تختلطُ أمورُ القوى المتنازعةِ في العالم وتتأرجحُ في هذه الأيام، وفي وسط هذا التخبطِ ينقسمُ الناسُ كما أرادوهم إلى قسمين “مع وضد”. لكن إذا أردْتَ الانحيازَ لطرف فعليك الاختيار -مع الأسف- بين كاذبٍ وأشدَّ كذبًا، أو بين فاسدٍ وأكثرَ فسادًا، بين مُدمِّرٍ وأكثرَ تدميرًا … وهذا يبدو للعاقل المتأملِ نهايةً بائسةً للبشرية بالمعنى الإنساني الذي سوَّقَهُ المفهومُ البشريُّ عبر العصور…. ربما يبدو الفرقُ الوحيدُ هذه الأيامَ في توقيت توصيل عناصرِ الأزمةِ والصراعِ إلى اللاعبين والمراقبين في زمن اشتعالِ الأزمةِ لا بعد نهاياتها وإغلاق صفحاتها، وهذه ربما نقطةٌ محوريةٌ في حيرة الحائرين وتوهان أصحابِ الرأي. فغالبًا ما اصطفَّتِ البشريةُ مع المنتصر وأيديولوجياتِه دون اعتبارٍ لمسائلَ مثل الأخلاقِ أو الإيمان أو الإنسانية بمعناها المجرد. والتاريخُ ربما كان يكتبه المنتصرون! أما اليومَ فالتاريخُ يشاركُ في كتابته المنهزمون لأول مرة! ويحاول من يجلسون على الهامش -من أمثالنا- أن ينظروا لمسار مختلفٍ تمامًا -ولأول مرة- لا من قصاصات ورق بل من ثمن غالٍ مدفوعٍ أيقظت حساباتُه القديمةُ ثوراتِ الربيعِ العربي!
في خطاب أسامةَ بنِ لادن بعد أحداث 11 سبتمبر قال عبارتَه الشهيرة:” أقول إنّ هذه الأحداثَ قد قسمتِ العالمَ بأسره إلى فسطاطين!: فسطاطِ إيمانٍ لا نفاقَ فيه!، وفسطاطِ كُفْرٍ!! ” لكن ما أخطأ به بنُ لادن أن الفسطاطين كانا ومازالا فسطاطَ كفرٍ وفسطاطًا أقلَّ كفرًا. يبدو أن تقسيم العالم لفسطاطين هو ديدن الفاشيةِ بغض النظر عن أيديولوجية وحجة كلِّ طرف.
لقد قال بوش عند غزوه العراق “إن الدولَ التي ليست مع الولاياتِ المتحدة فهي ضدها”. كذلك قال فولوديمير زيلينسكي للمجلس الأوروبي “قرر مع من أنتDecide who you are with- “، مشيرًا إلى خيار أصبح من الصعب تجنبُه بشكل متزايد، حيثُ إن العنفَ المطلقَ لغزو روسيا لأوكرانيا يبلور انقسامَ العالم إلى معسكرين.
إن سيكولوجية التوافقِ مع ما حولك والنظرةَ الفاشيةَ المستقطبة، يحللُها الفيلسوفُ السياسي تاكيس فوتوبولوس، في تعليقه على رواية المطابقِ (1951 The Conformist) لـ ألبرتو مورافيا Alberto Moravia؛ “هي صورةٌ جميلةٌ لهذه الحاجةِ النفسية للتوافق وأن تكونَ” طبيعيًّا “على المستوى الاجتماعي بشكل عام، وعلى المستوى السياسي بشكل خاص “. تعمل الأزمةُ الأوكرانية هذه الأيامَ على توحيد الديمقراطيات في أوروبا والمحيط الهادئ، ولكنها تعقد العلاقاتِ مع الصين والهند ودول الخليج!
