في يوم الجمعة ٢٥ اذار ٢٠١١ نهضت من فراشي مبكرًا، رغم أني لم استطع النوم طيلة الليلة السابقة من القلق والتوتر الذي لم أشعر بمثله في حياتي كانت ليلة اول جمعة بعد جمعة الكرامة التي شهدت مظاهرات في محافظة درعا و كانت هناك تجهيزات و استعدادات حثيثة لخروج اول مظاهرة في مدينتنا بعد صلاة الجمعة و لكن في نفس الوقت كان هناك تجهيزات كبيرة من قبل الأجهزة الأمنية استنفرت فيها كافة أدواتها و كامل أزلامها لإشاعة جو من الرعب المهول قبل أيام لتثبيط الهمم في النفوس التواقة للتمرد و الحرية..
للحقيقة و الأمانة يجب أن نقول أن تلك الحملة الاستباقية المكثفة قد أضفت ظلالا من الشكوك حول إمكانية خروج المظاهرة حتى عند اكثر الناس تفاؤلا.. فرغم الجو العام المتأثر بدفق الثورات العربية و الجهود الحثيثة المخلصة التي بذلها شباب من مختلف التوجهات في سبيل تنظيم المظاهرة و رفع الهمم و إثارة الحمية الوطنية و الإنسانية والدينية.. حيث كان العنوان الأبرز للتظاهرة هو النصرة و الفزعة لمحافظة درعا.. إلا ان الشك و التوتر كان طاغيا حتى اللحظات الأخيرة قبيل حدث لم تشهد مدينتنا له مثيلا منذ عقود طويلة..
حاولت التواصل مع الأصدقاء الموجودين في الداخل و الاطمئنان عنهم لأن اكثر ما كان يقلقنا هو أن يقوم الأمن بضربة استباقية باعتقال الناشطين المنظمين قبل خروج المظاهرة أصلا..
كانت الاتصالات صعبة
جداً والحذر من المراقبة جعلنا نتواصل بمكالمات قصيرة جداً لا تتجاوز ثلاث ثواني او رسائل مختصرة مرمزة..
مر الوقت طويلا جدا حتى جاء موعد صلاة الجمعة التي يسبق موعدها في المكان الذي أقيم فيه موعدها في سورية بساعة تقريبا
انهيت الصلاة وتسمرت خلف جهاز اللابتوب ومرت أول ساعة كأنها دهر كامل
و بعدها دقائق لا أنسى -طوال حياتي- لسع عقاربها
و لا شيء.. لا شيء.. كل الاتصالات انقطعت.. ولا أخبار..
هرشت رأسي آلاف المرات قبل ان تذيع قناة الجزيرة خبراً مقتضباً يفيد بأن مظاهرات مناصرة لدرعا ومناهضة للنظام قد خرجت في عدة مدن سورية دون ذكرها..
و مر دهر من الزمن قبل أن تصلني رسالة من صديق فيها كلمة واحدة فقط : الله
لم أفهم ماذا يقصد بها
حيث انه لفظ الجلالة يطلق في السراء والضراء.. و حالة التوتر لم تكن تسمح بالتفكير السليم.. ولم تسمح لطيور التفاؤول بالتحليق..
و مر زمن لا يمكن قياسه بميزان الدقائق والثواني حتى وصلني فيديو قصير جدا -لا يتجاوز عشرين ثانية- من صديق لمظاهرة في مدينة دوما
ثم بعدها بقليل بدأت أمطار من الفيديوهات عبر شبكة الإنترنيت و قنوات التلفزيون لمظاهرات في عدة مدن أكثرها مفاجأة كانت في اللاذقية وأكثرها تنظيما كانت في داريا.. ولكن لا شيء عن مدينتنا.. لا شيء عن أصدقائي سوى تلك الرسالة اليتيمة التي تقلق أكثر مما تطمئن..
وبعد أكثر من ساعتين كان جسدي قد تخشب فوق جهاز اللابتوب عندما رفع أول فيديو للمظاهرة التي طالما حلمت أن أكون في قلبها بين الحناجر التي تصدح عطشى للحرية و الكرامة و العزة في جمعة حملت اسمها
و حق لهؤلاء الأبطال أن يشعروا بالعزة و الكرامة.. و هم يتحدون الخوف والقمع.. ويصنعون المستحيل.. فاهتزت الأرض من وطأة أقدامهم و ارتجت من صدى أصواتهم..
بينما كنت أنا أبكي بصمت وحيداً على رصيف الغربة التي لم اشعر بقساوتها كتلك اللحظة متخشباً خلف جهاز أصم أبكم.. لا يسمع صراخي من وجعي و ألمي من هول ان تأتي اللحظة التي طالما كنت أحلم بها، و عندما جاءت من أقصى المدينة تسعى.. كنت أنا عنها من الغائبين
فوا غربتاه.. وا غربتاه.