جاءت الحرب الروسية على أوكرانيا بصفعة ساخنة وغير متوقعة لبعض الليبراليين العرب؛ صفعة من قوتها أسقطت كثيراً مما بنوه بأيديهم في السنوات الماضية. على مدار العقد الأخير حاول المنتسبون إلى “نادي كارهي فلسطين” أن يمحوا القضية الفلسطينية من الوجدان العربي ويسفِّهوا أمرها؛ تارة يقولون إن هذا صراع على أساطير دينية لا معنى لها في الواقع المعيش ولا تسبب إلا الدم، وأخرى يجادلون أن المسجد الأقصى ليس المقصود به ذلك الموجود في فلسطين، فلا معنى حتى بالمنسبة للمسلمين لكل هذا التقديس لفلسطين، فضلاً عن دعواتهم المتكررة للتطبيع مع إسرائيل، لأن المقاطعة سلوك صبياني ولا معنى لها، ودعواتهم للشعب الفلسطيني لنبذ المقاومة المسلحة ومحاولة أخذ حقوقهم من خلال الحكمة والعقل والدهاء.
باختصار صار سلوك نادي “كارهي فلسطين” في الوطن العربي أوضح وأشرس ولا يحمل أي حياء، يقولون بصراحة إنه لا نفاذ إلى المستقبل إلا بالتطبيع مع إسرائيل والعودة إلى طاولة المفاوضات، رغم أنه حتى من هذا المنظور البرغماتي فأدنى نظرة فاحصة على اقتصادات الدول العربية التي طبَّعت مع إسرائيل يخبرنا بوضوح أن التطبيع كان في صالح إسرائيل لا في صالحها (كان الناتج المحلي في إسرائيل عام 1979، 16.8 مليار دولار وكان المصري 18 ملياراً، وفي 2018 أصبح الإسرائيلي 337 مليار دولار، بينما المصري 250 مليار دولار).
عودًة إلى الحرب الروسية الأوكرانية، فقد جاءت هذه الحرب لتنفي كل ما بناه هؤلاء من حجج على مدار سنوات، فها هو مثلهم الأعلى في الحرية والرفاهية والتسامح (الغرب) يحظر روسيا من مسابقة الأغنية الأوروبية “يوروفيجن”، وينقل نهائي دوري أبطال أوروبا من موسكو ويمنع روسيا من المشاركة في كأس العالم للتزحلق، ويجرد بوتين من الحزام الأسود الفخري في التايكوندو، ويزيل المنتخب والدوري المحلي والأندية الروسية من سلسلة ألعاب “FIFA”، ويفكر جدياً في إلغاء تدريس مؤلفات أديب روسي- ربما أهم أديب في التاريخ- لا ناقة له ولا جمل في الحرب لأنه ببساطة مات منذ أكثر من 100 عام، فيودور دوستويفسكي، بالإضافة إلى سلسلة عقوبات قاسية لم تستهدف فقط النظام وإنما الثقافة والإنسان الروسي.
الأدهى من كل ذلك أن الشركة المالكة لفيسبوك وإنستغرام ستغير قواعدها بشأن خطاب الكراهية وتسمح لمستخدمي المنصتين في بعض البلدان بالدعوة إلى العنف ضد الجنود الروس والدعوة لقتل بوتين والرئيس البيلاروسي لوكاشينكو، تلك هي نفس الشركة التي كانت تحذف حسابات العرب إذا ما عبَّروا عن غضبهم بشأن القضية الفلسطينية أو دعموا المقاومة ضد الاحتلال في أحداث الشيخ جراح الأخيرة بل حذف فيسبوك منشورات صحفيين فلسطينيين لمجرد أنها كانت ترصد انتهاكات جيش الاحتلال رغم احتوائها فقط على معلومات دون أي خطاب كراهية، ومن أكبر المفارقات حين حذفت تلك الشركة صفحة “حركة فتح” الرسمية عام 2017 لمجرد أنها نشرت صورة ياسر عرفات حاملاً بندقية (رغم أنه الرجل الذي عقد السلام مع إسرائيل).
ها هو الغرب، المثل الأعلى لليبراليين العرب، الذين وصف أحدهم قبل ثلاث سنوات الثقافة العربية بأنها ثقافة موت أثناء شرحه لماذا ينبغي إقامة سلام دافئ مع إسرائيل، ها هو الغرب ينتفض كطفل هائج حين احتُلت رقعة صغيرة من أرض تابعة له، لم يستطِع الصبر حتى شهراً لينطلق مكسراً كل أصنام القيم التي أجبرنا على عبادتها، ونحن نصبر على احتلال أرضنا منذ 75 عاماً.
المدهش هنا أن كييف التي لا يطيق الغرب احتلالها ويعتبر التعدي عليها مسوغاً لأخذ كل هذه الخطوات كانت حتى وقت قريب جداً ثالث أهم المدن السوفييتية، وقد كانت ذات يوم عاصمة الإمبراطورية الروسية، وروائع الأدب الروسي القديمة (قبل إقامة الاتحاد السوفييتي) كان أبطالها دائماً يتحركون في مسرح يتسع إلى كييف وما بعدها باعتبار كل ذلك هو الوطن الروسي، وهذا ليس من آلاف السنين (كما في حالة ما يروج له بعض الليبراليين العرب بغير دليل عن أحقية اليهود التاريخية في فلسطين) وإنما منذ سنوات قريبة للغاية، مع ذلك لا يستطيع الآن مفكر أو سياسي غربي أن يخرج مجادلاً بأن كييف تنتمي تاريخياً وثقافياً للرقعة روسية ويبني على ذلك محاججة سياسية (بل حتى أشهر رموز اليمين في أوروبا الذي كانوا أصدقاء مقربين لموسكو صاورا اليوم يُدفعون إلى التبرؤ من أي علاقة سابقة معه).
