أنهت ثورتنا السورية العظيمة عامها الحادي عشر، والعالم كله حائر حين تخلى عن ثورة الشعب السوري، بالوقت الذي يرى ويشاهد من جديد القتل بيد المافيا الروسية بزعامة بوتين في غزوها لأوكرانيا، إنها نفس الهمجية والفاشية التي انتصرت للنظام السوري الكيماوي القاتل، حين فشل ذاك النظام الطائفي المستبد مع إيران المجرمة وميليشياتهما الطائفية بالقضاء على الثورة السورية وتصفية آثارها، جاء تدخل بوتين غازياً بجيشه المجرم نهاية أيلول/سبتمبر 2015 زاعماً بأن تدخله لمدة لا تتجاوز 3 أشهر، وإلى الآن لم تنته مهمته المرسومة دولياً؛ وجاء غزوه أخيراً ومنذ أكثر من 3 أسابيع لأراضي أوكرانيا تحت ذرائع كاذبة أيضاً، وما كان هدفه في حالتنا السورية وفي أوكرانيا إلا منع الحرية والحياة المنشودة، بوجود الكثير من الفوارق الجيوسياسية والاجتماعية المعروفة بين الحالتين.
دون الغوص في تفاصيل ومجريات ثورات الربيع العربي المعروفة، فإن عملية التغيير في وضعٍ عربي خضع لعقود طويلة للاستبداد، ومع وضع أنظمة تكلست في السلطة ولديها امتيازات شتى؛ ومن ثم، فإن محاولة تغيير كل ذلك بربيع واحد، وهمٌ كبير، فلذلك جئنا على ما يحدث منذ 11 عاماً بتعبير السيرورة الثورية العربية، أي إن ما بدأ في 2011 هو سيرورة طويلة الأمد ستستمر لسنوات عديدة ولعقود من الزمن، وستمـر كما كل السيرورات التاريخية بمراحل متعاقبة من المد والجذر، مراحل لصعود ثوري ومراحل لردة مضادة، وحروب أهلية، وغير ذلك، كما في السيرورات الثورية الكبرى في التاريخ.
إن ربيعنا السوري واجه نظام وظيفي مجرم، مستبد لفترة طويلة جداً، مغطى بحلف صهيو- أميركي تخدمه مافيات دولية وإقليمية تمثلت بنظامي إيران وروسيا؛ ومع ذلك فنحن الآن أمام تعمق للجذور الأساسية التي ولدت الانفجار الثوري الكبير، والتي هي قبل السياسة، الشروط الاجتماعية والاقتصادية، فمنطقتنا العربية عامةً كانت تعاني من جمود اقتصادي، ومعدلات نمو أكثر انخفاضاً من أي منطقة أخرى في آسيا وأفريقيا، ما ولّد أعلى نسبة بطالة شبابية ونسائية في العالم، ولذلك فإن هذا التفاقم هو الذي أوصل الأوضاع في المنطقة إلى حد الانفجار، هذا الانفجار كان يحتاج إلى شرارة، وأتت الشرارة من تونس التي سبقتها شرارات، بمعنى أنه حصلت جملة توترات اجتماعية وانتفاضات محلية قبل الانتفاضة الكبيرة؛ والشيء نفسه يقال عن مصر التي شهدت صعوداً مميزاً للنضالات العمالية في السنوات الخمس السابقة للثورة في 2011، وبالتالي فإن المؤشرات كلها كانت قائمة أيضاً في سورية؛ والسؤال الكبير لم يكن لماذا انفجر الوضع في 2011، بل لماذا تأخر إلى هذا الحد؟ نظراً إلى أن الشروط التي تراكمت في السنوات السابقة، وصلت قبل وقتٍ طويل إلى مستوى لا يطاق.
لكن الأوضاع الثورية والانفجارات العفوية الشعبية شيء، والثورات الناجزة شيءٌ آخر؛ فحتى تستكمل ثورة المعنى العميق في تغيير النظام وتحقيق الطموحات العميقة، فإن الأمر يتطلب وجود تنظيم للحركة الشعبية، بحيث تكون هذه الحركة قادرة بوجود أطر تمثيلية وقيادية لها على إتمام التغيير المنشود، وهذه هي المعضلة الكبرى لدينا وفي السيرورة الثورية العربية، كما في كل السيرورات الثورية في التاريخ؛ فالموضوع الأساس هو وجود أطر قيادية قادرة على إدارة هذا التغيير؛ إنه السؤال الكبير لدينا وفي المنطقة، ومن هذه الناحية!
والتغيير الجذري للنظام، أي التغيير الاجتماعي والسياسي للدولة في المنطقة العربية عموماً وفي سورية خاصةً، يتطلب كسر أدوات القمع التي تستند إليها هذه الأنظمة، ولكل جهاز مسلح؛ ما يضعنا أمام معضلة إما الصدام الذي يؤدي لحرب أهلية طاحنة، كما رأينا وعايشنا، أو استسلام الحركة الشعبية وبالتالي إجهاض أي آمال تغييرية، أو تمكُّن الحركة الشعبية من كسب قاعدة الجيش، وهذا ما فشلت في تحقيقه ثورتنا السورية، على الرغم من بعض الانشقاقات عن الجيش، إلا أن الجسم الأساس للجيش بقي تحت يد النظام الطائفي المستبد، مع الأخذ في الحسبان التدخل الخارجي، الإيراني ومن ثم الروسي، الذي حمى النظام من السقوط والذي كاد أن يحدث عام 2013، وكذلك في عام 2015 كان في ورطة حقيقية، فجاء التدخل الخارجي الروسي المباشر لإنقاذه واستخدم حق النقض ‘الفيتو’ 16 مرة ضد مشاريع القرارات المتعلقة بالثورة السورية التي طُرحت على مجلس الأمن، مما أدى إلى تعطيل ممنهج لدور المجلس، ولقطع الطريق على جميع محاولات الوصول لتسوية عادلة، وبالتالي استمرار المعاناة المتفاقمة والمتصاعدة للشعب السوري، قتلاً واعتقالاً وتعذيباً وتشريداً ونزوحاً، مع ما رافق ذلك من استخدام نظام الأسد الإرهابي للأسلحة المحرمة دولياً وبالخصوص السلاح الكيمائي، وإقدامه على ارتكاب جرائم الحرب من تهجير قسري وإفقار وسلب ونهب فضلاً عن التعذيب وقتل المعتقلين وتدمير المخابز والمستشفيات وحرق المحاصيل الغذائية والتهجير.. إلخ وكلها جرائم ضد الإنسانية، وما يزال حتى الآن مُفلِتاً من العقاب.
شعبنا السوري الثائر يتعاطف مع الشعب الأوكراني هذه الأيام، تعاطف ذي طعم خاص وفظيع في مرارته، فالأسلحة التي تستخدم لتدمير حُلمَه بالحرية الآن هي نفس الأسلحة التي استخدمها الروس بأوامر بربرية من بوتين ومازالوا منذ 7 سنوات على شعبنا السوري بوحشيةٍ لا يمكن تصورها لمنعه من نيل حريته أيضاً، وقد تفاخر بوتين وأذنابه- كما تفاخر بتدمير غروزني في الشيشان، كما في جورجيا وكازاخستان- بأنه جرب 320 نوع من الأسلحة الجديدة والفتاكة ضد شعبنا السوري والبنية التحتية في أربع أنحاء سورية، غير آبهٍ بمجتمعٍ دولي قد أدار وجهه عن مأساتنا وما زال.
وباعتبار التغيير الثوري المطلوب لدينا هو تغيير اجتماعي اقتصادي سياسي ديمقراطي، مع فصلٍ للسياسة عن القداسة، وأن تكون المرأة ذاتْ، لها دورها الحقيقي وفق شرعة حقوق الإنسان؛ إنه التغيير الذي يلتقي مع آفاق جملة من القوى، من الليبرالي سياسياً والإصلاحي اقتصادياً واجتماعياً إلى التقدمي، علماً أن هذه التسمية الأخيرة صارت عند البعض جزءاً من الأنظمة خاصةً في حالتنا السورية، وهي حالة واضحة؛ فهذه الجملة من القوى يجب أن تجد لها طريقة انتظام فيما يتعلق بقدرة الحراك الشعبي على إيجاد الأطر القيادية الديمقراطية، التي تستطيع كسب ود واحترام وقبول الأطراف الدولية الفاعلة، وصولاً لاستصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة يفضي بإحالة مرتكبي جرائم الحرب في سورية إلى محكمة الجنايات الدولية، وفتح تحقيق فيها باعتبارها جرائم ضد الإنسانية، ارتكبها النظام السوري المارق شبيه الصهاينة في جرائمهم، وشريكاه الروسي والإيراني، أو إنشاء محكمة خاصة لأجل ذلك.
وإن كانت أوكرانيا الآن في وضعٍ صعب بمواجهة الغزو الروسي، فإن شعبنا السوري قد عانى من وضعٍ أصعب طيلة 11 عاماً من الاحتلالات المشابهة وازدواجية المعايير لأميركا والغرب الاستعماري مُلطخة بعنصرية لا تخطئها العين مع اللاجئين ملوني البشرة، مع غطرسة روسية وصينية، فضلاً عن السيولة السياسية فى النظام الدولي المتهالك؛ لعلها فرصة أن تقف الأمم المتحدة أمام مسؤولياتها، وأن تعلن البدء بإجراءات تنفيذية حقيقية تنهي مأساة شعبنا من نظام الجريمة والقتل الكيماوي، أسوةً بما تقوم به حالياً تجاه أوكرانيا.
المصدر: اشراق