غزوه أوكرانيا. الخسائر الفادحة تحدّق بأوكرانيا وبروسيا على كل المستويات. لكن تطوّر الحرب الروسية على أوكرانيا الى حرب عالمية بين روسيا والغرب لن يحصر الدمار والضرر بأوكرانيا وروسيا بل سيؤدّي، في نظر فلاديمير بوتين، الى تغيير قواعد اللعبة والى تراجع الغرب. خطورة هذا الرهان تكمن في جزم الرئيس الروسي أن التصعيد وحده هو الذي سيُخرِج روسيا منتصرة في حربها الأوكرانية، وأن الحرب العالمية بأدواتها النووية والصاروخية ستمحو انطباع الخسارة الروسية في العمليات العسكرية على الأرض الأوكرانية. الأسبوعان المقبلان مهمّان جداً في ساحة الحرب كما في مصير روسيا، وعلى فلاديمير بوتين أن يتخذ قراراته بوضوح نظراً لتململٍ في صفوف المؤسسة العسكرية وكذلك على صعيد الرأي العام داخل روسيا الذي قد يلوم الغرب على استفزازه وعقوباته وتدميره للاقتصاد الروسي، لكنه لا يريد أن يأخذه بوتين الى الهلاك في مغامرةٍ نرجسيّة.

قد يرى الرئيس بوتين أن الرئيس الأسبق ميخائيل غورباتشوف هو الذي دمّر الاتحاد السوفياتي نتيجة نوعيّة علاقاته مع الولايات المتحدة والغرب أدّت الى تفكيك الاتحاد السوفياتي وتقليصه الى روسيا الاتحادية. اليوم، يبدو للأكثرية أن فلاديمير بوتين هو الذي يدمِّر روسيا نتيجة مغامرته الأوكرانية ونوعيّة علاقاته مع حلف “الناتو” والولايات المتحدة أقلّه لأنه أوقع نفسه في المصيدة وتصرّف باعتباطية لم تكن جزءاً من طبيعته.

الغرب اليوم متّحد كما لم يسبق له، وكذلك مستوى التنسيق بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية. بالأمس كانت عضوية أوكرانيا في حلف “الناتو” خطّاً أحمر لروسيا، واليوم قد تتوسّع العضوية في حلف شمال الأطلسي لتشمل فنلندا والسويد ودول أخرى بما يؤدّي الى تطويق روسيا كليّاً. أتى ذلك نتيجة المغامرة البوتينية التي كان في وسع الرئيس الروسي تجنّبها، وربما أتت نتيجة تضليلٍ وسوء حسابات وسوء تقديرٍ في المؤسسة العسكرية والاستخبارية بل والدبلوماسية أيضاً.

الغرب يرى أن تماسكه في فرض الضغوط الاقتصادية على روسيا والعقوبات على رئيسها ومؤسسته العسكرية والدبلوماسية سيؤدّي الى تغيير في الحياة السياسية داخل روسيا، أي الى تغيير في النظام. لا تعترف القيادات الغربية علناً بهذا المسعى، لكن مسار هذا التماسك واضح وهدفه اليوم هو إزاحة فلاديمير بوتين عن السلطة بخطوات مدروسة تشمل الأخذ في الاعتبار مزاج الشعب الروسي والمؤسسة العسكرية الروسية، وتشمل أيضاً إجراءات عزلٍ دولية تجمّد حركة ودور بوتين وروسيا في المحافل الدولية.

إذا استمر هذا التماسك في السياسات والإجراءات الغربية، وإذا استمر الرئيس الروسي في الاعتقاد الخاطئ أن التصعيد هو لصالحه لأنه يؤمن أن في وسعه الانتصار في الحرب الأوكرانية، قد ينجح الغرب في تغيير النظام في روسيا. المشكلة أن ذلك سيكون عبارة عن عبور الخطوط الحمر وسيؤدّي الى انتقام ضخم على أيادي بوتين. هذا إذا لم يؤدِ التماسك والإنذار بأن هذه هي الفرصة الأخيرة، إلى قيام بوتين بإعادة النظر والتراجع- الأمر الذي ما زال مستبعداً، بل لربما مستحيلاً لأن بوتين رجل لا يستسيغ حشره في الزاوية.

