التصريحات التي أعقبت انتهاء المباحثات الروسية – الأوكرانية في إسطنبول، لا تشير إلى تحقيق شيء ملموس على طريق وقف الحرب الروسية، لكنها بالمقابل لم تغلق الباب تماماً أمام الخيارات الدبلوماسية. فقد وصف رئيس الوفد الروسي المفاوضات بـ”البنّاءة” في حين كان الرئيس الأوكراني أقل تفاؤلاً حين علق قائلاً: “الانطباعات القادمة من إسطنبول إيجابية، لكنها لا تغطي على أصوات القنابل”.
وبالفعل لم تحدث تطورات ملموسة في الميدان، في الساعات التي تلت انتهاء مفاوضات اسطنبول، باتجاه “تخفيض الأنشطة العسكرية” في محيط مدينتي كييف وتشيرنيغيف على ما ألزم الوفد الروسي نفسه به. وإذا كان لا يمكن الركون إلى وعود روسية بالنظر إلى سجلها الأسود في الإخلال بها وفي الكذب الصريح، سواء بشأن أوكرانيا أو في السنوات السابقة في سوريا، ولكن بالمقابل لا يمكن الركون إلى ما تنقله وسائل الإعلام الأمريكية والغربية التي تحوّلت إلى أجهزة بروباغندا بمناسبة الحرب في أوكرانيا. وفي هذا الوضع من عدم الثقة بالمعلومات لا بد من الانتظار لوقت أكثر لمعرفة ما يحدث على الأرض.
أما بالنسبة للنقاط السياسية التي طرحت في الاجتماع أو حدث “تقارب في الفهم” بين الطرفين بشأنها، فالمعلومات بشأنها شحيحة أيضاً. هناك تخمينات تتحدث عن تراجع بوتين عن أبرز هدفين من أهدافه المعلنة، وهما “القضاء على النازيين” في أوكرانيا، ونزع سلاحها. الطرف الأوكراني بالمقابل لم يعد متمسكاً بطلبه الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، لكنه طالب في اجتماعات إسطنبول بـ”ضمانة” 8 دول لأي اتفاق مع روسيا بينها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وبولونيا وتركيا. بالمقابل أعلنت روسيا أنها لا تعترض على انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي. وقال وزير الدفاع الروسي إن هدف بلاده هو تحرير مقاطعة الدونباس.
أما الرئيس الأمريكي جو بايدن فقد “بق البحصة” كما يقال حين قال إن على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يتنحى! صحيح أنه تراجع عن هذا الكلام لاحقاً وزعم أنه عبر عن “غضب شخصي” ولكن ربما الأصح هو أنه عبر عن التطلعات الحقيقية للإدارة الأمريكية بشأن روسيا، وهي تحجيم العملاق النووي الروسي بما يتناسب مع وزن روسيا الهزيل في ميادين الاقتصاد والتكنولوجيا والرفاه الاجتماعي والنفوذ الأيديولوجي خارج الحدود، باعتبار أن هذا التحجيم هو الضريبة التي يجب على روسيا دفعها عقاباً لها على حربها على أوكرانيا.
الواقع أن تصريح بايدن المشار إليه يعبر عن الدرجة التي بلغها الاستقطاب الدولي بما يتجاوز نظيره طوال فترة الحرب الباردة. ففي تلك الفترة لم تكن القنوات الدبلوماسية تقطع تماماً، كما هي الحال الآن، بين واشنطن وموسكو حتى في أكثر الأجواء توتراً، فكانت مكاسب كل طرف أو خسائره في الحروب الإقليمية الدائرة بالوكالة، تعالج على طاولة المفاوضات بالاعتراف المتبادل لمصالح كل منهما وحدودها. أما الآن فقد حل محل الاتصالات الدبلوماسية التراشق الكلامي عبر وسائل الإعلام.
يمكن الافتراض أن بوتين دخل مرحلة إعادة حساباته في الحرب على أوكرانيا، وربما بدأ يبحث عن مخرج منها بأقل الخسائر الممكنة. ولعل تعثر قواته في الحرب وحجم الخسائر التي منيت بها إلى الآن هما في مقدمة الدوافع لهذه المراجعة. هناك تخمينات بوقوع نحو عشرة آلاف قتيل من القوات الروسية، وعدد غير معروف من الطائرات والدبابات وغيرها من الأسلحة الثقيلة. هذه فاتورة أولية باهظة ليس من السهل ابتلاعها أو تبريرها أمام القسم المؤيد لحرب بوتين من الشعب الروسي، دع عنك القسم المعارض لها منذ البداية ولم تتوقف أنشطته الاحتجاجية ضد الحرب.
العامل الثاني الذي لا يقل أهمية عن الأول، بل ربما يتفوق عليه، هو العزلة الدولية الخانقة السياسية والاقتصادية التي فرضت على روسيا وبدأت نتائجها الكارثية بالظهور. سبق لبوتين أن هدد بالرد على العقوبات الاقتصادية التي وصفها بأنها “إعلان حرب” من قبل الدول الأطلسية، لكنه إلى الآن لم يحوّل تهديده إلى إجراءات عملية، كقطع توريدات الغاز إلى الدول الأوروبية على سبيل المثال. فمن شأن خطوة مماثلة أن تشكل كارثة فورية في الدول المستهدفة. عدم لجوء بوتين إلى إجراءات من هذا النوع هو مؤشر قوي إلى أنه يريد التهدئة ويبحث عن مخرج “مشرّف”، في حين أن واشنطن بصورة خاصة لا تريد منحه هذه الهدية، بل تريد أن تفرض عليه تراجعاً مذلّاً على أمل أن يؤدي هذا الإذلال إلى الإطاحة ببوتين بقوى المجتمع الروسي الذاتية.
لقد تورّط بوتين في مغامرة توهم أنها رابحة لتعزيز مكانة روسيا في النظام الدولي، ففوجئ بالمقاومة الأوكرانية وتوحّد الغرب الأطلسي بقيادة واشنطن في مواجهته. في حين أن روسيا (كانت؟) عضوا دائم العضوية في مجلس الامن، نداً للأعضاء الأربعة الآخرين في “نادي الأقوياء” هذا، ويشكل ثنائياً فيه مع الصين، مقابل واشنطن ولندن وباريس الذين لم يكونوا يوماً جبهة متماسكة لها صوت موحد، فسكتوا على ابتلاعه للقرم وسوريا وبيلوروسيا وكازاخستان. أما الآن فهي مهددة بخسارة كل هذه “المكتسبات” إضافة إلى إخراج قواته الذي لا مفر منه من أوكرانيا.
نلاحظ أيضاً تراجع التهديدات الروسية باستخدام السلاح النووي بعدما ظهر أنها أعطت مفعولاً عكسياً للغاية منها. فلا الدعم السياسي والعسكري لأوكرانيا توقف، ولا أعلنت واشنطن عن الاستعداد للرد النووي على هجوم نووي روسي محتمل، على رغم التهويل في وسائل الإعلام من احتمال تحويل بوتين تهديداته إلى هجوم حقيقي. حصل ما هو أسوأ من وجهة نظر بوتين حين هدد الرئيس الأمريكي بالرد على أي هجوم روسي بالسلاح الكيميائي. فهذا التهديد هو تحدٍّ صريح لبوتين لا يمكنه معه إلا التعقّل والابتعاد عن الألعاب النووية والكيميائية الخطيرة.
الوساطة التركية مهمة لهذا السبب، أي إيجاد مخرج لبوتين أقل إذلالاً مما تريده واشنطن، على أمل أن يؤدي ذلك إلى إنهاء الحرب في وقت قريب. أما تحجيم روسيا في العالم فقد تم منذ الآن.
المصدر: القدس العربي