لم تتردّد أغلب العواصم الغربية في إدانة ما وصفتها بأنها “جرائم حرب”، غداة اكتشاف عشرات الجثث في منطقة بوتشا الأوكرانية بعد انسحاب قوات روسية منها. ولم ينتظر قادة غربيون في وصف تلك الجرائم بالمروّعة والمطالبة بمعاقبة المجرمين، في إشارة إلى الجنود الروس. وذهب الرئيس الأميركي، جو بايدن إلى وصف نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، بأنه “مجرم حرب”. وبادرت عواصم غربية في طرد دبلوماسيين روس. وقد ينتهي هذا التصعيد في الحرب الإعلامية إلى إغلاق السفارات الروسية في أكثر من دولة غربية. أما روسيا فاعتبرت الصور ومقاطع الفيديو المروّعة خدعة كبرى من خدع الحروب، لجأت إليها السلطات الأوكرانية لتشويه سمعة الجيش الروسي، وتأليب الرأي العالمي ضد الغزو الروسي. وفي المقابل، رفض مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، التعليق على أسباب وفاة المدنيين في بوتشا وظروفها، واكتفى بالقول إن المشاهد والصور الآتية من تلك البلدة تثير تساؤلات جدّية ومقلقة عن جرائم حرب محتملة، وانتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني، لكنه لم يحدّد بعد المسؤول عنها.
نحن إذن أمام أكثر من رواية بخصوص هذه الجرائم البشعة والمُدانة، والضحية الكبيرة بين تضارب هذه الروايات هي الحقيقة التي سيكتبها في النهاية المنتصر في هذه الحرب. لكن هذا لا يجب أن يخفي عنا الجرائم البشعة التي يرتكبها يوميا في هذه الحرب المجنونة الجنود الروس والأوكرانيون على حد سواء، رغم أن الجانب الروسي يتحمّل المسؤولية الكبيرة في كل ما يجري، لأنه من بادر إلى شنّ هذه الحرب، ويصرّ على مواصلتها وتجريب كل أسلحته الفتاكة فيها.
سبق أن كشفت لنا هذه الحرب عن مفارقات صارخة، وهي تكشف كل يوم عن مفارقاتٍ جديدة، وأحدثها رد فعل الدول الغربية على ما وصفتها “جرائم حرب” في بوتشا، وذلك حتى قبل أن تقرّر الأمم المتحدة فتح تحقيق في الصور والفيديوهات المروّعة الآتية من المنطقة المنكوبة. قد تكون تلك الجرائم حقيقية، رغم أن تحديد المسؤولين عن ارتكابها يبقى مسألة معقدة وصعبة قد تستمر سنوات قبل تحديد هوياتهم، وسنوات أخرى قبل إدانتهم. لكن عواصم غربية كبرى استبقت كل التحقيقات، وأصدرت أحكامها القطعية التي تدين الجانب الروسي، وتحمّله مسؤولية ما جرى. كما قد تكون تلك الصور والفيديوهات البشعة مجرّد خدعة كما سبق أن جرى في بلدة تيميشوارا في رومانيا في أثناء الثورة الرومانية عام 1989 التي أطاحت الديكتاتور تشاوتشيسكو، فقد نشرت وسائل إعلام غربية آنذاك صورا مفبركة لجثث منثورة في شوارع المدينة، للإشارة إلى بشاعة القمع الذي واجه به الديكتاتور الروماني انتفاضة شعبه ضده. وبعد عدة أسابيع ستنكشف الخدعة، فالجثث كانت لموتى توفوا قبل الثورة، وجرى إخراجها من برّادات الموتى في المستشفى ونثرها في الشارع لتأليب الرأي العام المحلي والعالمي ضد الديكتاتور الذي نفذ فيه الإعدام هو وزوجته رمياً بالرصاص بعد محاكمة رمزية سريعة في ثكنة عسكرية!
إذا كانت مثل هذه الخدعة قد حدثت قبل ثلاثين عاما من حلول زمن الأخبار المزيفة ووسائل التواصل الاجتماعي، فما بالك بما يمكن أن يحصل اليوم؟ وهذا ليس دفاعا عن الغزو الروسي لأوكرانيا، المدان مبدئيا وأخلاقيا، وإنما للفت الانتباه، مرة أخرى، إلى ازدواجية المعايير الغربية التي فضحتها هذه الحرب وعلى أكثر من مستوى، فالعواصم الغربية التي ترفع اليوم صوتها عاليا لإدانة جرائم الحرب الروسية المحتملة هي نفسها ارتكبت جرائم بشعة في الدول التي احتلتها، أو سكتت عن جرائم حرب بشعة ارتكبها حلفاؤها. هل يجب تذكير الغرب، وفي المقدمة الولايات المتحدة، بجرائمه في العراق، والقصف الأميركي البشع الذي تعرّض له ملجأ العامرية في بغداد عام 1991، وخلّف أكثر من مائتي شهيد أغلبهم من النساء الأطفال؟ هل يجب تذكير الغرب بحمايته مجرمي الحرب الإسرائيليين الذين ارتكبوا جرائم حرب وثّقتها تقارير منظمات دولية ذات مصداقية، وفتحت فيها محكمة الجنايات الدولية تحقيقات جدّية، في صبرا وشاتيلا وفي جنين وفي غزة؟
لا يمكن تبرير الجرائم ضد الإنسانية أو التغطية عليها، كيفما كانت الجهة التي ترتكبها، لكن ازدواجية المعايير، بل العنصرية، في التعاطي مع هذه الجرائم تعيق القدرة على استيعابنا مفهوم الإنسانية في المنطق الغربي. هل الإنسانية تحضر، هي وقيمها المثلى والفضلى، فقط، عندما يتعلق الأمر بالإنسان الغربي، وتحتاج تحقيقاتٍ وتحرّيات عندما يتعلق الأمر بإنسان لا ينتمي إلى جغرافية الغرب، أو عندما يكون هذا الغرب في موضع المتهم؟ أليس من مفارقات هذه الحرب أن دولا تطالب اليوم بمعاقبة مرتكبي جرائم بوتشا لم توقّع على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، مثل الولايات المتحدة وروسيا!
كل نفسٍ بشرية تستحق الأفضل، والعنف بكل أشكاله يصيبنا جميعًا في إنسانيتنا، لأنه ينزل بنا إلى أسوأ ما فينا من شُرُور، والعنف البشري منذ وجد البشر على هذه البسيطة هو أبشع أنواع العنف وأحقرها، ليس لأنه يستهدف الجنس نفسه، وهو أمر نادرا ما يحدُث بين الأجناس الأخرى، ولكن لأنه دائما ما يجد من يبرّره ويسوّغه ومن يدينه ويستنكره من جلدة بني البشر نفسها، لأن كل طرف فيه يجزم بأنه يقف على الجانب الصحيح من التاريخ، رغم أن العنف واحد، والضحية هي الإنسانية التي يُرتكب باسمها.
لا تقلّ جرائم بوتشا بشاعة عن جرائم صبرا وشاتيلا وملجأ العامرية وجنين وغزّة، وإحساسنا المشترك بالإنسانية يفرض علينا واجب إدانة كل هذه الجرائم، وفي الوقت نفسه، مشاركة الشعور بالمسؤولية والعار تجاهها. أما ازدواجية المعايير والنفاق والعنصرية والاستثناءات والانتقائية، فهي تعيق قدرتنا على احتضان إنسانيتنا المشتركة.
المصدر: العربي الجديد