الأمور ستسوء إذا وجد بوتين نفسه في ورطة مزدوجة غير قادرٍ على الانتصار عسكرياً وغير قادرٍ على الانسحاب الكامل من المفاوضات السياسية بالرغم من أنها وصلت إلى الحائط المسدود. ماذا سيفعل؟

لربما الوضع الداخلي الروسي هو وحده الذي قد يحول دون استخدام الورقة النووية. أحد المصادر الروسية المطّلِعة قال: “إن مأساة اليوم هي أن الناس فقدوا الإيمان والثقة بالجيش الروسي، وهم يعتقدون أن تعرية الجيش الروسي فاجعة”. وأضاف: “أن استخدام السلاح النووي سيزيد من عزل روسيا وتحطيم صورتها- والرأي العام الروسي لن يقف متفرجاً”. ثم إن المؤسسة العسكرية مستاءة وهناك توتّر في صفوفها، إذ يعتبر جزء منها، حسبما أكد مصدر وثيق الاطلاع، أن الانسحاب العسكري الروسي من العاصمة الأوكرانية، كييف، كان خطأً أثار كراهيّة شعبيّة للجيش الروسي. وأضاف المصدر أن هناك جدالاً حول “ما العمل في الأراضي الأوكرانية المحرّرة في دونباس. ما هي صفتها الشرعية؟ هل هي جزء من روسيا أم ستبقى جزءاً من أوكرانيا وأي عَلم يُرفع هناك؟ من سيدفع نفقات إعادة الإعمار فيها؟ ما هي العملة التي سيتم استخدامها هناك، إذ إن الروبل الروسي ليس مُعتَمداً في ذلك الجزء من أوكرانيا؟” هذه أسئلة جوهرية تبقى مشكلة أساسية في أذهان الروس. ولذلك التساؤلات، ومطالبة الرئيس الروسي بإيضاح ما في ذهنه.

السياسة الروسية مبعثرة على كل الأصعدة، والروس يريدون أن يحدّد فلاديمير بوتين خياراته ويوضّح لهم الى أين يأخذهم الآن.

دبلوماسياً، تراجع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن الانطباع الذي سعى وراء ترويجه حول تقدّم المفاوضات السياسية مع أوكرانيا في إسطنبول، واتهم أوكرانيا بالتراجع عمّا كانت تعهّدت به. البعض يعتقد أن لافروف تعمّد التضليل لأنه كان يخشى وطأة الاعتراف بالمعضلة على الرأي العام الروسي والعالمي.

الغرب انتصر في الحرب الإعلامية بعدما كان اتقن الحرب الاستخبارية التي فضحت الخمول الروسي داخل أوكرانيا. في الوقت ذاته، أتى أداء الجيش الروسي ليدهش العالم. ثم أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي شنّ حملةً في المحافل الدولية لم تكتفِ بتعرية ما تقوم به روسيا في أوكرانيا، وإنما شَملت تعرية التقصير في الدعم الغربي لأوكرانيا.

بالرغم من ذلك، توجّه الوفد الأوكراني الى طاولة المفاوضات مع روسيا ولديه ورقة واضحة بمطالبه وبهوامش الأخذ والعطاء. الوفد الروسي توجّه الى الطاولة بلا ورقة متعمّداً المواربة. رد الطرف الأوكراني مطالباً بإيضاح الأهداف الروسية على طاولة المفاوضات. وعندما تجاهلته موسكو، عدّل مواقفه التي وصفها لافروف بأنها شكّلت تراجعاً. حقيقة الأمر هي أن لا مجال على الإطلاق للحل الديبلوماسي طالما أن الرئيس الروسي ما زال يعتقد أن الانتصار العسكري في متناوله، وأن الفائز يأخذ كل شيء.

الرأي العام الروسي ليس متحمّساً ولا هو متّحد وراء ضم دونباس، كما كان وراء ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، بل إن هناك أزمة كبيرة تتربّص لروسيا في الدونباس حيث يتواجد 62 ألف عنصر من الجيش الأوكراني. والسؤال هو ما العمل بهم وما هي استراتيجية بوتين نحوهم؟ وماذا لو قرّر الرئيس الروسي أن لا مناص من سحق أكثر من 60 ألف عسكري وتدمير المدن الأوكرانية تدميراً تاماً؟ ماذا يحدث للرأي العام العالمي؟

بل كيف سيؤثّر ذلك في مواقف الدول التي حاولت أن تبقى على الحياد في المعركة بين الغرب وروسيا؟ الأرجح أن هذه الدول ستضطر للانجرار الى مواقف جديدة على ضوء سحق المدن الأوكرانية وازدياد توثيق جرائم الحرب. وبالتأكيد سيزداد عزل روسيا في المحافل الدولية على نسق تعليق عضويتها في مجلس حقوق الإنسان. أمام مثل هذا الانسياق، لن تتمكن الدول التي تفضّل الحياد أن تبقى “محايدة”، بل ستضطر للالتحاق بالأكثرية العالمية. وهذا سيحدث في غضون أسابيع قليلة.

الروس لا يريدون العزل لروسيا. الروس لن يخرجوا في تظاهرات ولن يتمردوا بثورات. الروس لديهم طريقتهم الخاصة بهم للاحتجاج التي تتطلّب المراقبة الدقيقة. وحسبما شرح روسي مخضرم، أن الفترة ما بين 1 – 10 أيار (مايو) هي تقليدياً عطلة وطنيّة في روسيا تبدأ بعيد العمال وتنتهي في 9 أيار (مايو) بعيد النصر- إشارة الى الانتصار على النازية وهو التاريخ الذي يُذكر اليوم في إطار موعد الانتصار على “النازية الجديدة” في أوكرانيا. سيكون بوتين مضطراً الأسبوع المقبل، قبيل العطلة الوطنية، لاتخاذ قراراته النهائية وشرحها أمام الرأي العام، حسب رأي المخضرم المقرّب من صنع القرار في روسيا.

الواضح أن لا مجال لتحقيق الانتصار في أوكرانيا قبل 9 أيار (مايو). والواضح أن العقوبات الشخصية ستزداد على بوتين كما العقوبات المدمرة على روسيا. والواضح أن دول الغرب، وبالذات الولايات المتحدة، ترى أن تكاتف العقوبات والعزل وتحويل بوتين الى شخصية مرفوضة عالمياً ستؤدّي الى بداية نهاية “البوتينية”. فماذا قد يفعل فلاديمير بوتين؟

الخوف أن فلاديمير بوتين سيقرّر بين شن هجوم عسكري ضخم في أوكرانيا ليستولي على كييف والمدن الرئيسية وينتصر، وبين تدمير أوكرانيا كلياً بالصواريخ وأسلحة الدمار الشامل إذا رأى الهزيمة أمام عينيه. أخذ الأمور الى شفير الهاوية يبدو أداة من أدوات استراتيجية بوتين- لأنه يعتقد أن الغرب حينذاك سيأخذ خطوة الى الوراء ويتراجع. حتى وإذا لم تتمكّن روسيا من الفوز، فالتصعيد حتى شفير الهاوية سيسبّب الأخطار الفادحة للغرب. وهذا مفيد في رأي الرئيس الروسي الذي قد يقرّر أنه لن يسقط بمفرده الى قاع الهاوية.

يوم 9 أيار (مايو) المقبل قد يكون موعداً مع الكارثة والمآسي، وليس يوم النصر والاعتزاز لروسيا. مزاج الروس المتململ لأن الحرب الأوكرانية مزّقت نفوذ روسيا وهيبتها وثقلها في المحافل الدولية كما مزّقت ذلك الاعتزاز والفخر والكبرياء الروسي. مزاج الروس مزاج ألم وحيرة ومطالبة الرئيس فلاديمير بوتين بأن يتفضّل ويشرح خريطة الطريق التي في ذهنه والى أين ينوي الأخذ بالروس وبروسيا.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى