شيءٌ من الخوف فيلمٌ مصري من إنتاج عام 1969، ومن إخراج حسين كمال، وإنتاجِ صلاح ذو الفقار، وهو مأخوذٌ عن قصة قصيرة للكاتب الكبير ثروت أباظة، ولكنّ الفضلَ الأكبرَ في الإسقاطات السياسية هي نتيجةُ التعديلاتِ التي أدخلها الشاعرُ عبدُ الرحمن الأبنودي على السيناريو.
تدور القصةُ في قرية مصرية حيثُ يفرضُ عتريسُ (محمود مرسي) سلطتَهُ على أهالي القريةِ ويفرضُ عليهم الإتاواتِ. كان عتريسُ يحب فؤادةَ (شادية) منذ نعومةِ أظافرة ولكن فؤادةَ تتحدى عتريسَ بفتح الهويس الذي أغلقه عقابًا لأهل القرية، ولأن عتريسَ يحبُّ فؤادةَ لا يستطيعُ قتلَها فيقررُ أن يتزوجَها. ولا يستطيع حافظُ (محمد توفيق) والدُ فؤادةَ أن يعصيَ أمرَ عتريس فيزوجَها له بشهادة شهودٍ باطلة. بسبب هذا الزواجِ الباطلِ يتصدى الشيخُ إبراهيمُ (يحيى شاهين) لعتريس فيقتلُ عتريسُ محمودَ ابنَ الشيخِ إبراهيم.
يأتي مشهدُ النهايةِ بمشهد جنازةِ محمود، وفيها يردد الشيخُ إبراهيم جملتَه الشهيرةَ «جوازُ عتريس من فؤادةَ باطلٌ» ويردد كلُّ أهلِ القرية وراء الشيخِ إبراهيم ويتوجهون لمنزل عتريس الذي لا يستطيعُ مقاومةَ كلِّ أهلِ القريةِ مجتمعين فيحرقُ أهلُ القرية منزلَ عتريس وهو بداخله وتكون هذه نهايةَ عتريس جزاءً لأفعاله.
الفيلمُ به الكثيرُ من الرمزية، فعتريسُ يرمز للحاكم الديكتاتور، وأهلُ القرية يرمزون للشعب الذي يقع تحت وطأة الطاغية. فؤادةُ ترمز لمصرَ التي لا يستطيع الدكتاتورُ أن يهنأَ بها.
لكن ما علاقةُ الفيلمِ بعنوان المقالِ؟ تدور هذه الأيام حواراتٌ وجدالاتٌ كثيرةٌ عن معارضات ثوراتِ الربيع العربي التي خانتِ الثورةَ وسقطت في فخ من كان من المفترض أن تقاومَه، لكن يبدو لي أن المشهدَ أعقدُ من ذاك التبسيطِ بل أكاد أجزم أن الديكتاتوريين والساقطين من مؤسسات المعارضةِ هم أوضحُ من هم داخل المعادلة، لذلك استلزم الأمرُ إسقاطاتٍ لكي نفهمَ المشهدَ بشكل أعمقَ وليكونَ توجهُنا ورأينا سديدًا!
لنأخذْ شخصياتِ “شيء من الخوف” ونسقطْها على المشهد الحالي: “عتريس” يمثله الأنظمةُ الديكتاتوريةُ ومؤسساتُ المعارضات الكرتونية التي تُدارُ بنفس دينامياتِ السلطة حيث الأنا وتضخمُ الذاتِ والمصالحُ الضيقةُ تملأُ المشهد. محمودُ ابنُ الشيخِ إبراهيم يمكن أن يمثلَه دمُ و آهاتُ وأعراض المعتقلين والمعذبين والمهجرين والثائرين الذين خسروا كلّ شيء وفي أحيان كثيرة لأسباب يكادون لا يحيطون بها أو يفهمون أغلبَها. أما أهلُ القرية فهم شعوبُنا العربيةُ الصامتة التي تنتظر من يوقظُها من سباتها العميق وقد اصطفت في طوابير الذلِّ سنين طويلةً، تؤثر التثاقلَ إلى الأرض، عن ثورة غضب على من يسرقُها ويذلُّها ويستحيي نساءَها ويقتل أطفالها. لكن يبدأ المشهدُ يزداد تعقيدًا عندما نحاول إسقاط شخصيةِ حافظ (محمد توفيق) والدِ فؤادةَ، فهو شخصيةٌ تدعو للحيرة فعلى الرغم من محبته لابنته لكنه تحت ضغط “شيء من الخوف” يبيعها بعقد مزور إلى الطاغية ,وهنا أستطيع أن أضع كثيرًا من منظري الثورات وأدبائها وكتابها والفاعلين من خلف الكواليس الذين يتشدقون بحب الوطن والمعايير الثورية ويبيعوه زورًا بأبخس الأثمان رغم أنهم من المفترض أن يكونوا حائطَ الدفاعِ الأول , وهم بهذا يشتركون في جريمة قتلِ محمودٍ ابنِ الشيخ إبراهيم ويحملون جزءًا لا يُستهانُ به من دم الشهداء والمعتقلين وآلام المهجرين وأولئك أعرف منهم الكثيرَ , وهم في الظاهر ثوريون , أخلاقيون، لكن في أفعالهم يتركون القواعد الأساسية ويتمسكون بالقشور فهم يصلون ويكذبون , يدفعون الصدقاتِ ويسرقون , ينادون بالمبادئ ويخونون , يبيعون ويشترون , يظنون أنهم يحيوا ويميتون, يلعنون بوتين في سوريا ويدافعون عنه في أوكرانيا …!
يبقى من المشهد ما افتقدته أغلبُ ثوراتِ الربيع العربي ولم تعوضْه كلُّ التيارات الإسلامية وهو الشيخ إبراهيم الذي لا يبيع دينَه بدنيا غيره وميزانُه ثابتٌ واضح، قد يكون سكت دهرًا لكنه غضبَ لله في لحظة صدقٍ مع نفسه ولم يبيعْ ميزانَ الحقِ الذي استؤمن عليه بدم ابنِه، فكان بحق من أيقظ أهلَ القرية من سباتهم العميقِ، وأنقذ شرفَ وطهارة فؤادةَ الذي باعه أبوها رخيصًا تحت عنوان نعيشه إلى يومنا هذا “شيء من الخوف”. نعم المسألة هي بحق شيءٌ من الخوف على طعامنا وأولادنا وأموالنا ومكاسبنا ومكاناتنا التي فقدناها بالتدريج على قارعة طوابير الذل عبر سنين!
أسماء عابرة كما هي وَدًٌ وَ سُوَاعٌ وَ يَغُوثُ وَيَعُوقُ وَنَسْرٌ, إن سقطت سيأتي غيرُها لأن المنظومةَ والأدمغة التي أنشأتها تستطيع بسهولة أن تستبدلَها , لذلك سيأتي قريبًا جيلٌ يدرك تلك المعادلةَ فيقضي على عبادة الأصنامِ قبل تكسيرها , ويحطم المنظومةَ ويصنع منظومةً بديلةً لا تختلف بالشكل والماركة بل بالمضمون وطريقة العمل ,عندها يصبح الأمر عملًا بسيطًا وعتريس لا يحرك ساكنًا وهو يموت حرقًا من جموع أهل القرية !
أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا
شيء من الخوف في الدنيا لكن هناك الكثير من الخوف في الآخرة، فكن رجلًا.