على مدى العقدين الماضيين، كان موقعُ الصين يتكرّسُ كقوّةٍ اقتصاديّةٍ تحقّقُ قفزاتٍ غيرِ مسبوقةٍ في النموّ، وكذلك موقع روسيا يتكرّس أيضًا إنّما كقوّة عسكريّةٍ يُعادُ بناؤها. لكنْ كان واضحًا أنّ النجاحَ الروسيّ يفتقر إلى أساس اقتصاديٍّ، فيما النجاحُ الصينيُّ يكاد لا يملك إلاّ الأساسَ الاقتصاديّ. الأوّلُ قوّةٌ عضليّة، في عدادها الترسانةُ النوويّةُ الأكبر في العالم، يقابله اقتصادٌ ريعيٌّ يعيش على ما يبيعُه من موادَّ أوّليّةٍ من غير إسهامٍ ملحوظٍ في الاقتصاد المعلوماتيّ وما بعد الصناعيّ. أمّا الثاني فقوّةٌ اقتصاديّة جبّارة، إلاّ أنّها غيرُ مرفقةٍ بأمثلة وصورٍ ونماذجَ نرى من خلالها العالم وأنفسنا، وعلى ضوئها تُصنع مُخيّلاتُنا ورغباتُنا. وعلى رغم التقدّم التقنيّ الهائل الذي أحرزته الصين، امتدادًا لثورتها الاقتصاديّة، فإنّها لا تزالُ تقف بعيدًا جدًّا من الولايات المتّحدة. أمّا في الإبداع التقنيّ تحديدًا، فلا تزال بلدانٌ كسويسرا والسويد والولايات المتّحدة وبريطانيا وكوريا الجنوبيّة تسبقُ الصينَ. أما دولُ الخليجِ فهي تتقلب تحت ضغوطِ المصالحِ الضيقة للأسر الحاكمة بين الأقوى الذي يمكن أن تستندَ عليه؛ وإن بالغ بفاتورته، أما إبداعُ وسلوكُ طريقٍ ثالثٍ خاصٍّ بها أو الاستناد إلى قوة ذاتيةٍ أو شراكةٍ حقيقية مع محيطِها وعمقِها البشري فليس ديدنَها، والدليلُ رفضُها دفع 11 مليار دولار لنظام صدام، بينما دفعت للغرب ما يفوق 80 مليارًا في حرب الخليج الثانية! إيران كذلك دولةٌ فاشيةٌ تستخدم الذكاءَ السياسيَّ والإرادةَ الصُلبةَ للأحلام الإمبراطورية في الاصطفاف الفاشيِّ مع من يخدم أجندتها مستخدمةً الشعاراتِ الزائفةَ والقفز بحرية -يحسدها عليها أصحابُ الحالة السائلة – بين معسكري الشيطانِ الأكبرِ والشيطانِ الأصغر!
بطبيعة الحال فإنّ حدةَ القبضةِ الصينيّة تبقى أقلَّ تهديدًا لسواها من مثيلتها الروسيّة، والسببُ بسيط: كونُ الاقتصادِ مصدرَ قوّةِ الصين. والاقتصادُ يحضّ تعريفًا على أخذ مصالحِ الآخرين واعتباراتهم في الحساب، خصوصًا منهم «الشركاء الغربيّين». أمّا من يكون الجيشُ مصدرَ قوّتِه، فأغلبُ الظنِّ أنّ ردعَه يبقى صعبًا، وأنّه قد يذهب، غير هيّاب، إلى نهايات العنف كما ينظر المفكر والفيلسوف الروسي أليكسندر دوغين” Aleksandr Dugin النصر أو انهاء العالم”.
من الناحية الاقتصادية، فإن موقفَ بكين لا معنى له على الإطلاق بالنسبة للغربيين، فأغلبُ التحليلات تتجهُ الى أن الصينَ لن تُقزِّمَ تجارتَها مع الولايات المتحدة وأوروبا لصالح علاقات اقتصادية مع روسيا التي تزداد فقرًا. لكن تصلبَ الخطوط بين المعسكرين العالميين المتعارضين يوحي بأن الآمالَ في أن العولمةَ ستنشر السلامَ من خلال الاعتماد الاقتصادي المتبادل لم يكنْ لها أساسٌ من الصحة. الآن وبعد أن بدأ إطلاقُ النار، فإن التأثيرَ الخلافي للأيديولوجية السياسية يثبت أنه أقوى بكثير.
يوحي الكاتب مورافيا Alberto Moravia في روايته الشهيرة المطابق إلى وجود صلةٍ قويةٍ بين القمع الجنسي والفاشية، وهذه فكرةٌ مهمةٌ تحتاجُ إلى الدراسة والتوسعِ في مجتمعاتنا الإسلامية.
لقد قامت ثوراتُ الربيعِ العربي للقضاء على الجهل، والفقر، والقهر الاقتصادي والاجتماعي والغيبوبة الفكرية التي صنعَتْها أنظمةٌ عسكريةٌ مدعومةٌ من الغرب في زمن كان السلاحُ بمعناه التقليدي هو العنصرَ الحاسمَ في الصراع، لنتفاجَأ بعدها في زماننا القريب أن القهرَ والجهل بدأ يُمارَسُ ممن يدعي الثورةَ على هذه الأنظمةِ الفاشية ليُبقيَ هذه المجتمعاتِ المحرومةَ نفسَها تحت الضغوطِ نفسِها، ولكن بعناوين مرحلةٍ جديدة من الانفتاح والحرية، والتقدم، الديمقراطية، وبراغماتية الإمكانيات (كما قال السيسي: ما “تعرفوش” اننا شعوب فقيرة اووي).
في النهاية المنهجُ الثالثُ الذي ندعو إليه وننظر له دائمًا، شعارُه “هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ” وهو لفسطاط المؤمنين حقًّا الذين يعملون الأسباب لحيازة مفاتيحِ النصرِ، وعلى رأسها “الصدقُ” مع الذات ومع من حولك، ثم ترك “الفوضى الموازنةِ” تأخذ دورَها من صاحب الأمر الذي وعد وعدًا لا يخلفُه أبدًا: “وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ” (القصص-5).
والله من وراء القصد
27/03/2022