أياً يكن الشكل الذي ستنتهي إليه الحرب الأوكرانية، فإن انعكاساتها على روسيا ستكون طويلة الأمد، فلا انتصار الرئيس الروسي بوتين الذي يبدو أنه بعيد المنال سيجري تسييله على شكل مكاسب سياسية واقتصادية مهمة لروسيا، ولا هزيمته ستخفّف من وقع التداعيات التي رتبتها حربه على أوكرانيا حتى اللحظة. وأول ما سيتأثر من هذه الأوضاع وجوده الخارجي، وخصوصا في سورية، سواء لجهة نقص الموارد اللازمة لإدارة هذه الساحة المتخمة بالتعقيدات، والتي تتشابك فيها المصالح المتضاربة، أو باعتبارها إحدى الساحات المرشّحة لانتقال الصراع إليها، في وقت ليس بعيدا، باعتبارها تشكل أحد أهم أركان المشروع الجيوسياسي الروسي الذي يضع الغرب نصب عينيه كسر حلقاته وتحويله إلى بقايا حطام، في حربٍ باتت تعلن عن نفسها بـ “الحرب العالمية الثالثة”، ناقصة استخدام أسلحة الدمار الشامل، على الأقل في المدى المنظور.
تتجمّع مؤشّرات عديدة على أن ضعف روسيا سيشكّل أحد المعطيات الجيوسياسية فترة طويلة من هذا القرن، إذ يبدو أن النخب الروسية التي قادت الصراع مع الغرب لم تستطع تجنّب الفخاخ التي أوقعت روسيا بها، ولم تستطع قراءة الموقف الغربي وحدوده، ولا تقدير طبيعة استجابته للتحدّيات التي تفرضها روسيا عليه. ويبدو أن الموقف الروسي انبنى على معطياتٍ غير صلبة؛ من نوع تصدّع الغرب، أو حتى تراجع روح القتال لديه، وعلى روسيا انتهاز اللحظة وعدم تضييعها، عبر إخضاع أوروبا للأمر الواقع ونزع أي فعاليةٍ أميركية في أوروبا.
وإلى حين بدء الاستنزاف العسكري المديد لروسيا، والتي يفضّل الغرب قتلها بألف جرح، شنّ الغرب حربا تعادل ضربة نووية على الاقتصاد الروسي الذي بلغ مجموع العقوبات الصادرة ضده أكثر من خمسة آلاف، وهو رقمٌ غير مسبوق في تاريخ العلاقات السياسية والاقتصادية في العصر الحديث، ما يؤشّر إلى شموليتها، والأخطر فيها استهدافها الشبكات والعلاقات التي بنتها روسيا أكثر من ثلاثين سنة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وهو ما سيستغرق وقتاً طويلاً لإعادة بنائها وإعادة تفعيلها، وغالباً ستكون عبر شروط مكلفة بالنسبة لروسيا.
كيف يمكن للمعارضة السورية استثمار هذه المتغيرات؟ تعدّ هذه المعارضة، بهياكلها الحالية وأساليب عملها، فاعلاً ثانوياً، أو حتى هامشياً، موجود فقط على الأوراق، ومن خلال الفعالية السياسية البائسة التي تديرها الأمم المتحدة عبر مبعوثها غير بيدرسون المسمّاة “اللجنة الدستورية”، والتي وصل الإسفاف بها إلى حدود عقد جولة كاملة عن طول علم سورية وعرضه ولون النجوم بداخله ومساحة المستطيلات التي يحتويها العلم! استتباعاً لذلك، سيكون مشروعاً السؤال عما إذا كانت هذه المعارضة قادرةً على التقاط الفرصة التي تهيئها متغيراتٌ دوليةٌ وصراع دولي كبير، تقع سورية، بجيوبوليتيكها وجيوسياستها، في قلبه، ولديها من الأدوات ما يؤهلها لإحداث تغييراتٍ مهمةٍ لصالح القضية السورية، التي يبدو أنها باتت مجرد ورقة في التجاذبات الإقليمية؟
الواقع، لدى المعارضة مفاتيح كثيرة تؤهلها لولوج أدوار أكثر أهمية إن عرفت كيف تستخدمها، وذلك يستلزم إعادة هيكلة مؤسّساتها وتفعيل سياساتها وتوسيع تمثيليتها في المرحلة الأولى، إثبات فعاليتها من خلال قدرتها على الوحدة وضبط مفاصل العمل المسلح وربطه بالجانب السياسي، وأخذ مسافة من الدول الداعمة والراعية لها، بحيث لا يقتصر دورها على أنها ورقة مساومة لدى الأطراف الداعمة.
ليس المطلوب من المعارضة لإثبات فعاليتها شن حرب على قوات الأسد وداعميه الروس والإيرانيين، فهذا يحتاج ضمان وجود جهة خارجية داعمة، وطرف إقليمي لديه كامل الاستعداد للقيام بدور العمق الإستراتيجي لهذه المقاومة، وهي ظروف وإمكانات غير متوفرة في اللحظة، وخصوصا اللاعب الإقليمي المساند، والمقصود هنا تركيا التي ليست على استعداد للتضحية بالمكاسب التي هيأتها ظروف حصار الاقتصاد الروسي، والذي قد تجني من ورائه ثروات طائلة. .. لكن، من الممكن للمعارضة التفكير من خارج صندوق الأدوات التي عملت بها سنوات طويلة، والتعاطي بمرونة مع ما هو متاح وممكن. وهنا يأتي التوافق مع الإدارة الذاتية الكردية أحد الخيارات الممكنة، وتشكيل قيادة موحدة والتوصل إلى توافقات وطنية مشتركة. وسيمنح ذلك المعارضة، بجناحيها العربي والكردي، هوامش أوسع للمناورة، ويزيد من حجم المؤيدين والداعمين الإقليميين والدوليين، كما سيمنح المعارضة بشقيها، السياسي والعسكري، إمكانات تحرّك أكبر.
تتأتّى أهمية هذا الخيار من احتمالية تحوّل سورية قريبا إلى احدى أهم ساحات الصراع الغربي مع روسيا، وربما الإقليمي ضد إيران، وهي فرصةٌ لن يمكن الاستفادة منها إذا لم يكن هناك طرف محلي، لديه شرعية المقاومة، ويمتلك البنى الجاهزة لاستيعاب هذا الدعم، وهياكل سياسية لديها القدرة على تمثيل قضية السوريين.. فهل تفعلها المعارضة؟
المصدر: العربي الجديد