يكاد العالم كله يتساءل عما يدور اليوم في رأس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعد إقدامه على غزو أوكرانيا، مستنداً إلى دوافع قومية معلنة أقلها الأمن الروسي وأعلاها حرارة غيرة على الأوكرانيين من أصل روسي الذين تصدى بوتين لحمايتهم ممّا سماها الإبادة والاضطهاد على يدي حكومة كييف.
كلا الأمرين يتبناهما بوتين دون تردد وبعقيدة راسخة غير ملتبسة، فهو أبعد ما يكون عن القبول بمصير الدول المفككة الذي يقول إن الغرب يريد أن تسير روسيا عليه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبالمقابل هو لا يقبل إلا أن يكون لاعباً كبيراً بين أولئك الذين يحرص جميع مسؤولي الدولة الروسية على نعتهم بـ ”الشركاء الغربيين“ في تذكير دائم ومستمر بأن روسيا تريد الشراكة لا التبعية.
نيويورك تايمز ومعها القليل من المنابر التقطت مبكراً ”رابطاً“ مّا يوصل ما بين تفكير الرئيس الروسي وفلسفة واحد من أشهر المفكرين الروس الذين تركوا آثارهم في مناخ صعب طغت عليه الماركسية، إنه إيفان إيلين الفيلسوف الفاشي الأكثر شهرة. وليس من دون معنى أن يتردد على لسان بوتين الكثير مما تركه إيلين، أفكار وقواعد ونظريات لم تغب عن قاعات الكرملين ولا عن اجتماعات مجلس الأمن القومي الروسي.
انتشرت كتب إيلين بعد انهيار الشيوعية في روسيا، وأعيدت طباعتها وتوزيعها بشكل واسع، ليس هذا فقط، بل حرص سيد الكرملين على إعادة الاعتبار لإيلين واسترداد جثمانه من مدفنه في سويسرا، وأمر بأن يقام له ضريح في قلب موسكو وزاره مرتين ووضع الزهور بين يديه.
تأثير إيلين على بوتين انتقل إلى من حوله، مثل رئيس المحكمة الدستورية وبطريرك الكنيسة الأرثوذكسية، وكذلك الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيدف الذي كان ينصح طلابه بقراءة كتبه، وأما وزير الخارجية سيرغي لافروف فقد بات، هو الآخر، يسلّح تصريحاته بالمزيد من أقوال الفيلسوف الروسي المكتشف حديثاً لدى النخبة الحاكمة في الكرملين.
تصدير ثورة إيلين
أفكار إيلين التي صنّفت فاشية، تبدو أبعد من كونها حزمة من التعصب، بل هي تحاول أن تتصدى لفهم الطبيعة البشرية بعمق، تلك الطبيعة التي رآها إيلين مجبولة بالشر أساساً، فهل كان إيلين فاشياً حقاً كما يوصف وهو الذي قال إن الفاشية ”فيض من الوطنية التعسفية يفتدي به الفاشي نفسه“؟
اعتقد إيلين أن الشعب الروسي وحده هو القادر على تخليص البشرية. فالتاريخ كلّه، كما ينقل عنه الكاتب تيموثي سنايدر أستاذ علم التاريخ بجامعة يال، مجرّد عار، أما الحل فروسي مسيحي خالص.
ولد هذا الفيلسوف المثير للجدل عام 1883 وكانت أبحاثه المنشورة تشكو من فشل القدر في مهمة تدبير العالم. ومع أن المناخ في روسيا ما بعد الثورة البلشفية لم يكن مناخاً دينياً إلا أن أفكار إيلين دفعت القيادة الشيوعية إلى نفيه في عام 1922 خارج روسيا، وفي ألمانيا تحوّل إلى آلة مدافعة عن الفاشية الموسولينية والنازية والعنف السياسي. وسجّل في تدويناته أن الطبقات الوسطى ومعها الأحزاب السياسية وكذلك المجتمع المدني تمظهرات صريحة للشر، بحكم كونها تشجّع على تطوير شخصيات متعددة لكن في سياق ”هوية واحدة“ ضمن المجتمع.
