على وقع طبول الغزو الروسي لأوكرانيا، حضر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى الشرق الأوسط ليشارك في اجتماع في النقب جمع وزراء خارجية مصر والبحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة والمغرب والولايات المتحدة وإسرائيل. لم يكن موقف الدبلوماسية الأميركية في الشرق الأوسط عشية هذا الغزو لتحسد عليه. فبعد كنس الكثير من الفضلات والاخفاقات لإخفائها تحت البساط، كان على بلينكن أن يخوض بتعثر كبير في رمال النقب.
فبعدما قفزت الولايات المتحدة لعقود فوق مصالحها الجيوستراتيجية، وفوق الاعتبارات الاستراتيجية – الاقتصادية الجوهرية لاقتصاديات الطاقة، واستلت سلاح العبث السياسي ومحاولة رسم الإصلاحات الداخلية في الدول العربية، زرعت الكثير الكثير من الشكوك في جدية كل التزاماتها تجاه حلفائها.
وسواء تعلق الأمر بالملف النووي الإيراني أم بالموقف من دور إيران الإقليمي أم في ما يخص مستقبل منظومة الأمن والسلام في الإقليم، أم بالصراع العربي – الإسرائيلي والفلسطيني – الإسرائيلي، أم في ما يخص أمن اقتصادات الطاقة، أم في ما يتعلق بالموقف من الغزو الروسي لأوكرانيا، افترقت الأقوال عن الأفعال بشكل فادح، بل وتناقضت الأفعال بين عشية وضحاها بشكل ينبئ بتداعي مصداقية الدبلوماسية الأميركية إلى حد خطر.
جرى لقاء النقب تحت عنوان كبير “الاتفاق لمجابهة إيران”، وخلق انطباعاً بأن بلينكن سيحمل معه حزمة التزامات أميركية تكرس تحالفات جدية، ولكن من جديد سرعان ما خاب الأمل.
وإذ تحضّر الولايات المتحدة للإفراج عن مئات مليارات الدولارات للخزينة الإيرانية، فإنها لم تحدد كيف ستعمل لمنع تدفقها على برامج التطوير العسكري الإيرانية. بل تثبت الأحداث الراهنة في أوكرانيا كيف يمكن لمجرد التهديد النووي في يد زعامة عقائدية طائشة في موسكو أن يضع العالم أمام خيار القبول بابتزاز العدوان أو الدخول في مواجهة كونية.
كما لم يقدم بلينكن أي تصورات يمكن أن تكون مؤشراً الى تحالف في مواجهة خطر انفلات البرنامج النووي أو الدور الإقليمي الإيراني. فكيف تنوي الولايات المتحدة أن تحافظ على مصالحها في إقليم تشتعل فيه المخاوف من قنبلة إيرانية حاضرة على الرف؟ وكيف ستلجم سباق التسلح المتصاعد والذي سيصبح محموماً لا محالة؟ وما هو دورها فيه؟
يقول الإسرائيليون أنفسهم، إنهم غير قادرين على مجابهة عسكرية شاملة للجم طموحات إيران النووية منفردين. في حين أوضحت الولايات المتحدة أنها لن تتورط في حرب ما لم تقم إيران بالهجوم مباشرة على إسرائيل (وحتى هذه فيها نظر).
كما تصل سياسة إسرائيل بـ”الحرب بين الحروب” الى نهايتها مع إيران، فلم توقف عملياً تطوير البرنامج النووي ولا أخرت جدياً وصول الصواريخ إلى حدودها الشمالية. أما القول إن الولايات المتحدة لن تسمح لإيران بالوصول الى القنبلة النووية فثمة شكوك فعلية في أن مفعول هذا الكلام يصل بالكاد حتى نهاية فترة بايدن. أما بعدها فيخلق ما لا تعلمون!
في المقابل تعمل إيران، وبحسب استراتيجيتها المعلنة على أن تنتصر من دون خوض الحرب المفتوحة على أرضها، بل تخوض كل أنماط الحرب ما دون الحرب المعلنة المفتوحة. وهي بذلك تأمل في تحييد أوروبا وأميركا لتلتهم الدول المدمرة في المنطقة.
ولم تقدم زيارة بلينكن المستعجلة أي التزام أميركي لمعالجة هذه المخاوف أيضاً. وكما نرى، لن تكون لهذا القصور نتيجة إلا إنضاج مجابهة إقليمية على النار. بل توضح نية الولايات المتحدة رفع اسم “الحرس الثوري” عن قوائم الإرهاب كم هي اعتباطية ومطاطة، صكوك الاتهام كما صكوك البراءة الأميركية من الإرهاب. كما توضح أيضاً فراغ “الضمانات” التي تقدمها لدول المنطقة.
ليست ثمة إجابة واضحة عن ذلك لا قبل النقب ولا بعده، ليبدو القول إن الولايات المتحدة ستتصدى لنشاط إيران التوسعي الإقليمي، كمن يشتري السمك في الماء. فحتى هي لا تتصدى للصواريخ الإيرانية التي تنهال عليها في العراق وسوريا، وعلى “الحلفاء” وفي لبنان واليمن.
لم يفوت بلينكن فرصة زيارة النقب كي يزور رام الله. وتلك إشارة هامة في الشكل، ولكنها للأسف خرجت من دون التزامات ولا خطط. ويذكر العرب جيداً شطح جورج بوش الأب بالوعود حول عملية سلام مجدية، في سياق حرب الخليج، وها نحن نشهد نهايتها الفادحة.
والآن، إذ تستمر الحكومة الإسرائيلية للمرة الأولى في تثبيت موقف صارم من عدم التفاوض مع الفلسطينيين على أي شيء ذي مغزى، تستسلم الإدارة لهذا الموقف عملياً، رغم استمرارها في الحديث عن “أهمية القضية الفلسطينية”.
لكن من يقرأ التاريخ والأحداث القريبة جيداً، يدرك نهاية سياسة إسرائيل بـ”الحرب بين الحروب” مع الفلسطينيين أيضاً. فثمة مؤشرات فاقعة بأن انفجار العنف بين الفلسطينيين وإسرائيل صار وشيكاً ونوعياً، لن تحله بضعة مليارات من الشيكلات للوسط العربي، في وقت تنفذ “داعش” عمليتها الثانية داخل أراضي الـ48.
وبالطبع لم يشارك بعض من أهم العرب في اجتماع النقب، ليس لأنهم لا يرغبون في التصدي لنشاط إيران التوسعي في الإقليم، بل لأنهم لا يشترون السمك في هذه الماء. فغياب المملكة العربية السعودية ليس فشلاً فحسب، بل قصور جوهري في السياسة الأميركية. وفي المقابل، ورغم المساهمة الإيجابية والدور التنسيقي الهام الذي لعبه الأردن بقدر إمكانه لتهدئة الوضع الفلسطيني، لكن غياب هاتين الدولتين العربيتين يشكل بالطبع ضعفاً يوضح عجالة التحضير وابتسار التدبير وشكلية الهدف.
نعم، ثمة تراجع جذري في القدرات الردعية للولايات المتحدة لمصلحة خصومها في الإقليم. وبالمقابل يتشقق تدريجياً “المشهد الاستراتيجي الآمن” الذي تصوره العسكرية الإسرائيلية لشعبها. وتكتمل بذلك صورة حروب آتية قد تغير مشهد الصراع، ومن لا يزال سابحاً في العسل، فلينظر الى أوروبا بين البارحة واليوم.
أما مصر من جهتها، فقد سارعت للتأكيد أنها لم تشارك في اللقاء ضد أي طرف (بمعنى ليس ضد إيران)، فأين ذهب عنوان اللقاء؟ بل أكدت أيضاً أهمية المسار الفلسطيني، فيما تستمر إسرائيل في تأكيد عدم التفاوض مع الفلسطينيين.
أمام كل هذا التلميع والترقيع والتناقض والاختلاف، لا ينبئ الإرباك الأميركي بأكثر من شهر عسل قصير فوق رمال تتحرك تحتها براكين حروب مقبلة في الأعماق، وينتظرها خصوم أميركا على الأبواب. هذا، خلافاً للأوهام التي يخلقها فيض الابتسامات وبطر الفنادق في النقب.
المصدر: النهار