من اليوم لن يستطيع الليبرالي العربي أن يقول لنا حين ندعم المقاومة في فلسطين إن المقاومة تحتوي على رجال طائفيين (فقد شاهدنا كيف احتفى الغرب بالمقاتلين الأوكرانيين وفي طليعتهم من يحملون صور هتلر صراحة)، ولن يستطيع أن يدافع عن فيلم أميرة الذي حوَّل غرف نوم أبطالنا من الأسرى في إسرائيل إلى مواد للفانتازيا الجنسية بذريعة حرية الفن (فها هي مهرجانات الفنون بل حتى لعبة فيفا تتخذ إجراءاتها المشددة ضد عدو الغرب الروسي) ولن يستطيعوا إخبارنا أن المقاطعة سلوك صبياني لا تأخذه إلا الشعوب المتخلفة، فها هم قادتهم في الغرب يقاطعون عدوهم، الذي اعتدى على أرض تابعة لهم كانت تابعة له لمئات السنين، حتى في مسابقات التزحلق على الجليد.
صورة من فيلم “أميرة”
الأمر إذاً ليس نزعة طفولية لشعوب لم تنضج بعد، وليس بسبب الإسلام وتراثه (الذي يكرهه بعض الليبراليين ويعتبرونه سبب كل بلاء نعيشه)، الأمر يتعلق بأن كل أمة محترمة لم تفقد بعد إيمانها بنفسها لا تقبل أن تنتهك أرضها وتحتل، وتعلم جيداً تبعات ذلك على كل مجالات حياتها، فالأمة المهزومة التي لا تستطيع تحرير أرضها لن يكون لها صوت في المجتمع الدولي الدارويني، وسيشعر شعبها بالهزيمة والدونية، ما يؤثر بكل تأكيد على قدراته الإبداعية وأدائه الاقتصادي، وستصبح أرضه كما يحدث في كل البقاع المهزومة والمنتهك كرامتها في العالم ساحة مفتوحة لنمو النزعات والأفكار المتطرفة (تماماً كما كان إذعان ألمانيا الاقتصادي والسياسي في الحرب العالمية الأولى أرضاً خصباً لنمو النازية)، وربما لم يسمع هؤلاء بأن الرئيس كينيدي كان قد هدد الروس بإقامة حرب عالمية ثالثة في حال وضع الاتحاد السوفييتي صواريخ له في دولة كوبا، لأن هذا النصف من العالم وفقاً للعقيدة الأمريكية هو فضاء أمريكي- رغم أن نقل الصواريخ كان سيتم وفق اتفاقية بين دولتين مستقلتين لهما شرعية دولية وليس بزرع دولة على أراضيك للتخلص من مشكلة أوروبية كما في الحالة العربية- فلا ينبغي لأي قوة في العالم أن تضع فيه أي سلاح، ولم يخبر أحد أمريكا حينها أن عليها التعايش مع الصواريخ السوفييتية كما يخبرونا بأن علينا التعايش مع الأسلحة النووية الإسرائيلية على حدودنا.
يجهل الليبراليون بطبيعة نزعتهم الفكرية الكثير من العلوم، فهم يرفعون شعارات خاوية براقة عن السلام والمحبة تمنعهم من أي بحث عميق، وواحدة من المعارف التي يجهلونها هي نظريات السياسة الدولية، ومن ثم فهم يتصورون احتلال فلسطين أمراً عرضياَ تافهاً ومجرد قصة فارغة تستمد الحماس من تراث دموي فاسد (يرون ذلك في التراث الإسلامي لكنهم لا يرونه في اليهودي)، وينبغي علينا تخطيها لنفكر في مشاكلنا اليومية، يجهل هؤلاء أن كل إنجاز حضاري في العالم تم بسبب قصة، المال نفسه الذي يحبونه حباً جماً ويقيمون كل تحرك سياسي من خلال مقدار الربح الاقتصادي الذي يحققه هو إذا تأملته ليس أكثر من مجرد قصة؛ ورق مطبوع لا معنى له اكتسب قيمته من إيمان كل سكان الكوكب به فأصبح ذا قيمة ومعنى وصار يشكل مسار حياة البشر، الدول نفسها هي محض قصة، تخيل لو استيقط غداً سكان أي دولة وقرروا أنهم لن يؤمنوا بهذه الدولة بعد اليوم لن تصير لمؤسسات تلك الدولة أي قيمة لا الشرطة ولا مباني المحافظات ولا جهات إصدار جوازات السفر.
وقصتنا نحن هي فلسطين، لطالما كان وجود هذا الكيان الاستعماري عقبة قبل كل شيء في سبيل تحرر وتطور بقية البلاد العربية، ومن ثم وحتى بالحسابات العقلية فمحاربة الاحتلال هي القصة التي تجمعنا، وهي القصة الوحيدة التي نستطيع من خلالها أن نعبر إلى مستقبل أكثر رحابة، لأنها وقبل كل شيء القصة التي نشترك في الإيمان بها، وهذا أول ما يكسبها قيمتها.
المصدر: عربي بوست