رأى إيلين أن السياسة يجب أن يكون هدفها قهر الفردية، نحو تأسيس مجتمع متجانس كامل. كان شديد العداء للنموذج الديمقراطي الغربي. ليس هذا وحسب، بل إن إيلين رسم سيناريو كاملا للمستقبل الروسي، بدستور مقدّس فاشي، يقوم عليه ”دكتاتور وطني“ يستلهم روح الأمة الروسية. ذلك الدكتاتور هو المعنيّ بتركيب الدولة وهياكلها، وتعيين الموظفين. في خيال إيلين لا مشكلة بالانتخابات، لكن من الأفضل أن تكون شكلية بإشراف الدكتاتور نفسه. أما الأصوات وصناديق الاقتراع فقد قال عنها إيلين “يجب علينا رفض الإيمان الأعمى بعدد الأصوات وكذلك بدلالتها السياسية“.
وهنا يتذكر المرء عدد المرات التي انتقد فيها بوتين النظام الديمقراطي الغربي، والكيفية التي شجّع بها تحطيم ذلك النموذج ووأد جميع الحركات التي سعت لتطبيقه، علاوة على دعم المستبدين وصناعتهم، من رمضان قديروف إلى بشار الأسد وما بينهما من قوالب متكررة، حتى باتت حركة إيلين الفكرية التي يتبناها بوتين أشبه بثورة يجري تصديرها بشكل يومي، لتدمير الديمقراطية الغربية بما تعنيه من قيم عامة. ولم يعد الأمر مقتصراً على تصميم النموذج الداخلي الروسي بما حمله من تحطيم لكافة الأحزاب المعارضة وملاحقة المناوئين واتهامهم بالخيانة ومحاولة اغتيالهم، وصولاً إلى تقنين بقاء بوتين في الحكم ”مدى الحياة“.
حرب العقول
لكن هل اقتصرت عقيدة الكرملين حالياً على إيلين وحده؟ يضيف البعض إلى فكر الفيلسوف الروسي مجموعة من الأفكار المحافظة والتقليدية التي يمكن اعتبارها نظرية تحمل اسم «الطريق الروسية» تعتدّ بالقومية السلافية، وتخطط لمستقبل مختلف لأوراسيا.
”الطريق الروسية“ خليط معقد من أفكار إيلين وأفكار الفيلسوفين الروسيين، نيكولاس برديائيف وليف جوميليف، حول الطبيعة الرسالية للحضارة الروسية ومنطلقاتها الثلاث؛ الطابع الإمبراطوري لروسيا، وكون العقيدة الروسية قائمة على فكرة العدالة الإلهية، ما يتيح لها التدخل خارج مجالها الإقليمي في مهمات مقدسة، أما المنطلق الثالث فهو التشبّث بالقيم المحافظة المتصلة بالفرد والأسرة والطبيعة. وكل هذا يفترض وجود مجال حضاري وإقليمي متجانس يضم روسيا وآسيا الوسطى، بحيث تضمن لروسيا مصالحها الحيوية.
ويفسّر مجمل المحتوى الفكري لما سلف دافعاً قوياً يرسم المسار الروسي على كافة الصعد، ليس في أوكرانيا وحدها، ما يجعل مما يصدر عن روسيا أكثر من مجرد قرارات اعتباطية يقودها الحكم الفردي وردود الفعل. لكن هذا ليس كل شيء.
ألكسندر دوغين ليس شبحاً قادماً من الماضي مثل من سبق ذكرهم من المؤثرين الكبار في تفكير الكرملين، هو حي يعيش بيننا متمتعاً بشعبية واسعة، وينتج أفكاراً تتصل بهذه اللحظة، وسبق له وأن وضع العشرات من الكتب في مجالات مختلفة كالتاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة والجيوبولتيك.
بتسع لغات يتقنها دوغين، الذي يوصف من قبل الروس بأنه ”راسبوتين بوتين“، يمارس هذا الفيلسوف تأثيره ليس على الرئيس الروسي وحده، بل على النخبة الحاكمة وعلى الأوساط الروسية المختلفة، بالكاريزما التي يتمتع بها، وبأسلوبه الصدامي المميز.
يطرح دوغين مشروعه الأكثر شهرة والذي منحه اسم ”نوماخيا“ مفسراً إياه بأنه مشروع يقوم على ”دراسة الثقافات والأنظمة الفلسفية والفنون والأديان والسمات النفسية وخصائصِ الحضارات الإنسانية، بغرض تشريح جميع الشعوب، القديمة والحديثة، المُتطوِّرة للغاية والبدائية، والمُتقدّمة تقـنياً وتلك التي تفتقرُ إلى لغة مكتوبة“.
هدف دوغين من ذلك الخروج بخلاصة تثبت أنه لا يمكن مقاربة وتقييم أيِّ ثقافةٍ بطريقة هرمية، وترسيمها على أنها ”متطوّرة أو مُتخلّفة“، ”حديثة أو سابقة للحداثة“، ”حضارية أو متوحّشة“. هذا ينتج مبدأً مختلفاً، فهو سيعني أن الثقافات مغلقة بشكل أو بآخر، وأن التقييم المسؤول كما يقول دوغين ”لأيّ ثقافةٍ بشريةٍ يجبُ أن يكونَ من داخلها، ومن قِبَلِ مَن ينتمونَ إليها، ومن دونِ فرضِ تحيّزات ٍخارجيةٍ في تأويلِ تلك الثقافات“. أليس هذا تفكيراً انعزالياً صريحاً؟
”نوماخيا“ غودين التي تعني ”حرب العقل“ يقول عنها صاحبها إنها تتضمن حقيقة أن ”كُل ما يتعامل معه الإنسان ليس الأشياء أو العالم المُحيط، بل فقط الأفكار. ولأننا نعيش في الأفكار، فنحن أنفسنا عبارة عن أفكارٍ، وكل المواجهات والمُشكلات والتحالفات والمُصادفات واللقاءات وكُل المُجريات الدرامية هي موجودة في عالم العقل. وعندما نقول إننا سنُحارِب أحدهم أو سنبني هذا النوع من الحضارات أو نقوم بإصلاح ديني مّا فإننا دوماً نتعامل مع أفكار“.
ولأن دوغين يقصف بذلك كل المسلّمات، فإنه يصل إلى أنه لا وجود أساساً للحقب الحضارية، ومن بينها هذه الحقبة التي نعيش فيها، أي الحضارة الغربية، وكل ما نتج عنها من منتجات فكرية ومدنية، مثل ”حقوق الإنسان“ وغيرها.
جريمة الغرب
تكاد فلسفة دوغين تكون ثمرة ناضجة لأفكار من سبقوه من المفكرين الروس المذكورين في هذه السطور، فالعالمية التي يدعو إليها تعني بالنسبة إليه ألاّ نتعامل فقط مع الغرب الليبرالي، بل على العكس تماما نجده يقول “نريد العودة إلى القيم التقليدية، فالتقاليد ليست الماضي، التقاليد هي الأبدية“. أما الليبرالية فهي بلاء عالمي يدمِّر كُل أنواع الحضارات ويدنّسها قبل ذلك، فما يسمونه بـ“القوانين العالمية” هي قِيَم غربية، خاصة بأهل الغرب وحدهم، أهل الغرب الذين لا يعرفون الآخر. ويعلل ذلك أن ”الحَداثة الليبرالية الغربية ليست إلا جزءا من هويّتهم، لقد ارتكبوا جريمة قتل في بداية عصر التنوير بحق ثقافتهم، حين قطعوا جذورهم والآن يُحاولون قطع جذور الآخرين“، وهذه النبرة تكاد تتطابق مع نبرة بوتين في جميع إطلالاته الأخيرة.
غير أن دوغين لم يأتِ إلى هذه اللحظة صدفة، فقد كان مروره بعلوم الفلك والسحر وعبادة الشيطان والنازية، مع مساهمته في وضع البرنامج السياسي للحزب الشيوعي الجديد بقيادة غينادي زيوغانوف، ردّ فعل على الثقافة السوفييتية الضاغطة على الجميع، معبراً له نحو النوماخيا.
كل تلك الأفكار تحوّم فوق رأس بوتين من حول قباب الكرملين الملونة، والرئيس الروسي الذي بات يعتبر نفسه مخلّصاً للأمة الروسية يسير على نهجها وبحذافيرها، في ما يبدو أنه عودة للأيديولوجيا إلى موسكو الباردة بعد سنين من غياب الخيمة الثقيلة التي مثّلتها الماركسية.
المصدر: العرب