بعد قمة النقب: هل يتشكل نظام “شرق أوسطي جديد”؟

طارق فهمي

تبقى الفكرة قائمة في ظل عدم انعقاد القمة العربية وانعدام وجود فرص حقيقية لتوافقات متماسكة. مع انتهاء قمة النقب، التي ضمت وزراء دول مصر والإمارات والمغرب والبحرين وإسرائيل والولايات المتحدة، طرح سؤال مهم مرتبط بما هو قادم من الاتجاه إلى نظام شرق أوسطي جديد، على أنقاض ما بقي من النظام الإقليمي العربي، وفي ظل غياب الرؤية العربية الراهنة الجامعة، والتي كان من المفترض أن تقف حجر عثرة في مواجهة ما سيجري من تطورات محتملة.

تخوفات أميركية

تضاربت الأهداف الرئيسة لكل طرف مشارك في قمة العقبة، وهو ما يثير تساؤلاً حول هدف كل طرف، مع تأكيد أن الإدارة الأميركية هي من جمعت هذه الأطراف في توقيت له دلالاته، وفي ظل مرور 43 عاماً على توقيع مصر وإسرائيل معاهدة السلام، وهو ما يؤكد أن إدارة واشنطن لا تزال تعمل في اتجاه الوساطة العربية – الإسرائيلية، على الرغم من عزوفها منذ وصولها إلى البيت الأبيض عن التدخل في مسارات عمليات التطبيع، وتركت الأمور على ما هي عليه، ولم تكلف نفسها بالتدخل إلا بعد المواجهات بين حركة “حماس” وإسرائيل، فزار وزير الخارجية بلينكن المنطقة، وتجول في الأراضي الفلسطينية والأردن ومصر وإسرائيل دون أن يقدم رؤية أو تصوراً.

هذه المرة التي يأتي فيها وزير الخارجية الأميركي بلينكن للمنطقة مرتبطة في الأصل بتخوفات أميركية من أن تقدم دول عربية كبرى، مثل مصر والسعودية والإمارات، لبناء شراكات حقيقية وجديدة تتجاوز ما هو ماضٍ من علاقات، وجاء بلينكن برسالة مهمة بتأكيد شكل وحجم الشراكة، وهو أمر سيأخذ بعض الوقت لإثباته في الفترة المقبلة، وهل ستتعامل العواصم العربية عن قناعة أم ستعود إلى الدائرة الأميركية، على الرغم من أن الإدارة بدأت منذ أسابيع، وبعد بدء الحرب الأوكرانية الروسية في توجيه رسائل مهمة بقبول إمداد مصر بصفقة “أف 15” التي رفضتها أعواماً طويلة.

طبيعة التدخل الأميركي

وفي مقابل الحديث عن الشراكات الممتدة أو الإفراج عن 13 مليون دولار من المعونة العسكرية المجمدة، وهو ما يؤكد أن الإدارة لا تزال تتعامل مع الدول العربية كل على حدة، رفعت مكانة قطر ومنحتها عضوية الحليف من خارج “الناتو”.

ويبدو أن إدارة البيت الأبيض كانت تتخوف من انحيازات عربية مؤثرة، بخاصة مع التحسب لارتدادات ما سيجري في مرحلة إبرام الاتفاق النووي على أمن دول الخليج وزيادة قوة النظام الإيراني واحتمالات تدخله في أمن الإقليم ودعمه اللا محدود للميليشيات الحوثية، وتهديد أمن الخليج العربي ودوله، بدليل زيادة موجة الاستهداف للسعودية بصورة تدفع للتساؤل حول طبيعة التدخل الأميركي، خصوصاً أن إبرام الاتفاق سيعطي لإيران مساحة كبيرة للمناورة والتحرك في مسارات متعددة.

إن الموقف الأميركي المراوغ تجاه كل الدول الخليجية وإسرائيل هو ما جعل تل أبيب تتحدث عن خيارات انفرادية وإجراءات أمنية ممتدة، والعمل على مسارات متنوعة، وهو ما قد يدفعها إلى استمرار الأعمال التخريبية في الفترة المقبلة، وعدم الإنصات للجانب الأميركي في التهدئة مع الانفراد بحق التعامل، والرد في أي وقت وفق حسابات الأمن القومي الإسرائيلي، وهو ما لم يتفهمه الجانب الأميركي على الرغم من التنسيق المستمر والداعم مع تل أبيب، وهو ما جعل الجانبين، الإسرائيلي والخليجي، يعملان على نفس مساحة التفاهم، ما قد يبنى عليه لاحقاً في التنسيق الأمني والاستخباراتي.

واقعياً، لم تعد هناك أية مشكلة بالتعامل مع إسرائيل، والتي أصبحت ضمن القوة المركزية الأميركية مع الحلفاء العرب، ولم تعد هناك تحفظات حقيقية على التعامل، وهو ما يؤكد أن مناخاً جديداً يتشكل، ويرتبط بما هو قادم من تطورات على أمن الإقليم، في ظل حالة التباين بين الدول العربية وإسرائيل من جانب، والولايات المتحدة من جانب آخر، وهو ما سيؤسس لشراكة مباشرة وفقاً لقاعدة المصالح المشتركة، والفوائد المتبادلة التي يمكن أن تعلن عن نفسها في الفترة المقبلة.

استفاض وزير الخارجية الأميركي بلينكن في تأكيد استمرارية اللقاءات والاتصالات الأمنية والاستراتيجية على أساس أن الحدث غير مسبوق في عقد لقاء موسع وحقيقي بين دول عربية وإسرائيل، ولكن هذا الأمر سيحتاج إلى مراجعة حقيقية، فمن المبكر أن تكون هناك نسخة أمنية للتحالف المصري – الأردني – العراقي، أو تحالف إقليمي كامل بوجود إسرائيل، فالقمة عقدت بمن حضر، وانعقادها مهم وفي توقيت بالغ الأهمية.

هل الوقت مناسب لطرح الفكرة؟

لم يحضر الأردن القمة لارتباطات متعمقة بضرورة مشاركة الجانب الفلسطيني، والتقى الملك عبد الله مع الرئيس محمود عباس في التوقيت نفسه، والمعنيّ أن دولاً عربية مهمة مثل الأردن ومصر لن يمضيا في سياق ما يخطط أميركياً، وقد يقبلان بتنسيق مع إسرائيل في إطار ثنائي أو متعدد، وهو ما قد يزعج الجانب الأميركي الذي ما زال يريد الإمساك بعناصر الموقف بأكمله وإدارة المشهد من أعلى في ظل مقاربات أميركية كاملة، وهو ما تدرك أبعاده دول عربية وازنة مثل مصر التي أعلن وزير خارجيتها رسمياً أنه لا تحالف ضد أحد، وأن الأولوية لخيار حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية، فيما تحدثت إسرائيل عن العبقرية الإسرائيلية، ومجالات الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي وغيرها من المجالات العلمية، ولم يكن هناك أي حديث عن الأمن أو السياسة، إنما مجرد عقد لقاءات واجتماعات.

تكرر الحديث الأميركي عن الدعم المنشود فلسطينياً، وتقديم المساعدات والمعونات لإعاشة الشعب الفلسطيني، لكن المشكلة ليست في حلول إنسانية، بل في حلول اقتصادية وسياسية وأمنية والالتزام بمقررات عملية السلام، وإعلان دولة مستقلة تعيش إلى جوار الشعب الإسرائيلي، وبدون ذلك لن تتم أية خطوات متقدمة، وهو ما تدرك تبعاته إسرائيل جيداً، ومن دون حل للقضية الفلسطينية ستصبح اتفاقيات السلام مع الدول العربية في إطارها، وفي نطاق محدد، لأن المعنيّ الحقيقي هو الطرف الفلسطيني وليس أي طرف آخر، ما يدفع الإدارة الأميركية للعمل معاً، ودفع الحكومة الإسرائيلية لاستئناف الاتصالات مع الجانب الفلسطيني، وهي أصلاً كإدارة لم تغلق بعد القنصلية في القدس الشرقية، كما أنها لم تفتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن، الأمر الذي يؤكد أن الإدارة الأميركية لا تزال تتحدث في الأقوال، وليس في الأفعال، ما يدفع للتشكك في تطوراتها وخياراتها السياسية أو الأمنية، ومن ثم فإن أي مقترح ستقدمه بإنشاء منتدى أمني أو مركز تنبيه مبكر، أو آيات للتعاون الاستراتيجي أو غيرها من صور التعاون فوق التقليدي سيكون بالفعل محل نقاش مفتوح ومهم في الفترة المقبلة بين الأطراف العربية وإسرائيل.

في إطار ما يجري سيكون المطروح أمنياً واستراتيجياً بين العرب وإسرائيل مرتبطاً ببناء إجراءات الثقة بين كل الأطراف، مع التشكك من أية تحركات أميركية قد تعجل بتنفيذ صيغ الأمن المشترك والمباشر بين الدول العربية وإسرائيل، بخاصة مع مشاركة إسرائيل في سلسلة مناورات عربية إسرائيلية، وهو ما سيفرض تغييراً في رؤية الدول العربية للمخاطر الإقليمية بعد سنوات من اعتبار إسرائيل دولة عدو إلى دولة يتم استيعاب دورها في نظام أمني شرق أوسطي، كذلك دخول إسرائيل ضمن التحالف الدولي البحري، لمواجهة التهديدات والمخاطر البحرية، وهو ما سيعطي لها دوراً مهماً ومتصاعداً في أمن الموانئ والممرات البحرية العربية، بصرف النظر عن طبيعة وحجم التهديدات، وإقدام تل أبيب على الاستمرار في مفاوضات ترسيم الحدود مع لبنان حول منطقة البلوك 9 بوساطة أميركية، الأمر الذي يشير إلى مسعى إسرائيلي لتعاملات جديدة مع دول الجوار، والتي لا تزال دولة عدو وفي حالة مواجهة مع “حزب الله”.

تدرك إسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة، أن الوقت مناسب لطرح مقاربتها الأمنية والسياسية في أمن الإقليم تخوفاً من إقدام دول مثل مصر والجزائر والأردن والعراق على صياغة مفهوم للأمن القومي العربي، وهو ما برز في فكرة التحالف الثلاثي، ومن ثم يقف في مواجهة ما يجري إسرائيلياً وأميركياً، على الرغم من طبيعة العلاقات الراهنة مع هذه الدول، بل قد يعطل مسار الحركة الإسرائيلية لبناء تحالفات أمنية واستراتيجية جدية تتجاوز الطرح الراهن للأمن القومي العربي، وبقاء مؤسسات العمل العربي المشترك على ما هي عليه بما في ذلك بقاء الجامعة العربية على وضعها الراهن، وهو ما يشجع إسرائيل على الدخول في طرح صياغات ورؤى أمنية حقيقية للتعامل مع المشهد العربي، وفي ظل عدم انعقاد القمة العربية تباعاً، وعدم وجود فرص حقيقية لتوافقات عربية متماسكة، فإن بقاء الأوضاع العربية على ما هي عليه يدفع لتوظيف ما يجري لبناء نظام شرق أوسطي يتجاوز وضع النظام الإقليمي العربي بكل مؤسساته الراهنة حتى ولو جمد عملها أو حركتها أو فاعليتها، وتأجيل عقد القمة العربية في موعدها تباعاً.

المصدر: اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى